أحدث المشاركات
صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 13

الموضوع: نص كتاب: تجربة القصة القصيرة في أدب محمد جبريل

  1. #1
    شاعر
    تاريخ التسجيل : Mar 2005
    المشاركات : 1,000
    المواضيع : 165
    الردود : 1000
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي نص كتاب: تجربة القصة القصيرة في أدب محمد جبريل


  2. #2
    شاعر
    تاريخ التسجيل : Mar 2005
    المشاركات : 1,000
    المواضيع : 165
    الردود : 1000
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي


  3. #3
    شاعر
    تاريخ التسجيل : Mar 2005
    المشاركات : 1,000
    المواضيع : 165
    الردود : 1000
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي


  4. #4
    شاعر
    تاريخ التسجيل : Mar 2005
    المشاركات : 1,000
    المواضيع : 165
    الردود : 1000
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي

    الفصل الأول
    الدراسة الموضوعية
    .......................
    أصدر محمد جبريل سبع مجموعات قصصية، نراه فيها يُحاول أن يغوص في أعماق الإنسان باعتباره فرداً في المجتمع، لـه أحلامه الخاصة، ومأساته المتفرِّدة. وبقدر ما نرى أن قضايا الوطن هي ما يشغله دائماً في إبداعه، وأن الوطن يبدو، وينبض، ويتشابك، ويتجلّى في مجموعاته القصصية، فإننا نستطيع أن نقول أن رؤياه الإبداعية تسبح في فلك المُعاناة الإنسانية، وتُسلِّط الأمر على صغائر الأمور ودقائقها، لتضر منها القضايا الوطنية والإنسانية الكبرى التي تشغله. ومن خلال قراءة لأعماله في القصة القصيرة نرصد خمسة ملامح موضوعية في تجربته الإبداعية، هي:
    1-المطاردة.
    2-التمرد.
    3-المقاومة.
    4-انتظار الآتي
    5-القاع الاجتماعي.
    وسنتناول ذلك من خلال النصوص القصصية في مجموعاته السبع المنشورة.
    ***
    1-المطاردة:
    يظهر البطل المطارد في عدد كبير من قصص محمد جبريل القصيرة، وقد يكون مُطارَداً من الآخر، أو العدو الذي يتربّص به ويقف في مُجابهته، أو الغريب، أو الظروف البيئية، أو الأسرة. ومن هذه القصص: "تكوينات رمادية"، و"التحقيق"، و"الرائحة"، و"تلك اللحظة من حياة العالم".
    *في قصة "تكوينات رمادية" نرى الأب يحس أنه مضطهد ومُطارد من قبل الخواجة "ليفي" (الذي سافر فيما بعد إلى إسرائيل ضمن الأفواج الأولى لليهود المصريين)( )، وتتضح هذه المطاردة للبطل من خلال الوصف التالي:
    "فاجأنا أبي ونحن حول الطبلية ننتظر عودته ـ بخطوات متعجلة، ووجه يكسوه قلق واضح، وضع الصحيفة وكيس البرتقال على المائدة، وعاد إلى الباب يستوثق ـ أعلى السلم ـ مما رآه. لم أكن رأيت أبي في تلك الصورة من قبل، تنقّل بعينين مرتعشي الأهداب بين باب الشقة والنافذة المطلة على المنور، ولوحة الكانفاة المعلقة على الجدار، وحركة مفيدة ـ داخل المطبخ ـ تعد الطعام، ونظراتنا القلقة، والقط السيامي تحت الطبلية. غلب التوتر محاولته لعناق السكينة. جلس على الكنبة الاستامبولي. أطال التحديق في اللاشيء حوله. في اللحظة التالية تبدّد السهوم، فانتفض، ووقف، ودار حول نفسه، وتحرّكت شفتاه بكلمات لم ينطق بها.
    أزاح له نافع وشاكر مكاناً بينهما، فجلس. أمسك بيديه طرف الطبلية كأنه يهم بقلبها"( ).
    ومن الحوار نعرف لماذا هو مُطارد؟ وممّن؟ إنه مُطارد من اليهود فهو يعلم كل شيء عنهم، وصدره مليء بالأسرار .. وهم يخشون أن يُذيعها:
    ـ هلْ رأيتم ما رأيْت؟
    تطلعنا بأعين متسائلة:
    ـ الخواجة ديفيد ـ مساعد ليفي ـ يختبئ في بئر السلم! ..
    قلت في ضيق:
    ـ ولماذا تتصوّر أنه يختبئ؟ ربما يريدك في أمر ما.
    ـ أنت لا تفهم شيئا .. منذ أيام أتابع تنفيذ المؤامرة.
    ـ ضد من؟
    ـ ضد أبيك!"( ).
    إن هذه الفقرة السابقة تُرينا تربُّص العدو بنا. وليس من المهم أن أكون مسؤولاً كبيراً أو متنفِّذاً مهما حتى يتربصوا بي. وإنما هم (أي الأعداء) يقفون في وجه كل فرد منا يمتلك الوعي الصحيح، ويفهم قضايا وطنه. وكأن هذه القصة تُشير ـ فيما تشير ـ إلى أن الفن قد يكون وسيلة لاكتشاف الحقيقة، وهنا "يغدو العمل الأدبي في حقيقته شكلاً من أشكال المعرفة، ووسيلة لعرض نوع من التبصر في وجه من وجوه الوضع الإنساني، لا يتيسّر التعبير عنه بأي وسيلة أخرى"( ).
    ونعرف في نهاية الحوار لماذا يُطاردون أبا السارد:
    "استطرد وهو يهش ـ بعصبية ـ ذبابة حطت على أنفه:
    ـ صدري مليئة( ) بالأسرار .. وهم يخشون أن أذيعها ..
    تغلف صوته بحشرجة قاسية:
    ـ لقد قرروا قتلي"( ).
    لكنَّ الأب لا يستسلم لمُطاردة العدو لـه، "والسلاح الذي يملكه الأب في مواجهة المؤامرة هو الوعي الذي يتمثل في مثابرته على مُراجعة القواميس الإنجليزية والفرنسية وتدوين الجمل والملاحظات "فنسيان اللغة / الوعي تهديد بنسيان ما يعرفه من أسرار. ويأتي موت الأب تأكيداً لصحة مخاوفه، ووجود مؤامرة حقيقية تُهدد الأب / الوطن"( ).
    ويرسم السّارد صورة البطل المُقاوم الذي يُريد أن يُحافظ على وعيه من خلال امتزاج الحوار بالسرد على النحو التالي:
    "لزم أبي البيت، بعد أن تسلَّم مُكافأته، يكتفي بالتنقُّل بين غرفته والصَّالة، ويشغل نفسه بمراجعة قواميس اللغة الإنجليزية والفرنسية، ويُدوِّن جملاً ومُلاحظات ..
    لمجرَّد الرغبة في قطع الصمت الذي كان يُعمِّقه مضغ أفواهنا للطعام، سألتُ أبي:
    ـ لقد تقاعدت عن مهنة الترجمة .. فلماذا تقسو على نفسك بالمُذاكرة؟
    قال في استغراب:
    ـ التقاعد لا يعني أن أهجر اللغة ..
    وعلا صوتُه في تغيُّر مُفاجئ:
    ـ إذا نسيتٌ اللغة، نسيـتُ كل ما أعرفه من أسرار .. وهذا ما لن أمنحه لهم! ..
    وصرخ في نظراتي الدّاهشة:
    ـ أنت لا تفهم شيئاً .. لم تعد حياتي تهمني .. المهم أن أرد المؤامرة"( ).
    إن الوعي الذي يتملَّكه البطل المُطارَد هو أولى خطوات المٌقاومة.
    *وفي قصة "التحقيق" نجد فيها البطل صحفيا (اسمه محمد يوسف المصري)، والبطل مُطارد دون ذنب جناه، ويقوم الحوار في القصة بالدور الرئيس في إبراز المطاردة، حتى ينتهي البطل في خمسة عشر يوماً.
    ويبدأ اليوم الأول وتبدأ القصة هكذا:
    «فلمّا كان اليوم الأول، أشار رئيس نيابة أمن الدولة إلى سكرتير الجلسة ..
    فتح السكرتير المحضَر ..
    أدنى رئيس نيابة أمن الدولة كرسيا، أسند قدماً عليه، والقدم الأخرى على الأرض. اتجه إلى المتهم الجالس، بنظرة تخلو من تعبير محدد:
    ـ اسمك؟
    ـ محمد يوسف المصري ..
    ـ عمرك؟
    ـ 24 سنة ..
    ـ عملك؟ ..
    ـ صحفي ..
    ـ ردك على الاتهام الموجه إليك.
    ـ لم يُوجَّه إليَّ اتهام ما.
    ـ فلماذا أتوا بك إلى هنا؟
    ـ لا أعرف .. كنت نائماً لما أيقظتني زوجتي .. الحقيقة أنني استيقظت على الأصوات التي ملأت الحجرة .. أربعة رجال أصروا أن أُرافقهم، دون أن يُتيحوا لي ارتداء ملابسي .. احتجزت ثلاثة أيام في حجرة خالية .. ثم أتوا بي إلى هنا! ..
    أنزل رئيس نيابة أمن الدولة قدمه من على الكرسي، وفَرَدَ قامته. أملى على سكرتير الجلسة الكلمات التالية:
    «أنكر المتهم توجيه أي اتهام إليه، أمرْنا باستدعاء الضابط المسؤول، وأُقفِل الموضوع في تاريخه»( ).
    وفي الأيام: الرابع، والسابع، والحادي عشر نلحظ التغيرات التي تطرأ على البطل المُطارَد "محمد يوسف المصري" (وفي اختيار الاسم "يوسف" دلالة تُذكِّرك بالنبي يوسف ـ عليه السلام ـ وموقف أخوته منه، وفي وصفه "بالمصري" رمز لمُعاناته، وإشارة إلى صبر المصري على الأهوال التي سيُلاقيها ويُعاني منها، كما عانى الشعب المصري من أهوال الحكام المستبدين وظلمهم له طوال تاريخه):
    "فلمّا كان اليوم الخامس عشر أمر رئيس نيابة أمن الدولة الرجلين اللذين تساند عليهما المتهم بالانصراف، بدا تأثُّره لما عليه المتهم من إرهاق، قدَّم له سيجارة، وأمر بكوب شاي ..
    أشار إلى سكرتير الجلسة، ففتح السكرتير المحضر:
    "استدعينا المتهم لسؤاله في رسالة بعث بها إلينا: يعترف فيها بإقدامه على محاولة قتل عدد من الشخصيات السياسية" ..
    أسند أصابعه ـ برفق ـ إلى كتفي المتهم:
    ـ هل الرسالة بخطك، والتوقيع لك؟..
    قال:
    ـ نعم.
    ـ أنكرت في البداية مجرد اشتراكك في تنظيم سياسي؟ ..
    رفع المتهم نظراته إلى العينين الملتمعتين خلف الباب الموارب:
    ـ كنتُ كاذباً! ..
    فلنبدأ منذ البداية إذن .. منذ اشتراكك في التنظيم"( ).
    إن البطل هنا مُطارَد من الجميع: من الشرطة، والطبيب، ورئيس النيابة. إن جمعهم يتكاثر، ويرى، ويصمت حتى يسقط البطل شيئاً فشيئاً أمام سطوة التعذيب.
    ومن الملاحظ على المقطع السابق أن البطل قد لاقى تعذيباً شديداً حتى غيَّر من أقواله، ومن ثم فإن القوى الغاشمة لا تكتفي بالمطاردة، وإنما تقترف التعذيب في حق من تطاردهم، حتى تجعلهم يعترفون بما تريد !
    وتبدو المُفارقة في هذه القصة من خلال بنية دالة هي الكلام أو الحوار؛ فالقصة تعتمد على الحوار، بينما النظام الذي يسوق البطل إلى نهايته لا يطيق الحوار، ويقوم الحوار في القصة بدور يتقاطع مع التصميم المسبق للأحداث في الإيقاع بالبطل، ومُطاردته حتى السقوط.
    *وفي قصة "الرائحة"، نجد فيها البطل مطارداً برائحة لها طبيعتها الغامضة، أشبه بتداخل الظلمة والأوراق النقدية ودورات المياه والحجرات المغلقة، تسري في الهواء، تتسلل إلى الأنف. تُضفي على النفس شعوراً بالانقباض والتوتر والخوف من المجهول الذي لا يدري مبعثه"( ).
    إن هذه الرائحة العفنة تُطارده في نافذة البيت، وفي المكتب وفي الشارع، وإذا علمنا أن البطل مؤرخ ـ أو كما يقول المؤلف "دراسة التاريخ عمله"( ) ـ فهمْنا سر هذه الرائحة القذرة التي تُطارده، والتي قد لا يراها الآخرون ومنها زوجته:
    "سأل زوجته:
    ـ ألا تشمين الرائحة؟
    قالت:
    ـ ليست جديدة .. بائع الطعمية تحت البيت من قبل أن نسكن ..
    ـ لا أعني تلك الرائحة .. إنها رائحة أخرى ..
    تساءلت:
    ـ هنا داخل الشقة؟
    في تأكيد:
    ـ طبعاً ..
    ـ لكنني ـ كما تعلم ـ أحرص على تنظيف الأرض جيداً بالدِّيتول، وأرش في الأركان ـ بعد ذلك ـ عطراً طيب الرائحة ..
    كأنه يُحدِّث نفسه:
    ـ هل هو ذلك العطر! ..
    ـ إني أستعمله منذ سنوات.
    ـ فمن أين تأتي الرائحة إذن؟
    ـ لا أشم أية رائحة! .."( ).
    إنها رائحة أخرى تزكم الأنوف ـ ربما أنوف كثيرين غيره أيضاً ـ هي رائحة التشكيك في كل الإنجازات السابقة، التي حقّقها مصريون مثلنا، وكأنَّ السابقين لم يفعلوا شيئاً، ونحن الذين بدأنا أولى خطوات التاريخ، وكأن التاريخ يبدأ من هنا.
    إن البطل يُحاور الطبيب ـ أستاذ الأنف والأذن والحنجرة ـ الذي ذهب إليه يُعالجه من تلك الحالة:
    ـ غلطتان كفيلتان بهز الأساس الذي شيدت الثورة فوقه كل ما بنته: زيادة أعداد الأميين وغياب الديمقراطية!
    قال:
    ـ فماذا عن التصنيع والسد العالي، وتوفير فرص العمل، ومجانية التعليم والرعاية الصحية والاجتماعية؟!
    وهو يتراجع بأعلى صدره، ويرفع يدين مفتوحتين، كأنه يستسلم:
    ـ لا أريد أن أبدو في موقف المعارض للثورة .. إني محب يرجو لمحبوبته الكمال"( ).
    إن هذه "الرائحة" هنا تمثل هما مُطارِداً للبطل، لا يجدي معه العلاج ولا الأدوية، فما يزال النقاش ساخناً بين المثقفين حول جوانب كثيرة من تاريخنا الحديث والمعاصر، وفي هذا الحوار ـ غير الصحي ـ يتم تشويه الأبطال، وإلقاء الشكوك حول حياتهم وكفاحهم، ويحار الشباب فيما يطالعونه، ويسأل الكثير منهم: أين الخطأ وأين الصواب فيما نقرأ من كتب ومذكرات ومراجعات تاريخية؟
    وفي نهاية هذه القصة يتناهى إلى مسامع البطل هذا السؤال:
    "هل كان أحمد عرابي درويشاً أم بطلاً؟"( ).
    ولعلَّ السؤال الأخير يكشف عن وعي البطل (المؤرِّخ) بكثرة الأسئلة التي تُثار، والتي تُلقي ضباباً على الأبطال ـ في ظلِّ زيادة أعداد الأميين، وغياب الديمقراطية ـ فلا نعرف الحقيقة، وتظل غائبةً محتجبة عن الجمهور المتعطِّش للمعرفة وسط مُحاولة التشويش، والتهميش لأدوار زعمائنا السابقين وأبطالنا التاريخيين، الذين بذلوا ما في طاقتهم للحفاظ على بلادهم حرة، ودفعها خطوات إلى الأمام. ويكشف الاستفهام عن حقيقة دور أحمد عرابي طبيعة العجب التي تكتنف السارد، فهل كان أحمد عرابي مجرد متصوف غافل يُحب بلده، ويوردها موارد الهلاك أم كان بطلاً من أبطالها المعدودين طوال تاريخها، ومن الباحثين لها عن العزة والمنعة والسيادة؟
    إنه لا يُشكك في بطولة أحمد عرابي، ودوره في خدمة أمته ووطنه. وإنما يتأمَّل ما فعلناه بزعمائنا، وكأنه يقول: هل كان أبطالنا أبطالاً حقا؟ وإذا كانوا "أبطالاً" فلماذا لم يُفتِّحوا أعينَنا، ولماذا لم يجتهدوا في توسيع مداركِنا؟. ولماذا لا نبذل نحن خطوة أخرى لتجاوُز الأمية، (فالأمية كما يومئ القاص ليست في عدم القراءة والكتابة، أو الجهل بهما، وإنما هي العجز عن الرؤية الصحيحة للواقع، والقدرة على التحاور معه).
    *وفي قصة "تلك اللحظة من حياة العالم" من المجموعة التي تحمل العنوان نفسه نرى شخصاً بلا اسم ولا ملامح، ينزع عنه الضابط ثيابه قطعةً قطعةً، ويقذف بها إلى أرض الطريق. ولم تتخلَّ قدماه عن الأرض رغم أن الشرطي خلع عنهما الحذاء والجورب وقذف بهما بعيداً، ونقتطف هذا المقطع الذي يُرينا مُطاردة غير متكافئة، بين متهم يُسأل ويُعذَّب، وضابط في مخفر شرطة مصمم على أن يأخذ من هذا المتهم ما يريده من اعترافات، وليس مهما أن تكون عارية من الحقيقة:
    "فقد إحساسه بكل شيء، فلا خوف ولا قلق، ولا أدنى محاولة للسؤال.
    تعالى صوت الضابط يسأل في غلظة: أين هم؟
    حدَّق لأول مرة في وجه الضابط. اختلجت عيناه وشفتاه، وتطوَّح ذراعاه بلا هدف، ولم ينطق بشيء:
    هوى الضابط بكفه على صدغه، وهو يصيح في حدة: أين هم؟
    انفرجت شفتاه عن أنة مكبوتة: من؟
    ـ زملاؤك.
    أطال النظر إلى وجه الضابط. حاول أن يرسم على وجهه أي معنى للتساؤل والدهشة، ثم لاذ بالصمت.
    دفعه الضابط داخل العربة:
    ـ هل ستقوى على الصمت لفترة طويلة؟!"( ).
    إن المتهم في النص السابق مُطارد، توقفه الشرطة في الشارع، ولم يصدر منه ما يجعله متهما في نظر القرَّاء، ومن ثم فالمطاردة هنا تُشير إلى تلك الفترة من تاريخ مصر التي كان يؤخذ الإنسان فيها بالظن، ثم يُواجه التحقيق في مراكز الشرطة ـ أو السجون ـ حتى يقول ما تريده الشرطة!
    إن البطل في القصص الأربع السابقة مُطارد من قوى خارجية تتآمر على الوطن، وتُريد اغتيال وعيه (قصة تكوينات رمادية)، ومُطارد من القوى الحاكمة التي قد يُتَّهَم بمعارضتها دون ذنبٍ جناه، فتلجأ في مطاردته إلى محاكمته بعد سجنه وتعذيبه، وتُحاول أن تقهر روحه حتى يعترف بما يُطلَب منه أن يعترف به (قصتا التحقيق، وتلك اللحظة من حياة العالم)، ومطارد من الكتاب الذين يُشوِّهون القادة والزعماء ويقتلون كل شيء جميل في تاريخنا، حتى يتساءل متسائل بصوت يصل إلى إذني السارد بعد مائة عام من ثورة عرابي: "هل كان أحمد عرابي درويشاً أم بطلاً؟".
    (يتبع)

