صديقي أحمد،
وددت ألا أشركك في مأدبة طعامها علقم نتجرعه كل يوم، لولا أنك ألححت علي بأن أحكي لك عما يجري ها هنا في البلاد لأنه، كما تقول في رسالتك، اختلط عليك الأمر بين الحقيقة و الخيال، فأنت تسمع هنالك في غربتك أخبارا مفزعة و تقع عينك على مشاهد مروعة تجري هنا ، أبى عقلك هضمها.
يا صديقي،
ماذا أقول لك؟ إن الله اصطفاك كيلا تعيش أمورا يأباها..الإنسان، فخليق بك أن تحمده حمدا كثيرا، إذ رحمك من رؤية صورة جميلة رسمتها ذات يوم قطعة شعرية، هي الآن تتلطخ بالدماء و الدموع..و إنني أترجاك من كل قلبي ألا تعود، حتى تبقى البلاد في ذهنك مدى الزمن سنفونية عذبة تتشهاها الأذنن و قصيدة أزلية يرددها اللسان بكل الحب و الإخلاص.
أقول لك هذا لأننا، و منذ مدة ، لا نصبح سوى على الفاظ الموت التي ألفتها الألسن، حسبنا أنها عملة لم تعد تصرف في حاضرنا بعدما طوينا ليل الإستعمار..فالناس يلوكون ألفاظ الموت بتلذذ لا تفسير له، و يجترون ألفاظ الأسى بدلا من طعم الخبز الذي هربت رائحته العطرة.. و أضحت الأرواح يا صديقي، عبارة عن أرقام في بارومتر الإغتيالات اليومية، ترتفع و تنخفض خطوط الموت في منحنى خطير، أو إن شئت أرقاما في طرفي معادلة نتيجتها سالبة في كل الأحوال، و الرابح فيها خاسر لأن الكل ضحية الكل، و كرة الاتهام تنتقل من أعلى إلى أسفل و من أسفل إلى أعلى و في كل الاتجاهات، و لا أحد يعلم إلى أين منتهاها، و تبقى البراءة وحدها مجهولة النسب يتحاشاها الناس فرارا من الحقيقة و يفضلون ارتداء أثواب النفاق على أثواب المكاشفة..
و سأحدثك ، يا صديقي، عن الخوف الذي استعمرني ذات ليلة، و احتل جميع أركاني، و ذلك الخوف الجاثم في أضلعي لم يكن وهما كما كنت أقنع نفسي، بل حقيقة متجسدة كقطعة من البلاستيك ما انفكت تتضخم و تتضخم إلى أن صيرتني بالونا بلا قوة و لا إرادة..
ما أصعب، يا صديقي، أن تجد نفسك في لحظة كأنك لا شيء، تتألم و لا تحس، و حولك فراغ مريع لا تعلم كنهه أو مداه، أو كأنك الفراغ ذاته.. هكذا ألفيت نفسي، و هل تنتظر أن يبقى لك كيان حين تواجهك القسوة و إغراءاتها البشعة؟كيف ؟ و أنا أشهدت عيني الفاجعة..
سأحملك يا صديقي، جزءا من الكابوس الذي قض مضجعي أياما و ليال، و رجائي أن يمدك الله بالكثير من الصبر و التحمل لأنني أعرف عن قلبك رقته و رهافة إحساسه..
في ذلك الصباح، و أنا في طريقي إلى المخبزة التي تبعد عن الحي ببضعة مئات من الأمتار، تلك الطريق التي اعتدنا أنا و أنت و رزقي و علي، أن نذرعها ذهابا و إيابا كل مساء بعد الغروب ، نتبادل أجمل ما نحفظ من الأشعار وا لألحان، و نسر إلى بعضنا مغامراتنا العاطفية و نخطط لمستقبلنا ، فنبني تارة و نهدم ما بنينا تارة أخرى، ... فجأة.. وجمت.. لمحت جثتين تفترشان الطريق.. ثم كان هناك شيء ما يجذبني بقوة نحوهما، تبين الوجه الأول، كان وجها أليفا أعرفه و تعرفه,, و يتبين لي الوجه الثاني و كأنه ينظر إلي ، إنه وجه أعرفه و تعرفه..
يا لهول ما رأيت! تسمرت في مكاني لحظات بعد ذلك، و فقدت كل إحساس، و انهار بنياني، و كل ما أذكره فيما بعد، أن أشياء مجهولة اعترتني لم أستطع تمييزها، ثم وجدتني بقدرة قادر في البيت، حكيت بل رميت ما رأيت، و كان ما رأيت من نفسي أكثر و أكبر..كلما اقترب الليل..
كانا يا صديقي، مذبوحين في الليلة الماضية كما تذبح الكباش، و على بعد أمتار من الحي، و أنا أغط في نوم ..القطيع.. و من ذلك اليوم نسيت طعم الأشياء إلا طعم انتظار..الدور..