لقد ذكرنا فـي الحلقة الأولى أن الولايات المتحدة الأميركية قد قامت بتنفيذ خطتها، فـي نزع سلاح المسلمين، بالسير على ثلاث جبهات:

الجبهة الأولى: قتل المسلمين بتصميم نادر فـي زخمه، الجبهة الثانية: التدمير المعنوي للنفسية الإسلامية، الجبهة الثالثة: المباشرة بنـزع سلاح الإسلام بتحريف معانيه. ونفصل الآن هذه الجبهات:

ــــــــــــــ

الجبهة الأولى: قتل المسلمين بتصميم نادر فـي زخمه.

إن القتل هو القتل والتصميم على القتل هو نفسه فـي كل قتل. ولكن الزخم غير التصميم وغير القتل فهو يتعلق بغير هدف التصميم وغير هدف القتل، فله هدف خاص به. إن هدف الزخم من وراء القصف الذي وصل فـي شراسته أن كان يُـقصف قِـنّ دجاج بصاروخٍ، هذا الهدف هو من أجل قذف الرعب فـي قلب كل مسلم يؤمن بالله ورسوله والقرآن كما أنزله الله للناس أجمعين هدى لهم ورحمة بهم. هدى لهم لأن التزام هدي القرآن والسنة النبوية يؤدي إلى سعادة العيش فـي الدنيا والخلود فـي جنات النعيم السرمدي. ورحمة بهم لأنه ينقذهم من شقاء العيش وتعاسته وبؤسه فـي الدنيا ومن العذاب الأليم الشديد فـي الآخرة. وقد رافقت هذه الشراسة فـي القتل حملة إذلالٍ لكل حاكم فـي بلاد المسلمين. حيث لم تكتف أميركا من هؤلاء الحكام أن يخدموها واقفين بل تريدهم أذلةً لها صاغرين، فزادتهم ذلاًّ على ذل علماً بأنه لم يصدر عن مجموعهم موقف يعارض قتل المسلمين لا فـي السابق ولا فـي الحاضر. لكن قصد إذلال الحاكم كان إذلال الفرد المسلم. كأنه قول صارخ من أميركا: اعلم أيها المسلم أن الذي يقدر على إذلال حاكمك وحكومتك قادر على إذلالك ومصادرة أموالك. وحتى مصادرة حريتك بالاعتقال وروحك بالقتل الصاروخي بموافقة حاكمك وتعاون قواد الجيوش ووزراء الحكم وعلماء الحكومات فـي بلادك! إذا اقترن فهم الزخم النادر أو ربطه فـي التصميم على قتلٍ غير مبرَّرٍ للمسلمين، مع إذلالهم غير المبرر فـي وسيلته، يتضح أن مقصود هذا الاقتران بالعمل هو قلب طاولة التاريخ فـي موضوع كراهية الأوروبيين للإسلام.

إنَّ النفس الأوروبية نفس بشرية فـي طبيعتها، بريئة فـي بدايتها كنفس المسلم. لكن فـي تراثها وثقافتها ترتوي من أفكار الباطل لتتشكل عقليتها بما عليه عقلية برلسكوني وشيطانةُ الإنكليز .. عقلية تستبيح ظلم الحق فـي كل قولٍ، وإنكارِ برهانِ الواقع فـي كل فكر. عندما أنكرت سيدتهم حق المسلمين بالاحترام لم تقل ذلك اعتباطاً بل قناعةً أن جنس الشياطين خيرٌ من جنس البشر. بمعنى أنَّ فكرَ الكفرِ وعقيدةَ التضليلِ خيرٌ من فكرِ الإيمان وعقيدة التوحيد التي جاء بها الإسلام. وعندما صرَّح برلسكوني بأن الحضارة الإسلامية لا ترقى إلى درجة حضارة الغرب الهابطة فـي حقيقتها، لم يقل ذلك اعتباطاً بل قناعةً أن اللص خيرٌ من الشخص المسروق أو من الذي يمنع السرقة. بمعنى أن مفاخرته واستعلاءه بحضارته عن حضارة المسلمين هو فـي واقعه أن حضارةَ الغرب منذ بدءِ تلك الحضارة مع الإمبراطورية الرومانية فـي وثنيتها ونصرانيتها كانت حضارة نهبٍ وسرقةٍ لكنوزِ الشعوب المغلوبة، فكيف تقارن مع حضارة الإسلام التي كانت تمنع النهبَ والقتلَ للنهب، وتحملُ أفكارَ الحياة والموت والبعث للنفوس الحائرة فـي سبب وجودها وسبب موتها. فحضارة الإسلام تطرح حياة السعادة بديلَ شقاء الحياة أمام كل عقل. وهي ليس لها فـي ثروة الناس شأن إلا أن يكون دور تلك الثروة مزيداً فـي قدرة تعميم الخير على الغني والفقير، وسبيلاً من سبل الحياة فـي طاعة الله صاحب قرار المصير فـي جنةٍ أو نار. إن حضارة برلسكوني التي يتعالى بها برلسكوني وسيدتهم تاتشر، وقد يلحق بهما مئات من أسياد الجيوش، وملايين ومئات ملايين من أبناء الأرض من أهل الضلال، هي حضارةُ اغتصابِ عِـرضٍ ومالٍ وحقيقةٍ فـي عقلٍ وبرهان.