  5. #5
    شاعر
    تاريخ التسجيل : Mar 2005
    المشاركات : 1,000
    المواضيع : 165
    الردود : 1000
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي


  6. #6
    شاعر
    تاريخ التسجيل : Mar 2005
    المشاركات : 1,000
    المواضيع : 165
    الردود : 1000
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي


  7. #7
    شاعر
    تاريخ التسجيل : Mar 2005
    المشاركات : 1,000
    المواضيع : 165
    الردود : 1000
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي

    4-انتظار الآتي:
    يهدي محمد جبريل مجموعته «هل؟» «إلى الآتي»( )، وهذا الآتي يتمثل في العديد من قصصه، ومنها: «تسجيلات على هوامش الأحداث بعد رحيل الإمام»، و«الأستاذ يعود إلى المدينة»، و«الطوفان» (من مجموعة «هل؟!»)، و«الأفق» (من مجموعة «رسالة السهم الذي لا يُخطئ»، و«سوق العيد» (من مجموعة «سوق العيد»):
    *في قصة «تسجيلات على هوامش الأحداث بعد رحيل الإمام» (من مجموعة «هل؟!») نرى امتداداً لرواية «إمام آخر الزمان»، ونرى فيها تقاطع الحلم الديني الغيبي وإشكالات العصر وقضاياه.
    يمثِّل الحلم الديني: «يا أيها المهتدي من الله سبحانه، الهادي إلى السلام والعدل والمُساواة .. متى تظهر؟ يقترب يوم الإيمان، يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار، يلبسون ثياباً خُضْراً من سندس وإستبرق، وثياباً من حرير، يحلون بأساور من الذهب والفضة، لا يسمعون لغواً ولا كِذّاباً، ... إلخ»( ).
    ويمثل الهم الواقعي ـ المتقاطع مع الحلم الغيبي: «علينا حتى يؤوب ـ أيده الله ـ أن نعمل ونعمل. تتحوّل أكواخ الطين والصفيح وأسطح البوص إلى بيوت من الطوب. تحل الباحات الواسعة النظيفة محل الزرائب. يعرف الجميع الثلاجة والتليفزيون والتليفون والفيديو. يكون للماشية مكانها المستقل؛ فلا تُشارك الفلاح نومه .. تختفي المُصادرات والحراسات وزوار الليل. تختفي ـ كذلك ـ اللامبالاة والسمسرة وأتعاب العمولات»( ).
    والآتي في هذه القصة ليس إلا رجل الدين ـ أو «المهدي» في التصور الشيعي ـ أمل الخلاص للمؤمنين من الفقراء والمهمشين الذين ضاعت حقوقهم؛ ذلك «الإمام» الذي اختفى من قرون(!!)، فهل يعود إلى الأرض، فينشر في أرجائها الأمن والطمأنينة والسلام، ويملؤها عدلاً وفروسيةً وبطولة؟!!
    *وفي قصة «الأستاذ يعود إلى المدينة» نرى أن البطل فيها هو «الأستاذ»، وهو بطل روايته الأولى «الأسوار»، حيثُ كنا في الرواية «لا نسمع صوته، ولانتابع تصرفاته السرية أو المُعلنة. لكننا نلمح تأثيراته في حياة هؤلاء الذين أخلصوا في محبته، مقابلاً لإخلاصه في محبتهم، فهو أقرب إلى شخصية المسيح ـ عليه السلام ـ وهم أقرب إلى حوارييه، وهو بالإقناع وهم بالوعي ينسجون ملحمة جديدة من ملامح الطموح المصري لصنع غد أفضل»( ).
    و«الآتي» ـ هذا «الأستاذ» في هذه القصة ـ مُغاير للأستاذ في رواية «الأسوار»:
    إن "الأستاذ" في قصة «الأستاذ يعود إلى المدينة» يقوم بمشاركة القادمين صنع المستقبل، ولكنه لا ينوب عنهم.
    إنه يختار «سلسبيل» لتحمل المولود القادم (ابن كل مصر)، وحينما حان موعد ميلاد الطفل «رفض ـ في استنكار ـ أن يستدعوا الطبيب، طلب مقصا وماءً ساخناً ومناشف وأغطية، خلا بها في كشك عم أيوب، وعالج الأمر بمهارة أكّدها صمت المرأة، فلم تصرخ كعادة النساء، حمل الوليد على يديه في سعادة واضحة، تأكّد من دثاره بالقرب من صدره، وأودع الجميع نظرة عميقة ... ومضى إلى زحام شارع الميدان»( ).
    *وفي قصة «الطوفان» (من المجموعة السابقة) نرى أن البطل فيها كائن غريب «جثة هائلة، غامضة الملامح والتفاصيل، أضخم ممّا اعتادت الأعين أن تراه، وأضخم ممّا رآه الجد السخاوي في حكاياته المثيرة عن أعاجيب الكائنات. مدّ الساقيْن في استرخاء، وأسند الرأس إلى ما بين الساقين. وتطلع بنظرة ساهمة إلى اللاشيء أمامه»( ).
    ويعجز الناس عن معرفة هذا الكائن الذي «يخلو من أثر لحياة، لولا عينيه اللتين (كذا) تتحركان تحت أهداب مُسترخية، أميل إلى التهيؤ للنعاس»( )، ويعجز الجيش عن التعامل معه، أو طرده أوقتله، كما تعجز المخدرات على أن تنال من روحه، أو تؤثر في صحوه حتى تشجع الناس واقتربوا منه، وتحول ـ بمضي الأعوام ـ إلى مظلة يحتمون بها، وعقدوا الصفقات، وقضوا الأمسيات... وفي تلك الأيام التي بدا فيها هذا المخلوق الغريب جزءاً ثابتاً من حركة الحياة حوله، انتفض ـ فجأة ـ فسعى إلى الشاطئ المُقابل، ونفض الماء حوله، فأغرق كل شيء ( ).
    والآتي هنا هو الشعب الذي عجز الجيش عن قهره، وعجزت المخدرات عن أن تنال منه، والذي نظنه أحياناً قد مات، فإذا به يثور ويُحطم كل شيء يقف في طريقه.
    ومن هذا العرض نعلم أن البطل في قصص جبريل ـ أو المُخلص ـ مما نُعاني من انتكاسات وهزائم هو البطل المنتمي لهذه الأرض، وهو أيضاً الشعب بمختلف فئاته.
    لكننا قد نرى قنوط البطل من انتظار «الآتي» ومن ثم انسحابه، وهذا قليل في قصصه، مثل قصة «المستحيل» في مجموعة «هل؟!».
    إننا نرى البطل ـ بدلاً من أن يُقاوم، أو يتمرّد، أو ينتظر الآتي ـ يُغلق النافذة التي من خلالها يبصر الحياة ويتفاعل معها، ولعلّ وراء عزلته عدم إحساس الآخرين به، كبطل مدافع عن الجماعة، فآثر الانزواء.
    «قال له الحاج إبراهيم الخليل بائع الحلوى في ناحية البوصيري:
    كأنك أهملت مشكلاتنا مع الجماعات الوافدة؟! ..
    لم يُخف استياءه:
    ـ كنتُ أُواجه المُشاجرات بمفردي!
    ـ نُقدِّر ما فعلت .. ولكن الأحداث تحت نافذتك.
    ـ أزمعتُ أن أغلق النافذة»( ).
    لكنه لم يستطع أن يعيش حياته كما يُريد، فلا العزلة التي أراد أجبر نفسه على معانقتها، ولا الأساس الذي تساند على الباب المُغلق، لا هذا ولا ذاك استطاع أن يمنحه سكينة روحه، أو أن يُبعده عن مصادر الفزع الذي يتهدده.
    «علا الصوتُ وعلا، ارتج السقف والجدران. واهتز السرير من تحته. جرى ـ بتلقائية ـ ناحية الباب، امتدت يداه كأنه يتقي سقوط النافذة. التف حول نفسه وتضاءل وانكمش. حاصرته الوحدة فبكى، أطلق صيحة فزع لمّا تهاوى الأثاث وراء النافذة، وأطلّ المجهول ـ في الظلام ـ بنظرات ثابتة»( ).
    إن انسحاب البطل لم يمنع من مجيء العدو إليه في عقر داره، ولهذا لا بد من المقاومة، والتأكيد على أن انتظار الآتي عمل إيجابي، يستدعي اليقظة ومواجهة العدو.
    *ومن قصصه التي تنتظر الآتي قصة «الأفق» من مجموعة «رسالة السهم الذي لا يُخطئ»، وتتحدّث عن شخص قد تقتحمه العين ولا تأبه به ـ وهو يمثل بطلاً من أفراد الشعب العاديين ـ لا يمل من تكرار صيحته التي عُرف بها، وهي: «متى يأتي المد ؟» .
    وتبدأ القصة بالإشارة إلى البطل والمكان:
    « الصيحة التي أطلقها الرجل، حين وقف على الصخرة الناتئة، الصغيرة، في ساحل الأنفوشي، قبالة شارع الحجاري، ذكرتنا بقدومه إلى المكان للمرة الأولى ..
    لم نكن رأيناه من قبل على الشاطئ ، ولا في شوارع بحري أو قهاويه أو مساجده. قامته الطويلة، ورأسه المفلفل الشعر، وعيناه الواسعتان، الحادتان، تظللهما رموش دائمة الارتجاف، وأنفه الكبير المستقيم. يرتدى قميصاً أحمر، وبنطلوناً شمره إلى ما تحت الركبتين، فبدت ساقاه نحيلتين طويلتين كصاري مركب، وحذاء من الكاوتش ..
    ـ متى يأتي المد ؟ »( ).
    وتمر أيام وشهور وسنون، وتتغيّر الفصول ومازال هذا الرجل لا يُفارقه حلمه بأن يأتي المد، وتنتهي القصة بهذه الفقرة:
    « ألفنا وقفته، فلم نعد نطيل تأمل تصرفاته، ولم تعد تثير انتباهنا. ركب الرجال البحر، ينطلقون إلى الصيد، ويعودون، وامتلأت الكراسي وعلت النداءات والصيحات في القهاوي المقابلة للموضع الذي وقف فيه الرجل، وانشغل الأولاد بلعب الكرة ومتابعة تحليق الطائرات الورقية، وعادت حلقات الذكر وقراءة البردة إلى صحن البوصيري، وتقاطر النسوة على الأضرحة ... وازدحمت حلقة السمك بالطبالى والفصال، وصف الباعة عرباتهم أمام متحف الأحياء المائية وقلعة قايتباي يبيعون الآثار المقلدة، وأقيمت سرادقات العزاء، ودارت مواكب الأعراس أمام جامع أبو العباس، وارتفعت الأعلام والبشاير في الجلوات والموالد، وأغلقت الأبواب والنوافذ اتقاء برد الشتاء وحرارة الشمس، وفتحت المصاريع لاستقبال النسائم القادمة من البحر، وصرت عجلات الترام في انحناءة الطريق إلى الأنفوشي ..
    عدنا إلى ما كنا نحياه ..
    ظل الرجل ـ وحده ـ في وقفته، يطيل النظر إلى الأفق، ويشير بيديه إلى توهج الشمس، وانهمار المطر، وهبوب النوات، واستواء الأمواج، ويصيخ السمع إلى ما لم نكن نتبينه، ويتحدث ـ في صوت متعب كالحشرجة ـ عن الجزر الذي لا بد أن ينتهي .. والمد الذي لا بد أن يأتي .. لابد .. أن .. يأتي .. »( ).
    والقصة أنشودة جميلة عن الحالمين بالغد الذي لا بد أن يأتي بالخير والعدل والسعادة، حتى بعد أن يمل الآخرون من ضعاف الهمة وقليلي العزيمة، وينطلقون يعيشون حياتهم الوقتية التي تعوّدوا عليها.
    *وفي قصة «سوق العيد» (من مجموعة التي تحمل العنوان نفسه) نرى الطفل ينتظر الثورة، ويتمثل ذلك في رؤيته علي الزيبق (البطل الشعبي، ورمز الجماهير) يتمرد ـ في صندوق الدنيا ـ ويضرب الكلبي (ممثل السلطة):
    «في لحظة أو أقل، بدا لي أن الصورة أمامي تتحرك. علي الزيبق قيَّد الكلبي مقدم الشرطة، وانهال عليه بعصا رفيعة. لم تعد العصا كما كانت، لكنها لامست الجسم بقوة وعلت..
    فركتُ عيني، وأعدتُ النظر» ( ).
    إنها رؤية تشي بقدرة الشعب على عمل شيء في موجهة السلطة، وبخاصة إذا كانت تظلم الشعب، ولا تقوم بحقوقه.
    5-القاع الاجتماعي
    اهتم الأدب الحديث بتصوير القاع الاجتماعي، وقصص المستضعفين في الأرض، ومنذ بداية الحرب العالمية الثانية أصبح "الهم الاقتصادي" قضية عملية وفكرية لا تقل أهمية عن مطلب التحرر السياسي من الاستعمار"( )، وقد برز هذا الهم الاجتماعي في كتابات المفكرين والأدباء والصحفيين.
    وعلى سبيل المثال، فإن مجلة "الرسالة" التي مثلت اتجاهاً معتدلا، وغلب على صاحبها أحمد حسن الزيات الاهتمام الأدبي والبلاغي، نجد افتتاحياتها التي كتبها الزيات تتناول القضية الاجتماعية، وتثيرها بصورة متواترة وملحة تعبيرا عن ذلك المناخ المسيطر على المرحلة، فمن بين (93) مقاله كتبها الزيات بين يناير 1939م ومارس 1944م نجد حوالي ثلاثين مقالة تتناول المشكلة الاجتماعية، وبالذات مشكلات الفقر والغنى وطرق مكافحة الفاقة"( )، "ونجد له العناوين التالية "بين الفقر والغنى"، "ضحية من هذا ؟"، "عيد الفقير"، "كيف نعالج الفقر" ، "الطفولة المعذبة"، "غنى فقير"، "منطق الغنى"، "اقتلوا الجوع تقتلوا الحرب"، "فلاحون وأمراء"، "هل لأغنيائنا وطن؟"، "منهاج لوزارة الشئون الاجتماعية 000 الخ"( ).
    وهناك العديد من قصص جبريل التي تتناول القاع الاجتماعي، منها قصة «يا سلام ..» التي تتناول شخصية أحد المهمشين الفقراء ، الذي لا يجد مكاناً يبيت فيه، ويُريح جسده فيه من عناء تعب النهار، وتبدأ القصة على لسان السّارد:
    «تناهى صوته إلى أذني، وهو يكلم نفسه قائلاً في همس:
    ـ وبعدين؟ .. أنا رايح فين دلوقت؟ .. ياه .. أنا تعبان قوي .. عاوز أنام .. آه .. عاوز أنام.
    لفت كلامه نظري .. فأنا مثله شريد، ورجلاي مُتعبتان، والليل طويل طويل، وما تزال سـاعات حتى يؤذن للفجر، فأتسلّل ـ كعادتي إلى أقرب مسجد، وأكور نفسي تحت أحد أعمدته، وأنام»( ).
    ويصف القاص هذا البائس الفقير بقوله:
    «كان شيخاً عجوزاً كقنديل فرغ الزيت منه .. وعشرات الكيزان المعلقة في حبل غليظ حول عنقه، وخطواته البطيئة المتسكعة، وصوته الواهن البائس .. كل ذلك أثار في نفسي إحساساً دافقاً بالشفقة، وأنه ـ حقيقة ـ في حاجة إلى النوم»( ).
    ويُطارده مخبر، ويدور بينهما هذا الحوار:
    «ـ على فين؟
    ـ على باب الله ..
    ـ بالليالي؟ ..
    ـ أعمل إيه؟ ..
    ـ مالكش بيت؟
    ـ كان! ..
    ـ منين يا راجل؟
    ـ من دمياط ..
    ـ وإيه اللي جابك هنا؟
    ـ أمر الله ..
    ـ طب شوف لك حتة نام فيها .. بدل مشيك في الشوارع» ( ).
    ويحس السارد بإشفاق وحب لهذا الرجل:
    «أحسست نحو الرجل بإشفاق غريب .. وأحببتُه كأنه أبي» ( ).
    ويقترب منه السارد ويتوحّد به في مأساته، لأنه ضائع مثله، ويكشف هذا الجزء الأخير من القصة.
    (يتبع)

  8. #8
    شاعر
    تاريخ التسجيل : Mar 2005
    المشاركات : 1,000
    المواضيع : 165
    الردود : 1000
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي

    الفصل الثاني
    الــدراسة الفنيـــــــة
    .......................

    يتحدث محمد جبريل في الحوارات التي أجريت معه عن استفادة الفنون من بعضها، ويتساءل في أحد الحوارات: "لماذا لا يُثري الفنان قصته أو روايته بإسهامات الفنون الأخرى، وبما تملكه الفنون الأخرى من خصائص جمالية وتكنيكية، وبما تمنحه للفن الروائي من أبعاد جديدة؟"( ).
    وستناول هنا بعض الجماليات التي تشيع في قصص محمد جبريل القصيرة، وهي:
    1-الوصف
    2-الحوار.
    3-الرمز.
    4-جمالية المكان.
    5-الشخصيات.
    6-التكثيف.
    7-الغرائبية.
    ***
    1-الوصف:
    يقوم الوصف بدور بنائي ـ لا يُغفَل ـ في قصص محمد جبريل القصيرة، فهو يرسم الإطار الذي تدور فيه الأحداث، أو يُساعد على تطوير الأحداث، والصعود بها إلى ذروتها، أو يصور شخصيات أبطال قصصه، أو يُضفي عليها ملامح خاصة يُريد لها أن تُفيد في رسم أحداث القصة وتطورها.
    فمن رسمه للإطار الذي تدور فيه الأحداث قوله في مقطع «السمسار» من قصة «تلك اللحظة من حياة العالم» في وصف الزقاق الذي سيسكن فيه العروسان، لأنه المتاح فقط حسب إمكاناتهما المادية:
    «أعادت النظر إلى ما حولها بعينين تنطقان بخيبة الأمل ..
    الزقاق ضيق مسدود، على جانبيه أربعة بيوت، وحلاق، وبقال، وقهوة صغيرة، وعيال كثيرون يلعبون النحلة والبلي، وصوت الزهر على صفحة الطاولة، وضحكة رفيعة ممطوطة، وسعال أجش متقطع، وثدي ناضج غابت حلمته في شفتي رضيع، وقطان يُمارسان الحب، وأطفال ينظرون في بلاهة مشدودين، ورائحة غامضة، ومناشر غسيل، وذباب وطين ..» ( ).
    فهذا الوصف من خلال عيني الفتاة يُرينا صورة وصفية لما ستؤول إليه حالها إذا سكنت في هذا الزقاق. فالزقاق الضيق المسدود يشي بالطبقة الفقيرة ـ من القاع الاجتماعي ـ التي تسكن فيه، والأطفال الذين يلعبون البلية والنحل يكشفون عن مستوى اجتماعي متدن أقرب إلى القرى، أو الطبقات التي تعيش على هامش المدينة، وكذلك الرائحة الغامضة، ومناشر الغسيل، والذباب والطين ..
    ومن رسمه للإطار الذي تدور فيه الأحداث قوله في قصة «لحظات التلاشي» من مجموعة «رسالة السهم الذي لا يُخطئ»:
    «الشوارع ـ في نهايات الميدان ـ خالية من الناس ، والدكاكين أغلقت أبوابها، والنوافذ المفتوحة كشفت ما بداخلها من أثاث لم يأخذه أصحابه. العربة التي تمتلئ بالناس والحقائب واللفائف تمضى في الشارع ـ على يمين الميدان. تلوِّح الأيدي داخلها بفتور، أو تتقلص الملامح بالحزن، فتبكي، وثمة دبابات وعربات، فوقها وحولها جنود، تقف في نواصي التقاء الميدان بالشوارع المتفرعة عنه ..» ( ).
    فهو هنا يرسم إطاراً لتهجير المواطنين من الإسماعيلية بعد هزيمة حرب يونيو 1967م، وأثناء حرب الاستنزاف.
    وقد كان وصفه دقيقاً، فبدأ بمظهر الحياة في الشوارع، التي تكشف عن الحياة في المدينة، وبيَّن أنها خالية من الناس، ثم أشار إلى المحال التجارية «الدكاكين»، وأشار إلى النوافذ المفتوحة التي تشي بما فعلته الحرب في الإسماعيلية ـ حيث هجر الناسُ بيوتهم وتركوا أثاثهم، ثم صور المهاجرين في الفوج الأخير في داخل عربة تمتلئ بهم، حيثُ « تلوِّح الأيدي داخلها بفتور، أو تتقلص الملامح بالحزن ، فتبكي».
    ولا ينسى أن يُشير إلى مظهر من مظاهر الحرب «ثمة دبابات وعربات، فوقها وحولها جنود، تقف في نواصي التقاء الميدان بالشوارع المتفرعة عنه».
    والوصف في مجمله دقيق، ويرسم إطاراً للقصة التي تدور أحداثها عن الحرب، والتهجير.
    ومن رسمه للإطار أيضاً في القصة نفسها قوله عن مشاهد المدينة كما رآها البطل وهو يُغادرها:
    « أطال التحديق في واجهات البيوت، يحفر ملامحها في ذهنه. يريد أن يأخذها معه إلى حيث تذهب السيارات ..
    تكومت أمام البيوت ولصق الجدران وعلى الرصيف حقائب كبيرة وصناديق صغيرة وكبيرة وأجولة وأقفاص طيور وصرر ومراتب وحصر مطوية ومقشات وقفف وتنكات ماء. تدلت أسلاك على الحوائط بعد أن انتزع من الأسطح ما كانت تتصل به. تصاعدت روائح مختلفة: بخور وبقايا أسماك وتقلية وغسيل واحتراق أشياء، وثمة نسوة أطلت رءوسهن من النوافذ والشرفات، وتعالى اللغط، فتداخلت الأصوات. بدت غير واضحة. وزادت حركة الأولاد في الساحة الترابية ...»( ).
    ونلاحظ أنه في تصويره للإطار الذي تدور فيه الأحداث يُعنى برسم المكان، في تصوير دقيق، لا يكاد يترك شيئاً، وهو بهذا الوصف يجعل الحدث في القصة أكثر تأثيراً، لأنه ينقله من دائرة العموم إلى دائرة الخصوص، ولا بأس هنا من أن يهتم بتفاصيل المكان التي تُعطي الحدث خصوصيته التي يتميَّز بها.
    ونُطالع ذلك في قصته «أصداء باهتة» التي تصور لقاء بين محبين قديمين (هما «عايدة» و«أمير»)، مرّ على حبهما عشرون عاماً، فتزوّجت المرأة وصار لها أولاد في الجامعة، وهاهو الرجل يلتقي بها بعد عقدين من الزمان. وتبدأ القصة هكذا:
    «لمحها في الموضع الذي اتفقا على أن تنتظره فيه. على ناصية الطريق المفضي إلى شارع الباب الأخضر. تأكدت صورتها في اقتراب السيارة: القامة الضئيلة، المنسجمة التكوين، والشعر المهوش حول الوجه المستدير، والبشرة السمراء، الرائقة، والعينان الواسعتان، المكحولتان، والغمازتان على الوجنتين، والشفة السفلى الممتلئة. أضافت بمرود الكحل خالاً صغيراً على خدها ..
    عبر مفاجأة السنوات العشرين بما رسمته من تغير في الملامح، حين التقى بها أول الأسبوع. أعاد النظر ليتأكد من صاحبة الضحكة الطويلة، الممطوطة:
    ـ عايدة ؟..
    ـ أمير ؟!..
    مد يده يصافحها. استبقى يدها في يده:
    ـ مضى عمر ..
    اختصرت الأعوام في قولها:
    ـ أصبحت أماً لأولاد في الجامعة ..
    أعاد القول :
    ـ أولاد ..
    ـ الولدان في الجامعة .. والبنت في الثانوية العامة ..
    ابتدرته متسائلة :
    ـ وأنت ؟..
    هز كتفيه ، ومط شفته السفلى :
    ـ تأخرت حتى أصبحت فكرة الزواج سخيفة ..» ( ).
    *ويُساعد الوصف على «اكتشاف أشياء لم تكن معروفة من قبل، تُساعد على تطوير الأحداث» ( ).، وهذا ما نجده في قصة «اكتمال الدائرة» من مجموعة «رسالة السهم الذي لا يُخطئ»، فالسارد في رحلة للكويت، في فندق ويجد شاباً مُطارداً بتهمة ثأر يقول إنه لم يرتكبها، ويقول للسارد: « سأحاول ألا أنام .. وإذا ألح النوم فربما اضطررت لإيقاظك للسهر بدلاً منى ..» ( ) .
    والسارد يستلقي على ظهره، وهو يصف الاثنتي عشرة ساعة الأخيرة وهو في طريقه من القاهرة إلى الكويت، وكأنه يقول : لماذا الثأر الشخصي ومعاناة أمتنا كبيرة؟. يقول:
    « استلقيت على ظهري، وأسندت رأسي إلى تشابك الأصابع. واستلقى على ظهره، وأسند رأسه إلى تشابك أصابعه. عاود الكلام عن هواجسه، وحدثته عن الإثنتى عشرة ساعة التي أمضيتها في بيروت. لم أقصد وجهة. راقصت الأشباح في القصور المهجورة، وتأملت البيوت المهشمة الأبواب والنوافذ، وغادرت سينما سارولا بشارع الحمراء حين أضئ النور والمرأة تنهال بسوطها على جسد الرجـل، وتبادلت القبلات مع المطلين من قضبان سجن الرملة، وقرأت على صـدر ميشيل عفلق: حرية، اشتراكية، وحدة، وصفقت لعبد الناصر وهو يعلن تأميم القناة، وتعثـرت خطواتي في الزي الشيعي الأسود، وقرأت التعبيـرات التي غطت بها ثقوب الرصاص واجهات المنازل، وقفزت الفاصل بين جبهتي القتال في شارع الشيـاخ، وأجهدني البحث فيما لم أتبينه في سوق سرسق، وسوق الطويلة، وسرت فوق حبال مدها جنود الجيش السوري في تقاطعات شارع الفكهاني ، وحذرني الشيخ من نهر بيروت، فمياهه لا تصلح للشـرب، وأغمضت عيني ـ في كازينو لبنان ـ لصوت فيروز : باحبك يا لبنان ، وكتمت الرغبة والدهشة والاكتشاف ، وخضت في مناقشات قهاوى الويمبى وعروس البحر والشى أندريه والروضة ، وابتلعت ملايين الكلمات من الصحف في الأكشـاك ، والملصقات على الجدران، ولافتات القماش المتصلة بين الشرفات وأعمدة النور .. »( ).
    وكأنه يقول له إن مشاهداتي الكثيرة هذه تخبرني أن كل شيء قبض الريح، فماذا الثأر، ولماذا التعارك فيما بيننا، وواقعنا على هذا الحال؟
    *ويُساعد الوصف على الصعود بالأحداث إلى ذروتها، كما نجد في هذا المشهد من قصة «حدث استثنائي في أيام الأنفوشي»، حيث بدأ يعي الناس تأثير السمّان السلبي على حياتهم:
    «لم يعد في الأمر ما يُريب، استفاد الناس من حياة السمّان بصورة مؤكّدة: النظام، والهدوء وحب العمل، والكسب، والميل إلى عدم السهر. لكن شيئاً مُقلقاً تحرّك في النفوس وتصاعد بالهمس، أثاره الملل والمخاوف والأسئلة. لاحظ الناس أنهم لم يعودوا يتصرّفون بمثل ما اعتادوا، وتنبَّهوا ـ وإن كان متأخِّراً ـ إلى ملايين الأعين والأنفاس القريبة، والمُقاسمة في المكان ـ مهما كان شخصيا ـ خلت التصرفات من العفوية التي كانت سمةَ أيامهم السابقة. بدا لهم استمرار الوضع ـ بصورته الحالية ـ غايةً في الصعوبة» ( ).
    ومن ثم كان المشهد الوصفي السابق تمهيداً للقرار الذي يجب على سكان الأنفوشي أن يتخذوه، وهو وجوب المُقاومة:
    «بدا لهم استمرار الوضع ـ بصورته الحالية ـ غايةً في الصعوبة .. تهامسوا .. وعقدوا الجلسات السرية .. وتبيّن لهم ـ بعد نقاش طويل ـ أن السكوت عن المقاومة ـ رغم كل شيء ـ طريق إلى الجنون» ( ).
    *ويقوم الوصف بتصوير شخصيات القصص كما نرى في القصة السابقة، حيث يصور تمسك العجوز «فاطمة» بالبقاء في بيتها وعدم مغادرته، وأنها رفضت أن تترك الإسماعيلية لتقيم مع أصغر أبنائها في بور سعيد، وأنها تزور أولادها المتزوجين في زيارات متباعدة سرعان ما تعود بعدها للإقامة في الإسماعيلية. وكأنه يوحي بأنها متشبثة بالأرض، وأن الحرب وحدها ـ والتهجير التالي لها ـ هو ما دفعها إلى ترك موطنها.
    وقد قدّم ذلك في الصورة الوصفية التالية:
    « كانت العجوز فاطمة قد لمت حاجاتها في صرة، أسندتها لصق جدار القهوة الخالية من الرواد، وعلت شتائمها للأولاد الذين ملأوا الساحة بألعابهم وزياطهم. بدا الأمل في عينيها الدامعتين بأن يتأخر الرحيل ..
    حين تزوج أصغر أبنائها، رفضت أن تنتقل معه إلى بور سعيد. اكتفت بزيارات متباعدة إليه، وإلى أبنائها في الزقازيق وبنها والقاهرة. يعودون بأبنائهم في عيدي الفطر والأَضحى. تسعد باللمة، وإن أعلنت ـ لدرء الحسد ـ ضيقها من ألعاب الصغار وزياطهم. يلاحقها أبناؤها بتوسلات، فلا تسلم نفسها للبكاء وهم يعدون حقائبهم للرحيل ..» ( ).
    وقد يكتفي بتصوير الشخصيات من الخارج كما فعل مع الشخصيات الإسرائيلية الثلاث التي عادت لتزور الإسكندرية بعد أربعين عاماً من مُغادرتها، في قصة «حلاوة الوقت»:
    «رجل في حوالي الستين، يميل إلى البدانة. أطال شعر فوديه وقفاه ليوائم صلع رأسه. يرتدى قميصاً من الجينز ، وعلق الجاكت على إصبعه المستند إلى كتفه، وامرأتان في عقدهما السادس، أولاهما نحيلة، وإن تناسق تكوينها، ذات بشرة سمراء اصطبغت بلون نحاسي، وعينين سوداوين، زججتهما بالكحل. ترتدى بلوزة حمراء، وجونلة رمادية تنتهي عند الركبتين، وتتدلى على صدرها سلسلة ذهبية. وفى قدميها حذاء من الكاوتش. الثانية ممتلئة، تداخل عنقها بين كتفيها، عيناها ساجيتان، كعيني قط سيامي، ووجهها يخلو من التزويق، وثمة تقاطعات من العروق الزرقاء تحت البشرة. ترتدي جلباباً قطنياً أبيض، مشغولاً بخرج النجف والترتر والخرز الملون، وصندلاً متقاطع السيور ..
    قال الرجل :
    ـ نحن من بحري .. لكننا عدنا إلى بلادنا بعد أربعين عاماً ..» ( ) .
    وأحيانا يكتفي بتصوير الشخصية من الخارج في وصف سريع، كما فعل مع شخصية البطل في قصة «يا سلام» من مجموعة «تلك اللحظة».
    يقول السّارد:
    «كان شيخاً عجوزاً كقنديل فرغ الزيت منه .. وعشرات الكيزان المعلقة في حبل غليظ حول عنقه، وخطواته البطيئة المتسكعة، وصوته الواهن البائس .. كل ذلك أثار في نفسي إحساساً دافقاً بالشفقة، وأنه ـ حقيقة ـ في حاجة إلى النوم»( ).
    ويقوم وصف الشخصية بدور كبير في مزج الشخصية بالحدث والمكان، حتى نحس أن هذا الحدث وهذا المكان امتزجا بالشخص، فصار الثلاثة شيئاً واحداً، وهذا ما نُلاحظه في عدد كبير من قصصه، ومنها قصة «الأفق» في مجموعة «رسالة السهم الذي لا يُخطئ».
    فالبطل مجذوب إلى البحر، وحلمه الذي يملك عليه حياته ـ وهو بالتالي مقولة القصة الرئيسة وهاجسها الأساس «متى يأتي المد» يطرحه البطل في بداية النص، ويُجيب عليه ـ رغم تغير الأزمان والشخوص وكر السنوات ـ «لا بد أن يأتي»( ).
    فهو يقدم شخصية البطل ـ الذي بلا اسم ـ هكذا:
    «لم نكن رأيناه من قبل على الشاطئ، ولا في شوارع بحري أو قهاويه أو مساجده. قامته الطويلة، ورأسه المفلفل الشعر، وعيناه الواسعتان، الحادتان، تظللهما رموش دائمة الارتجاف، وأنفه الكبير المستقيم. يرتدى قميصاً أحمر، وبنطلوناً شمره إلى ما تحت الركبتين، فبدت ساقاه نحيلتين طويلتين كصاري مركب، وحذاء من الكاوتش ..
    ـ متى يأتي المد ؟ » ( ).
    وكل كلمة في الوصف تقوم بدورها البنائي في السرد فـ « قامته الطويلة، ورأسه المفلفل الشعر، وعيناه الواسعتان، الحادتان، تظللهما رموش دائمة الارتجاف، وأنفه الكبير المستقيم» تُرينا أن ملامحه معتادة، ولكن قامته الطويلة وعينيه الواسعتين تميزانه، وكأنه «زرقاء اليمامة» القادرة على رؤية المستقبل، وقل مثل ذلك عن «يرتدى قميصاً أحمر، وبنطلوناً شمره إلى ما تحت الركبتين» مما يشي بأنه من الطبقة الكادحة التي تجتهد في عملها حتى تستطيع العيش، وفي «بدت ساقاه نحيلتين طويلتين كصاري مركب» ما يشي بأنه كادح فقير، ليس من الطبقة المترفة.
    ويصفه في فقرة ثانية بإصراره على الحلم ـ إن صح هذا التعبير ـ فهو ينتظر المد يأتي، ولا يشغله عـنه شاغل، وهو هنا يقدِّم شخصية طموحاً، مصـرة عـلى طموحها، وحلمها، وهو ما يخدم بناء القصة في تقديم شخصية البطل ذي القضية وذي الرؤية المحددة التي لا يشغله عنها شاغل:
    «كان يراقب الأمواج في تدافعها نحو الشاطئ، ثم انحسارها، تخلف وراءها مساحات غير مستوية من الرمل المزبد، وبقايا الأشياء. يفاجئنا بالصياح، لا يشغله تبدد صوته في هدير الأمواج، وارتطامها بالمكعبات الأسمنتية ..
    وكان يشبك يديه خلف ظهره، يرنو إلى الصخرة في نهاية الأفق، وإلى البلانسات والفلايك والجنادل والقلوع والأشرعة. ربما اتجهت عيناه إلى موضع غير مرئي في الأفق البعيد، وثمة أصوات قريبة لنوارس ..
    وحين يبتلع الظلام مدى البحر، يظل في وقفته. لا مرئيات، سوى نقاط ضوء متباعدة ، ورائحة البحر، وهدير الأمواج في اندفاعها نحو الرمال. وكانت بشرته قد اكتست لوناً بنياً غامقاً، وجفافاً، بتأثير الشمس وملوحة البحر .. »( ).
    إننا نجد المكان هنا (الإسكندرية) في الصخرة في نهاية الأفق ـ البلانسات ـ الفلايك ـ الجنادل والقلوع والأشرعة ـ رائحة البحر ـ هدير الأمواج في اندفاعها نحو الرمال.
    إنه يظل في موقفه على البحر، رغم حلول الظلام، وهاهو المكان يؤثر فيه حيث نرى بشرته تتغيَّر بتأثير الشمس وملوحة البحر، ولكنه مصمم على حلمه.
    وقد نجح الوصف في تقديم الشخصية من خلال الوصف ذي الأبعاد الثلاثة: للشخصية، والحدث، والمكان، وتآزر الوصف مع العناصر الفنية الأخرى ليقدم لنا نصا معبراً عن الشخصية المصرية التي لا تكف عن الحلم رغم المثبطات والمُجهضات.
    *وقد يُستخدم الوصف لوصف تحوّل أصاب الشخصية، كما في قصة «امتدادات» حيث تهدد الزوجة بترك البيت، وتطلب من زوجها أن يُرسل لها ورقة الطلاق، والرجل يُناشدها «أنا مريض فاعذريني» ( ). ويجيء الوصف ليكشف لنا ـ على لسان الابن / السارد ـ التحولات التي أصابت الأب:
    «لم يعد ذلك الصوت الآمر .. صار أقرب إلى التذلل .. ومضت في ذاكرتي صورة أبي التي كانت: القامة الطويلة، الرأس الذي غزا الشيب معظمه، وإن ظل شعره على كثافته، والجبهة العريضة البارزة، والعروق النافرة في رقبته، شعيرات زرقاء تداخلت وتشابكت في البشرة البيضاء، والشارب الكث ينسدل على الشفة السفلى وجانب الفم. إذا غادر البيت يحرص على البدلة الكاملة، والياقة المنشاة، والكرافتة، والطربوش. وإن ارتدى في جلسته جلابية زرقاء، اتسخت ببقع القهوة، لها فتحة في الصدر، يبرز منها فانلة تآكل أعلاها، ودس قدميه في شبشب من البلاستيك» ( ).
    ويستخدم الوصف لماضي الشخصية كثيراً لإضاءة صفحات الحاضر، يقول في قصة «باب البحر»، التي تدور أحداثها في ليبيا عن شخص مهاجر يستقبل خاله بعد غياب طويل:
    (يتبع)

  9. #9
    شاعر
    تاريخ التسجيل : Mar 2005
    المشاركات : 1,000
    المواضيع : 165
    الردود : 1000
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي

    «ومض في الذاكرة نثار مما رواه لـه: ساقاه المتدليتان على كتفي أبيه يشاهدان مواكب الطرق الصوفية في شارع الأباصيرى. تلاقى أذان العصر في الجوامع والزوايا الصغيرة. هياكل البلانسات الخشبية، ومد الموج يرتطم بالمكعبات الأسمنتية أسفل الكورنيش الحجري، وأفق البحر، ورائحة ملوحة الماء واليود والطحالب والأعشاب. خطوات أمه المتسارعة إلى مقابر العامود صباح الطلعة الرجبية. تصاعد الكره لقول خاله وهم يلتفون حول الطبلية: إنه لا يصوم، فلماذا توقظوه للسحور ؟.. أصوات النرد والدومينو والنداءات والصيحات تترامى من القهوة أسفل البيت. صياحه مع التلاميذ في خروجهم من المدرسة وبأيديهم المصاحف والأقلام والألواح والكراريس والدوي. تطلعه من النافذة المواربة إلى غياب أبيه في انحناءة الشارع العمومي. بكاء أمه المفاجئ في وقفتها ـ وأخواله ـ وراء الحاجز الحديدي ، وهو يمضى إلى داخل المطار ..» ( ).
    وهذا الوصف الصادق يجعلنا نتذكّر ما كان يراه نقاد الواقعية من "أن الأدب الصحيح هو الأدب الواقعي البعيد عن المثاليات المرتبط بأرضه، المصور للفترة التي عاشها الكاتب، والنابع من وجهة إنسانية سليمة بحيث يكون دافعاً إلى تحرير الإنسان، داعياً إلى السلام والمحبة والإخاء، وكل ما هو شريف ونظيف في الحياة"( ).
    ***
    2-الحوار( ):
    وهو جزء لا يتجزأ من نسيج القصة عند محمد جبريل، وقد عمد القاص إليه ليعرض به فكرة أو حدثاً، أو ينمي به الحدث ويطوره ، أو يرسم به شخصية ، وكان وسيلة لاستهلال بعض القصص، مثل قصة «السمّان لا يُطارد نفسه» من مجموعة «انعكاسات الأيام العصيبة»، وقصة «امتدادات» من مجموعة «انفراجة الباب»، وقصة «المحتسب» من مجموعة «حكايات وهوامش من حياة المبتلى».
    وتبدأ قصة «السمّان لا يُطارد نفسه» هكذا:
    «التمعت عيناها ببريق التذكر، وقالت في مودة:
    ـ هذا أنت؟! ..
    قال ويداه تهبطان بالحقيبتين إلى الأرض:
    ـ تسعة أعوام وربما عشرة .. أليس كذلك؟ ..
    سوّت ـ بلا وعي ـ خصلة الشعر المتهدِّلة على عينها:
    تقريباً كانت أياماً طيبة ..
    أشارت إلى الخادم، وقالت:
    ـ غرفة أربعة.
    حمل الخادم الحقيبتين، واتجه إلى السلم ..
    اتسعت ابتسامتها حتى ضاقت عيناها:
    ـ نفس الغرفة القديمة ..
    أضاف في تأكيد:
    ـ التي تطل على السوق ..
    ـ نعم، لم يتغيَّر شيء»( ).
    وتبدأ قصة «امتدادات» بداية حادة، نعرف منها أن الأسرة على وشك الانهيار، فالزوجة تريد أن تترك البيت، والزوج مريض:
    «قالت أمي:
    ـ أنت لن تظل تُدير البيت طول العمر ..
    قال أبي:
    ـ مادُمتُ أحيا فأنا سيد البيت ..
    ـ لكنك تكتفي بكتم أنفاسنا ..
    غلّف أخي نبيل جدّية نبراته بابتسامة:
    ـ لقد كبرتُ ومن حقي أحصل على الفُرصة ..
    اتجه أبي إلى أمي بنظرات متسائلة:
    ـ ماذا ينقصُك؟ ..
    أشارت بيدها إلى ما حولها:
    ـ كل شيء .. لازلتُ صغيرة، وأحتاجُ إلى الكثير الذي لا تفهمه ..
    ـ وأولادك؟ ..
    ـ سأصحبهم معي ..
    ـ وأظلُّ بمفردي؟ ..
    ـ أكّد الطبيب استحالة شفائك .. فهل أقضي ما تبقّى من عمري في تمريضك»( ).
    ومثل قصة «المحتسب» من مجموعة «حكايات وهوامش من حياة المبتلى»، حيث نجد في مطلعها:
    «قال السلطان لمحتسب العاصمة:
    ـ لماذا الضرائب والمكوس على حالها، منذ أعوام، دون زيادة؟
    قال المحتسب:
    ـ نحن نأخذ من كل الناس ما عليهم .. لا نُفلت أحداً ..
    ـ فلماذا لا تزيد قيمة الضرائب؟
    ـ ضجّ الناس من آخر زيادة .. فصدرت توجيهاتكم بإلغائها ..
    أطل من عيني السلطان غضب:
    ـ الطبيب الشاطر لا يُؤلم مريضه»( ).
    وقد تشتمل القصة القصيرة عند محمد جبريل على حوار قليل، وقد لا تشتمل على أي حوار. وإذا وُجِد الحوار فإنه يكون جزءاً من بنائها العضوي، ويكون عاملاً من عوامل الكشف عن أبعاد الشخصية، أو التطور بالحدث، أو تجلية غموض يكتنف الشخصية أو الفكرة المُراد التعبير عنها.
    ومن القصص التي يقوم الحوار فيها بدور محوري قصة "الرائحة" من مجموعة «هل؟!»، وهي تلك القصة التي تتناول محاولات تشويه الشخصيات الوطنية وإلقاء الشكوك على الزعماء الوطنيين على امتداد تاريخنا الحديث، وبطلها مؤرخ لا يُوافق على ما يراه يملأ الساحة من تيارات لا تلتزم الموضوعية فيما تكتب أو تقول.
    يقول السّارد على لسان المؤرِّخ عن تلك الرائحة التي يعاني منها: "طبيعتها الغامضة أشبه بتداخل الظلمة والأوراق النقدية ودورات المياه والحجرات المغلقة. تسري في الهواء، تتسلل إلى الأنف، تُضفي على النفس شعوراً بالانقباض والتوتر والخوف من المجهول الذي لا يدري مبعثه"( ).
    ولكي يُرينا أن البطل فحسب هو الذي يُحس بتلك الرائحة، فإنه يجري حواراً بينه وبين زوجته:
    "سأل زوجته:
    ـ ألا تشمين الرائحة؟
    قالت:
    ـ ليست جديدة .. بائع الطعمية تحت البيت من قبل أن نسكن ..
    ـ لا أعني تلك الرائحة .. إنها رائحة أخرى ..
    تساءلت:
    ـ هنا .. داخل الشقة؟ ..
    في تأكيد:
    ـ طبعاً .. طبعاً
    ـ لكني كما تعلم أحرص على تنظيف الأرض جيداً بالديتول، وأرش في الأركان ـ بعد ذلك ـ عطراً طيب الرائحة ..
    كأنه يحدث نفسه:
    ـ هل هو ذلك العطر! ..
    ـ إني أستعمله منذ سنوات ..
    ـ فمن أين تأتي الرائحة إذن؟!
    ـ لا أشم أية رائحة!"( ).
    إنه يحس برائحة نفاذة وغير عادية تُطارده، ولكن زوجته لا تشم هذه الرائحة، ويكشف التساؤل " فمن أين تأتي الرائحة إذن؟!" عن حيرته، التي يُعمِّقها الحوار في الفقرة التالية بينه وبين زوجته:
    سأل زوجته، وهو يسحب الغطاء على صدره:
    ـ هل تُعانين من القلق؟ ..
    توقف إصبعها على زر النور:
    ـ أنا؟ ..
    ـ أراكِ تُسرفين في تدخين السجائر ..
    زوت ما بين حاجبيها:
    ـ ينبغي أن أدخن السجائر أولاً .. لتصبح المشكلة بعد ذلك هي الإسراف في تدخينها! ..
    ـ كأنك لا تُدخنين؟! ..
    ـ طبعاً .."( ).
    وكان من الطبيعي أن يذهب لطبيب ليعالجه من تلك الرائحة "الغامضة، المثيرة، التي يشعر لقوتها ـ أحياناً ـ كأنه يوشك على الإغماء.
    "سأله الطبيب:
    ـ ماذا تشم الآن؟
    قال:
    ـ رائحة العيادة .. أدوية ومطهرات ..
    ـ ألا تشم تلك الرائحة التي تتحدث عنها؟ ..
    ـ لا! ..
    ـ فأين تُصادفك بالتحديد؟
    ـ في نافذة البيت .. في الشارع .. في المكتب .. حاولت أن أصل إلى مصدرها، قلم أوفق! ..
    أمال الطبيب رأسه. وضع قطرات في منخاريه، وانتظر قليلاَ:
    ـ ماذا تشم الآن؟ ..
    ـ رائحة هذه القطرة ..
    ـ وتلك الرائحة؟ ..
    ـ لا أشمها! ..
    هز الطبيب رأسه في حيرة"( ).
    إنَّ الحوار يكشف عن بشاعة مُطاردة الرائحة المُقلقة للسّارد / المؤرِّخ، الذي يشمُّ تلك الرّائحة في كلِّ مكان يتجه إليه. وتنتهي القصة بينما "تلفه الرائحة اللعينة، تُعمي عينيه، وتُضايق صدره، وتسري بتثاقل في رجليه"( ).
    وإذا كان من صفات الحوار الجيد ـ كما يرى حسين القباني ـ أن «يُساعد على رسم شخصيات القصة، لأن الشخصية لا يُمكن أن تبدو كاملة الوضوح والحيوية إلا إذا «سمعها» القارئ وهي تتحدث»( )، فإننا نرى الحوار عند محمد جبريل يقوم بدور بنائي هام في الكشف عن معالم شخصيات قصصه، ويـتآزر مع الوصف في القيام بهذا الدور، ونجد ذلك في قصة «القرية التي عرفت الحب» من مجموعته «تلك اللحظة من حياة العالم»، حيث يدور حوار بين عبد المولى (الخفير) وعطوة (الذي تتهمه القرية بأنه سارق دون بينة):
    يقول لعبد المولى وهو يرسم على وجهه ابتسامة طيبة:
    ـ خذ سيجارة ..
    يُطوِّح عبد المولى يده قائلاً ..
    ـ لا أُحب مال السرقة! ..
    ـ إذن .. تعال نلعب الطابة ..
    في عصبية:
    ـ لا أُريد.
    ـ لأني أغلبك ..
    ـ لأنك لص!
    ـ هل رأيتني أسرق؟
    ـ كنت قتلتك ..
    ـ هل يملك أحدكم الدليل على أنني السارق؟( ) .
    ويدور حوار بين عطوة وأبيه:
    « ـ عطوة ..
    ـ نعم يا أبي ..
    ـ أريد .. أريد أن أعقد معك اتفاقاً
    ـ إني ولدك يا أبي .. وخادمك ..
    علا غضب الرجل على محاولته أن يهدأ:
    ـ يا ابن الكلب .. من أين أتيت بهذا الأدب؟
    ـ وهل عهدتني بلا أدب؟
    ـ عهدتُك سارقاً ..
    ـ تلك تهمة باطلة ..
    ـ الواقع يؤكدها
    ـ كيف؟ ..
    ـ ساعة الجيب التي ورثتها من أبي، خلخال أمك التي قضت ثلاثة أيام لا تقرب الطعام حزناً على فقده، اللاسة الحريرية التي كانت مظهر وجاهتي الوحيد .. هه .. ماذا أقول؟ الساعة والخلخال واللاسة الحرير ... فماذا أقول؟
    ـ إني منصت لك ..
    ـ اعترافك يُسهِّل الاتفاق .. المسألة باختصار أني سأشتري منك كل ما تنوي سرقته .. والبيت أولى بأشيائه ..
    ثم وهو يهتف في عصبية:
    ـ ما رأيك؟
    في مرارة:
    ـ أوافقك يا أبي .. والآن أريد أن أبيع لك هذه الطبلية.
    ـ لكننا نأكل عليها ..
    ـ ألم نتفق؟ ..
    ـ إذن سأُعطيك عشرة قروش.
    ـ نصف جنيه لا ينقص مليما .. وإلا فسأبحث عن مشترٍ آخر »( ) .
    إن الحوارين السابقين بين الخفير وعطوة، وبين الأخير وأبيه يكشفان أن القرية تتهمه بأن عطوة لص، وأنه وراء ما سُرق من أشياء في القرية. بل إن أباه يؤكد أنه سُرِقتْ أشياء من البيت. وقد نجح الكاتب في هذا الحوار أيما نجاح، فقد أقنعنا أن عطوة لص، حتى نكتشف المُفارقة في النهاية حينما يحمل عطوة بندقيته ليُطارد اللصوص والكلاب التي تتهدّد القرية، حتى يُعيد إليها الحب والأمان الذي افتقدته كثيراً.
    وقد تعتمد بعض مقاطع قصصه على الحوار اعتماداً كاملاُ؛ فالمقطع الأخير من قصة "تلك اللحظة من حياة العالم" يحمل عنوان "الخطأ"، ويُشير إلى ما يُعاني منه العالم من كوارث، في حوار بين شخصيتين من شخصيات القصة، والوصف يحتل أقلَّ من سطرين، بينما يحتلُّ الحوار المقطع كاملاً، وهذا نصُّ المقطع:
    "تساءل، وأصابعه تُدير مؤشِّر الرّاديو بعصبية:
    ـ كم عددُ الضّحايا؟
    ـ قُتِل أربعةَ عشرَ مدنيا .. وأُصيب ستة وعشرون ..
    ـ ولكن .. كيف حدثَ ما حدث؟
    ـ إذاعة سايجون أكّدت أنَّ القنابل أُلقيت بطريق الخطأ .. القرية ـ كما تعلم ـ تقع في أقصى الشمال من فيتنام الجنوبية ..
    صادف موسيقى صاخبة .. فأدار مفتاح الصوت إلى أعلى مداه"( ).
    إن البطل المُقاوم في قصة "تلك اللحظة من حياة العالم" يستمع إلى الإذاعة، ويتحاور مع صديقه حول مقاومة الفيتناميين التي تُواجه بشراسة حرب أمريكا، فنجد الموت يهبط بالمجّان ـ أو عن طريق الخطأ ـ على قرية تقع في أقصى الشمال من فيتنام الجنوبية. وكأنه يقول: إن الموت إذا كان يهبط على من لم يُقاوم أو يُحارب، فلا يجب أن يخشى منه من يُقاوم ويعيش حياته مُحارباً عمّا يعتقده.
    وهكذا تآزر الحوار مع عناصر السرد الأخرى ليُثري القصة ويجعلها أكثر جمالاً واكتمالاً.
    وفي آخر مجموعات محمد جبريل القصصية "رسالة السهم الذي لا يخطئ" نجده يعتمد في بناء قصصه على الحوار، بل إن بعض قصصه تكاد تكون حواراً من أولها إلى آخرها، ومنها أقصوصته "الحكايات الأخرى" وهذا نصُّها:
    "فلما كانت الليلة الثانية بعد الألف ، قال شهريار :
    - تركتني في الليلة الماضية ، دون أن تبدئي حكاية تعدين باستكمالها هذه الليلة ..
    قالت شهرزاد :
    ـ اعترفت بأبوتك لأبنائك الثلاثة ، ووهبتني الحياة .. فلم أعد بجاجة إلى الحكايات لترجئ ما كان ينتظرني ..
    تلون صوته بحزن :
    ـ هل انتهت حكاياتك يا شهرزاد ؟
    قالت :
    ـ كنت أبتعد بالخيال عن الواقع ..
    أضافت وهي تتحسس الكلمات :
    ـ أما الآن ، فإن الواقع هو ما يجب أن تقتصر عليه حكاياتنا ..
    هتف في ضيق :
    ـ ورحلات السندباد، وحسن البصري، ومريم الزنارية، والجارية تودد، وشمس النهار، والورد في الأكمام، وحاسب كريم الدين، وعلي الزيبق، وست الحسن، والملك عمر النعمان، ومدينة الأبنوس، وحكايات الخليفة هرون الرشيد .. هل انتهى ذلك كله ، بعد أن اعترفت بأبوتي لأبنائي ، ورفعت عقابي عنك ؟..
    افتعلت ابتسامة في مواجهة التماع عينيه :
    ـ منذ اليوم ، لا يشغلني مصير أبنائي ولا حياتي .. إنما تشغلني حكايات رعاياك التي لم أحدثك عنها ، ولا أحد حدثك عنها ..
    هز رأسه بما يعني عدم الفهم :
    ـ الرعية !؟.. وهل للرعية حكايات ؟!..
    قالت شهرزاد :
    ـ إنها تفوق في غرابتها كل ما رويته لك في الليالي الألف ..
    ـ هل هي مثل حكايات طائر الرخ، وملكة الحيات، والمارد، والطير الأسود، ووادي الوحوش، وشواهي ذات الدواهي، ودليلة المحتالة، وزينب النصابة، وبحار المهلكات، والعفريت جرجريس، وملوك الجان ؟..
    ـ إنهم بشر .. يظلون بشراً .. لكن حياتهم لا تفترق عما يحياه الحيوان والنبات والجماد ..
    اعتدل شهريار في جلسته ، ومال بأعلى جسده :
    ـ فارو لي .. "( ).
    إن الحوار يكشف في هذا النص عن مسؤولية القاص الجديد في عصرنا، وأنه لا ينبغي ـ ولا يجب عليه ـ أن يحكي القصص الخيالية، وإنما عليه أن ينظر حوله ليجد الواقع أكثر غرابةً من الخيال، وإن عليه أن يقدِّم صوت البشر المقهورين في إبداعه القصصي.
    وهو يقدِّم في هذه القصة "شهر زاد" في صورة جديدة في الإبداع العربي المٌعاصر، صورة المرأة المهمومة بهموم الشعب، والتي تعرف عن معاناته ما لا يعرف زوجها الحاكم "شهريار"، وتعرف عن حكايات الشعب الغريبة وغير المألوفة ما تفوق في غرابتها كل ما روته "شهر زاد" القديمة، في حكاياتها الألف لشهريارها.
    وهو هنا يقدم صورة غير مألوفة لشهر زاد التي ألف القارئ أن يقرأها في استدعاء الشعراء المعاصرين لها "رمزاً للمرأة العربية التي مازالت تعيش أسيرة عصر الحريم، تنتهي آمالها عند تحقيق حياة مادية باذخة تفيض بالترف والدعة والخمول، حتى وإن لم يتجاوز دورها في هذه الحياة كونها مجرد جارية تُباع وتشترى ككل طرف هذه الحياة التي تحلم بها"( ).
    وتبدو شهر زاد منحازة إلى المستقبل، وهي تصف معاناة الشعب "إنهم بشر .. يظلون بشراً .. لكن حياتهم لا تفترق عما يحياه الحيوان والنبات والجماد .."، حيث تكشف هذه الفقرة من حوارها عن رؤيتها البصيرة لما يُعانيه أفراد الشعب في حياة قاسية "لا تفترق عما يحياه الحيوان والنبات والجماد".
    وكأن محمد جبريل من خلال استدعائه لشهر زاد ـ رمز الحكَّاءة في الأدب العربي ـ يطلب من الحكَّائين المعاصرين أن يلتفتوا إلى معاناة أبناء الشعب، وأن يكتبوا عن الطبقات الفقيرة التي تُعاني ، وتعيش حياة قاسية لا تليق بالبشر!
    لكننا نجد الحوار في بعض القصص يتحوّل إلى مُحاورة فلسفية، قد تصير عبئاً على بنائه القصصي، ويتضح هذا في بعض قصص مجموعته الأولى "تلك اللحظة من حياة العالم" (مثل قصتي: "القرية التي عرفت الحب" و"برج بابل")( ).
    ونأخذ مثالاً على هذا بعض حوار في نهاية المقطع الأول من قصة «برج بابل»:
    « ـ خير لي أن أكون سقراط معذباً من أن أكون خنزيراً راضيا
    ـ قالها جون ستيوارت مل.
    ـ وهل هناك كلمات لم يقلها أحد؟
    ـ وماذا كان يريد سقراط المعذب؟
    ـ الحقيقة.
    ـ وهل وجدها؟
    ـ مات وعلى شفتيه سؤال: من أن؟
    ـ وماذا تُريد أنت؟
    ـ الحقيقة.
    ـ وكيف تصل إليها؟
    ـ أن أكون سقراط المعذب.
    ـ ألست مؤمنا؟
    ـ أنا أريد الحقيقة .. ولو تحت شجرة.
    ـ أي حقيقة؟
    ـ حقيقة كل شيء ..
    ـ ألست مؤمنا؟
    ـ الإيمان عقل وعاطفة»( ).
    (يتبع)

  10. #10
    شاعر
    تاريخ التسجيل : Mar 2005
    المشاركات : 1,000
    المواضيع : 165
    الردود : 1000
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي

    إلا أن مثل هذا الحوار الذي لا يُضيف شيئاً ويكون عبئاً على العمل القصصي قليل في مجموعاته القصصية، وربما ينتمي زمنيا إلى فترة البدايات، فنحن لا نجده إلا في قصتين من مجموعته الأولى «تلك اللحظة».
    ويمكننا أن نقول إن الأديب في مجموعاته القصصية كان يستخدم الحوار أداة فنية بقدر ما يخدم بناء القصة، وأنه كان يُديره غالباً ببراعة ومقدرة فنية لافتة.
    ***
    3-الرمز:
    الرمز وسيلة إيحائية من أبرز الوسائل الفنية التي يستخدمها الأدباء المتمكنون من فنهم، وفي قصص محمد جبريل نرى استعمال الرمز في ثلاثة مستويات:
    أ-الرمز الإيحائي:
    وهو أن يوحي لك بما يريد أن يقوله، وهذا هو الرمز البسيط، مثل شخصيتي صابر عبد السلام وسلسبيل اللتين يرمز بهما إلى الشعب المصري ومصر في قصة "حكايات وهوامش من حياة المبتلى"؛ فصابر عبد السلام يُصر على السفر لأداء فريضة الحج، في الطريق البري نفسها التي سافر فيها أبوه لأداء الفريضة، ولكن الطريق مقطوعة (يشير إلى إسرائيل التي احتلت فلسطين، فمنعت انسياب الحركة البرية بين مصر والحجاز)، وصابر الذي يرمز إلى الشعب المصري يصفه المؤلف بهذه الفقرة التي تكشف عن خصائص الشعب المصري النفسية، وتنتهي بأمنية أن يعود التواصل بين أفراد الأمة العربية:
    "فاعلم ـ غفر الله لك ـ أن صابر عبد السلام كان يحمل قلباً ينبض بالرحمة، يُشرق النور في داخله، يغيث الملهوف، يُساعد المحتاج. يُقتِّر على نفسه ويُكرم ضيوفه، يحدث من يلقاه ـ للمرة الأولى ـ كأنه يعرفه من زمان. يُوقِّر الكبير والصغير، ويحترم الناس كافة. يعود المرضى. يُشارك في الأفراح والمآتم. يُساعد الغلابة والضعفاء والمنكسرين. يفيض بالمحبة تجاه الآخرين. حتى الذين يواجهونه بالإساءة، يغض النظر عن إساءاتهم، إلا فيما يتصل بكرامته … يُصلي الفروض في أوقاتها. يعشق النكتة والعبارة اللمّاحة. أمنيته التي كثيراً ما حدّث بها زوجته وأصدقاءه، هي السفر إلى بلاد الحجاز من الطريق نفسها التي سافر فيها أبوه عندما انتوى أداء فريضة الحج"( ).
    ومن الواضح أنه يرمز بالجملة الأخيرة "السفر إلى بلاد الحجاز من الطريق نفسها التي سافر فيها أبوه عندما انتوى أداء فريضة الحج" إلى زوال العائق المتمثل في قيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين العربية.
    وقد لاحظنا هنا أن الكاتب يلجأ إلى لغة تراثية أقرب إلى لغة الكتابات في العصرين المملوكي والعثماني، ويُقصد باللغة التراثية "اللغة التي يستوحيها الكاتب القصصي، "وترجع مفرداتها إلى نمط تُراثي معيَّن، كالنمط الأسطوري أو الصوفي أو التاريخي، أي أن التراكيب التي يستخدمها الكاتب … ترجع إلى لغة الكتابات التراثية، التي يستخدمها بعض المؤلفين القُدامى في كتاباتهم، وبخاصة الكتابات التاريخية والصوفية، ويستوحيها الكتّاب لتؤدِّي دلالة إيحائية ورمزية"( ) في عمله القصصي.
    ولعل اللغة التاريخية عنا تُساعد على إبراز رمز تواصل الأرض الإسلامية ـ قبل أن يقتطع اليهودُ فلسطينَ ـ وتكون اللغة هنا رمزاً إيحائيا أيضاً.
    ومن هذا الرمز الإيحائي شخصية "الأم" في قصة "العودة"، التي نرمز إلى مصر: العطاء، والأصالة، والسكينة، وشخصية "محمد يوسف المصري" في قصة "التحقيق" التي ترمز إلى الإنسان المُطارَد في أنظمة الحكم الشمولي، كما ترمز قصة" الرائحة" ـ في القصة التي تحمل العنوان نفسه ـ إلى العفن الذي يسود حياتنا بعد مرور أعوام طويلة على قيام الثورة في مصر، ويتمثل هذا العفن في عدم القدرة على الرؤية، الذي نتج عن التعتيم، وعدم إتاحة وثائق التاريخ الحديث والمعاصر ـ حتى أمام المتخصصين فيه ـ فيتناهى صوت أمام المؤرخ: "هل كان أحمد عرابي درويشاً أم بطلاً؟"( ) فلا يستطيع الإجابة.
    ويتضح الرمز الإيحائي في قصته "رسالة السهم الذي لا يخطئ" في المجموعة التي تحمل العنوان نفسه، حيث يتحدّث السارد عن الهنود الحمر الذين طردهم الوافدون الجدد في أمريكا من أرضهم. وتُشير القصة ـ من طرف خفي ـ إلى معاناة الفلسطينيين الذين طردهم اليهود من أرضهم.
    ويتضح الرمز الإيحائي في مثل قوله:
    "تكرر رفع العصي ذات الألسنة النارية في أيدي ذوي الوجوه الشاحبة . وتوالى سقوط الهنود قتلى. طردهم ذوو الوجوه الشاحبة خارج أرضهم، طاردوهم أينما ذهبوا، وكانت بنادقهم تحمل الموت دائماً ..
    ألفوا صوت النفير، يفاجئهم في الأماكن التي رحلوا إليها، يتصورون فيها ابتعادهم عن شر ذوى الوجوه الشاحبة، يتركون الخيام إلى مناطق أخرى يعرفونها، ويثقون أن خطوات الرجل الشاحب الوجه يصعب أن تصل إليها، لكن صوت النفير يقترب بعد فترة تطول أو تقصر، ويتكرر الفرار إلى مناطق أخرى ..
    نهب ذوو الوجوه الشاحبة، وحرقوا، ودمروا كل ما وجدوه في طريقهم. فرَّت ـ أمام الهجوم ـ قبائل بأكملها، استقلوا المراكب، أو ساروا على الأقدام ..
    قال الإعصار المدمر:
    ـ القطعان المتناثرة تغرى الصياد بها .."( ).
    والرمز الإيحائي لا يكتفي بالإشارة، وإنما ينطلق إلى تحديد المسؤولية، فلم يعد التحذير كافياً للناس ليتجنبوا ما وقع لهم:
    "فاجأني الرجل بالقول:
    ـ ما حدث للهنود على أيدي الأوروبيين مسؤولية الهنود أنفسهم ..
    قلت في تعجب:
    ـ هل هذه وجهة نظرك؟
    قال:
    ـ هذه هي الحقيقة ..
    ـ فارو لي ..
    أفسح لي كرسياً من الكتب المصفوفة عليه، فجلست ..
    وظل الرجل يروى ويروى، وأنا أخلى وجهي للحيرة .."( ).
    ب-الرمز التراثي:
    وهو استخدام شخصيات من التراث بمصادره المتعددة، لقدرتها على الإيحاء، وإثراء العمل، والتأثير في نفوس القراء.
    وقد استخدم المؤلف الرمز التراثي في رواياته، فاستخدم "أبا الطيب المتنبي" في روايته "من أوراق أبي الطيب المتنبي"، واستخدم رمز "الإمام" ـ في المفهوم الشيعي ـ في روايته "إمام آخر الزمان"، وهو ذلك الشخص الذي يجيء فيملأ الأرض عدلاً بعد أن امتلأت جوراً.
    وقد استخدم شخصية "الإمام" ـ أيضاً ـ في قصة "تسجيلات على هوامش الأحداث بعد رحيل الإمام"، ليشير إلى الحلم الذي يُعذَّب البشرية في بحثها الدائب عن الأمن والسكينة والاستقرار، بعد أيام الضنى والترقب والقلق( ).
    وفي قصة "الأستاذ يعود إلى المدينة" يستوحي شخصية "الأستاذ" في روايته "الأسوار"( )، وهي شخصية مثالية تقترب من شخصية السيد المسيح ـ عليه السلام ـ يقول عنها القاص: "كانت تصرفاته أميل إلى العفوية والبساطة. ولم يكن في نظراته ما يدعو إلى الريبة أو الخوف. كانت عيناهُ تلتمعان ببريق هادئ كأنه الطهر … شاركهم أغنياتهم وأحاديث الراحة من العمل، ارتاد بهم عوالم جديدة ـ استهوتهم ـ في آيات القرآن وأحاديث الرسول والحكم البليغة. دعوه ـ أحياناً ـ إلى الغداء، فلبَّى ببساطة طيبة"( ).
    ج-الرمز الكلي:
    حيث يتمدّد الرمز في ثنايا القصة، ليُشير إلى شيء، أو يشي به، كما في قصة "حدث استثنائي في أيام الأنفوشي"( )، التي تتحدّث عن أسراب السمّان التي غزت الأنفوشي، ثم ابتدأت تُقاسِم الناس المكان، وأصبحت حياة الناس تضيق يوماً فيوماً، إلى أن قرّروا وجوب مقاومة السمان، فالبديل هو الجنون!
    وليست أسراب السّمّان سوى إسرائيل، وحي الأنفوشي هو مصر، والناس هم المصريون. وهي قصة رمزية تُقدِّم نموذجاً للأدب الجيد، الملتزم بقضايا الوطن، وقد استطاع محمد جبريل أن يُقدِّمها في بناء فني محكم جميل لم يُغفل فيه الجمال مع الالتزام بهموم الوطن وقضاياه.
    وسنُلاحظ في القصة أن الرمز يتولّد من مجموع ما تُشير إليه الصورة كرمز موحَّد، لأنَّ علاقة الرمز بالصورة أقرب إلى علاقة الجزء بالكل، وإنَّ سمة الرمز الجوهرية إنما تولد من الأسلوب( )، ولذا سنستعرض القصة لنرى كيف استطاع القاص أن ينقل لنا رمزه من خلال النص:
    *وتبدأ القصة هكذا:
    "بعد أن استقرّت السمّانة فوق الصّاري المرتفع الخالي من العلم في الجانب الأيمن من سراي رأس التين .. ألقت نظرة متأملة على مباني السراي من حولها، والحديقة المرتفعة يُحيط بها سور مرتفع كحدوة حصان، والمباني المُقابلة للشاطئ تآكلت واجهاتها بملح البحر. والقوارب الصغيرة تناثرت فوق الرمال والشاطئ وطريق الكورنيش في تلك الأيام الخريفية التي تخلو من الحركة.
    تقافزت السمانة فوق الصاري وتهيّأت لمواصلة الرحلة، لكنها ـ في قرار مُفاجئ ـ غيَّرت طريقها، وعادت إلى شواطئ أوربا ..".
    يُقدِّم لنا القاص قصته من خلال السرد، فلم نر جملة حوار واحدة( ).
    والكلمة في السرد القصصي لابد أن تكون دقيقة قادرة على حمل المعنى وإشعاعاته، وهذا ما نُلاحظه بوضوح في الفقرة الأولى من القصة، فكلمة "استقرّت" توحي بالاطمئنان وعدم المقاومة، و"الصاري المرتفع" توحي بالهيمنة والتمكن، و"الخالي من العلم" توحي بزوال المجد وضياع الهيبة التي مكّنت العدو من أن يحتل القمة، و"حدوة حصان" تشبيه يوحي بالهوان الذي آلت إليه حال أمتنا، و"تآكلت" توحي بما فعلته السنون بنا، وكذلك "القوارب الصغيرة المتناثرة فوق الرمال والشاطئ" تُرينا الموات الجاثم، والذي يدل على كسل وركود حاليين، ويشف في الوقت نفسه عن حركة ونشاط في الماضي الذي صار أثراً.
    تكشف نهاية الفقرة عن أن السمان ـ إسرائيل ـ لم يستطع أن يعيش حياتنا، فقرّر أن يعود إلى شواطئ أوربا، وهنا إيحاء بأن إسرائيل لم تستطع أن تعيش حياة الشرق، فقرّرت أن تكون وجهتها أوربا، تعيش حياتها وتتقلّد زيّها!
    لو نظرت إلى الخريطة العربية التي تُشبه "حدوة حصان" لوجدت في الجانب الأيمن منها تستقر السمانة ـ إسرائيل.
    *في المقطع الثاني، والذي يمكننا أن نُطلق عليه عنوان "التسلل"، نرى السمان ينفذ إلى كل جزء من الأنفوشي:
    "في اليوم التالي قدمت ـ في الطريق نفسه ـ ملايين الأسراب من السمّان .. غطَّت الشاطئ والشوارع والأزقة وأسطح البيوت. تهادت من الأبواب والنوافذ إلى داخل الشقق والدكاكين. حتى الكبائن القليلة المغلقة في امتداد الشاطئ استطاعت ـ بوسيلة ما ـ أن تنفذ بداخلها..".
    ويُرينا هذا المقطع:
    ـ إصرار السمّان ـ العدو الإسرائيلي: "في اليوم التالي".
    ـ واحتشاده: "ملايين الأسراب" (لاحظ أن السرب يضم الآلاف).
    ـ هيمنت وتمكنه: "غطّت الشاطئ والشوارع والأزقة وأسطح البيوت".
    ـ قدرته على التسلل: "تهادت من الأبواب والنوافذ داخل الشقق" والدكاكين. حتى الكبائن القليلة المغلقة في امتداد الشاطئ استطاعت ـ بوسيلة ما ـ أن تنفذ بداخلها..".
    في نهاية هذا المقطع نرى الناس ـ العرب ـ وقد أخذهم هول المفاجأة فيما يشبه الاستسلام عاجزين عن المقاومة:
    بدا للناس من كثافة الأسراب، ودقة تنظيمها، وانتشارها في كل الأمكنة ـ عجزهم عن المقاومة. مالوا مؤقتاً إلى التريث؛ فرحلة السمّان لا تعرف التوقف.
    الجملة الأخيرة تكشف عن قدرة محمد جبريل على استخدام الرمز المشع، فالسمان ـ الرجل اليهودي ـ لا يعرف الاستقرار، هكذا قال الناس في دخيلة نفوسهم، وكأنهم يقررون: إذا كنا عاجزين عن المقاومة الآن فسيحل الزمن مشكلتنا بأن تهجرنا أسراب السمّان وتعود من حيث جاءت، أو ترحل إلى أرض أخرى.
    وهكذا يكشف المقطع الثاني عن تسلل السمان ـ إسرائيل، واستسلام الناس للواقع ومعايشتهم له، وأملهم في أنَّ مرور الزمن سوف يحل مشكلتهم مع السمان ـ إسرائيل.
    في المقطع الثالث يُعايش السكانُ السمانَ الذي يُنظِّم نفسه دون أن يُضايقهم، بل يُقدِّم السمّان القدوة لهم في العمل والتنظيم، وهذه مرحلة عاشتها أمتنا العربية مع العدو الإسرائيلي عقب الهزيمتين (1948م و1967م) حيث بدأ بعض المفكرين من دعاة الاستسلام والهزيمة يتحدّثون عن إسرائيل ومجتمعها العامل النشط المنظّم وسط صحراء الفوضى العربية!!:
    "هل يُعدُّ السمان نفسه لإقامة طويلة؟ لم يُحاولْ أنْ يُضايق الناس، ولا أن يسطو على ما يمتلكون، أو يدسُّ منقاره في شؤونهم الشخصية. أهمل حياتهم، فهم يحْيوْنها بمثل ما اعتادوا: النوم، والصحو، والعمل، والنقاش، والفِصال، والأخذ، والرد، واجترار الذكريات".
    يكشف الاستفهام في صدر الجملة عن قلق عابر في حياة الناس: هل سيُعايشهم السمان؟ وهل سيستقر فوق تراب أرضهم لمدة طويلة؟ ثم لا يلبث هذا الاستفسار أن يذوب وسط مُكابدة الحياة اليومية في النقاش والفِصال( ) واجترار الذكريات العربية.
    والكاتب في هذا المقطع يُزاوج بين الواقع والرمز في فنية مقتدرة: "أحسنت مجموعاته الانتشار؛ فهيّأت لنفسها الرزق، اكتفت بحجرة في نقطة الأنفوشي تدير منها أحوالها، أفرزت ـ من بين أسرابها ـ كل ما تحتاجه من جنود وعلماء وحرفيين وموظفين. حتى الصغار أقامت لهم مدارس ودور حضانة في حنيات السلالم والأدوار الأرضية".
    تتضح هذه المزاوجة في أن الواقع يكاد يُفصح عن نفسه من خلال الرمز في "جنود وعلماء وحرفيين وموظفين"( ) فهذه الطوائف الأربعة لا تكون إلا من بني البشر، وإذا كنا نقول: إن من مخلوقات الله الأخرى غير بني الإنسان جنوداً، فإننا لا يمكن أن نجد علماء وحرفيين وموظفين إلا في بني الإنسان.
    لكن القاص يعي أن سرده القصصي يتحدّث عن طائر السمّان، فمدارسه يجب أن تكون هي ودور الحضانة في "حنيات السلالم بالأدوار الأرضية" فهذه تُناسب الطيور، وفي الوقت نفسه تكشف عن معدن اليهود وذوات أنفسهم وخصائصهم؛ فالسلالم توحي بالتسلُّق، والأدوار الأرضية تكشف عن ضعتهم!
    وينتهي هذا المقطع بأن يبدوَ السمّانُ وكأنَّه يتعاون مع مجتمعه الجديد وناسه، بأن يتنازل لهم عمّا لا غناء فيه ولا نفع من ورائه.
    "أغنت الناس عما ألفوه ـ في الزمن الخالي ـ من الجري وراء أسراب السمان حتى يهوي مُجهداً في أيديهم، فتنازلت ـ بطيب خاطر ـ لموائد الطعام عن مرضاها والمصابين في الحوادث".
    في المقطع الأخير نرى الناس وقد أحسُّوا بوطأة تسلل العدو، يقرِّرون المقاومة، ويُمكن أن نُسمي هذا المقطع "الكشف".
    إن السرد يصل إلى نهايته من خلال جملة يبدأ بها هذا المقطع: "لم يعد في الأمر ما يُريب" يكشف عن تجمُّع كل الخيوط وظهور الحقيقة كفلق الصبح:
    "لم يعد في الأمر ما يُريب، استفاد الناس من حياة السمّان بصورة مؤكّدة: النظام، والهدوء وحب العمل، والكسب، والميل إلى عدم السهر. لكن شيئاً مُقلقاً تحرّك في النفوس، وتصاعد بالهمس، أثاره الملل والمخاوف والأسئلة. لاحظ الناس أنهم لم يعودوا يتصرّفون بمثل ما اعتادوا، وتنبَّهوا ـ وإن كان متأخِّراً ـ إلى ملايين الأعين والأنفاس القريبة، والمُقاسمة في المكان ـ مهما كان شخصيا ـ خلت التصرفات من العفوية التي كانت سمةَ أيامهم السابقة".
    إن هذه الجمل المتتابعة تعني أن الناس ـ العرب ـ في وجود السمان ـ إسرائيل ـ لم يعودوا أحراراً، وهنا نصل إلى النهاية الحاسمة، فقد صحا الناس من غفلتهم ليُقرِّروا أن المقاومة هي الطريق الأوحد للحياة الحرة الكريمة، لأن البديل هو الجنون:
    "بدا لهم استمرار الوضع ـ بصورته الحالية ـ غايةً في الصعوبة.
    تهامسوا .. وعقدوا الجلسات السرية .. وتبيّن لهم ـ بعد نقاش طويل ـ أن السكوت عن المقاومة ـ رغم كل شيء ـ طريق إلى الجنون".
    وهكذا رأينا قصة "حدث استثنائي في أيام الأنفوشي" قصة رمزية لم تلجأ إلى الغموض، ولا إلى البهلوانية الأسلوبية، بل قدّمت من خلال السرد حكاية الغزوة الصهيونية الشرسة الطارئة للأرض العربية، وفي النهاية طرحت سؤالاً من خلال بنيتها المفرطة في البساطة ـ وشأن الفن الجميل أن يطرح الأسئلة ـ هل نستطيع أن نعيش حياتنا بحق فنقاوم، أو نسكت ونرضى بالواقع فيكون هذا هو الجنون عينه؟
    والقصة رغم سردها المفرط في البساطة تسير في خطين متوازيين:
    1-خط الحكاية البسيطة عن السمان الذي استوطن حي "الأنفوشي" بمدينة الإسكندرية، وضايق الناس حتى قرّروا أن يُقاوموه.
    2-خط الرمز الذي بيّنّاه في قراءتنا هذه.
    ونستطيع أن نُقرِّر في النهاية أن قصة "حدث استثنائي في أيام الأنفوشي" للقاص محمد جبريل تُعطينا مثالاً طيباً للأدب الرمزي الجيد الملتزم بقضايا الوطن دون أن تقع في شِراك التسجيلية والتقريرية، ودون أن تهبط ـ رغم حرارة الرؤية وحدتها ـ إلى دَرَكِ الخطاب الفج. ثم إن لغة القصة لغة مكتنزة، مكثفة، محملة بدلالات لغوية وشعورية تُضيء الحدث وتكشف عن جوانبه دون أن تترهّل أو تسقط في شرك العشوائية؛ فكل كلمة بحساب، ولا نستطيع أن نحذف جملة واحدة دون أن يتأثَّر سياق العمل كله، وهذا هو منتهى الإحكام الفني.
    (يتبع)

صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. تجربة شعرية في أدب الطفل
    بواسطة براءة الجودي في المنتدى أَدَبُ الطِّفْلِ (لأطفالنا نحكي)
    مشاركات: 7
    آخر مشاركة: 18-09-2020, 10:02 PM
  2. دعوة على الغداء -تجربة اولى في القصة-
    بواسطة صهيب توفيق في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 7
    آخر مشاركة: 03-03-2014, 08:34 AM
  3. تجربة أولى في كتابة القصة السطر / تواضع قاتل
    بواسطة نادية بوغرارة في المنتدى مَدْرَسَةُ الوَاحَةِ الأَدَبِيَّةِ
    مشاركات: 14
    آخر مشاركة: 24-01-2012, 04:14 PM
  4. ردا على القصة القصيرة * لا صياح ... ولا نباح ... * للكاتب المغربي * محمد التطواني *
    بواسطة فدوى أحمد التكموتي في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 15-11-2007, 01:34 PM
  5. الجندي المفجوع/ اول تجربة لي مع القصة القصيرة
    بواسطة عمر رمضان في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 27-09-2006, 02:10 PM