نعترفُ أمام برلسكوني وهو مَـنْ هو فيمَ يُـتَّـهم به. نعترفُ أمام الابن فـي البيت الأبيض الذي يبرُّ أباه فـي حفظِ تراث العائلة فـي قتلِ المسلمين. نعترفُ أمام سيدتهم. نعترفُ أمام آلاف الملايين وأسياد الجيوش التي تقتلنا، وأسيادِ الجيوش فينا الذين يتفرجون على قتلنا: إننا حضاريون على غير نهجِ حضاريّـي الديمقراطية. وإننا على حضارة الإسلام التي أكرمنا الله بها لنحيا عليها بِـفِـطرة الإنسان. وإننا مصممون أن لا نجاري حضاريي أوروبا بالعيش فـي وِديان الانحطاط الفكري والشقاء النفسي الذي تعيش فيه شعوبهم. ولن نهوي للعيش فـي حضارة الضلالِ والتضليلِ التي يتبناها ويعيش بها أمثالهم. وإن الفرق بين حضارة الإسلام وحضارة الغرب هو الفرق بين الكفر والإيمان، هو الفرق بين العاقل وغير العاقل. وننصحكم، إن كنتم تعقلون، ننصحكم أن تستعجلوا النظرَ فـي مصدر حضارة الإسلام ومصدر حضارة فرضِ السيطرةِ للاستغلال؛ حضارتكم، هل يلتقيان؟ وننصحكم بالنظر فـي وِجهة نظرِ الحياة فـي حضارة الإسلام ووِجهة نظرِ الحياة فـي حضارة فصل المصير بعد الموت عن طريقة العيش فـي الحياة، هل يلتقيان؟

ثم بعد ذلك انظروا فـي طبيعة زخم التصميم النادر فـي قتل المسلمين الذي جرى فـي أفغانستان وفـي العراق، ليس إلا لأن أميركا مسكونة بعداوتها للإسلام والمسلمين، تنظر إليهم باستعلاء، وترنو للسيطرة على بلادهم وثرواتهم، وطمس حضارتهم. فإذا وقف المسلمون فـي وجهها قالوا لماذا تكرهوننا وتكرهون حضارتنا؟!

الجبهة الثانية: التدميرُ المعنوي للنفسية المسلمة.

إنَّ هذا التدمير أكثر خطرا من قتل المسلمين الذي تحمس له الشعب الأميركي بنسبة 90٪ وهي أعلى نسبة إجماعٍ على قتلٍ جماعي فـي القرن الماضي. إن خطة تدمير النفسية المسلمة لم تعتمد إيقاعَ القتل وحده، بل جعلت القتل يترافق مع حملة تخويفٍ بالتصفية الجسدية لكل مسلم فـي وجوده وماله وأهله. ومع أن الشعب المسلم لم يأبه لحملة التخويف الأميركية إلا أن الحكام فـي بلاد المسلمين، فـي أي مستويات الحكم، أو مستويات السلطة العسكرية لا يملكون مقوِّمات الخوف والجرأة، ولا يملكون حقَّ القبول أو الرفض فـي أي أمر تأمره به الدولة صاحبة النفوذ. لقد تعهدت جميع أجهزة الحكم فـي بلاد المسلمين بالموافقة على قتل المسلمين عندما تدعو حاجة أميركا إلى ذلك. وكان كل واحد منهم "المشرَّف" برويز فـي موقعه، أدى دوره فـي تذليل العقبات والتدجيل على المسلمين فـي أنَّ السير مع أميركا فـي عملية قتل المسلمين أمرٌ لا بد منه. لقد اقتضت حملة تخويف النفس المسلمة من أجل تدمير النفس المسلمة، اقتضت ليس انحياز الحاكم أو نظام الحكم إلى أميركا فحسب بل تخلي الحاكم أو النظام عن دوره فـي حماية رعيته. ثم قامت أجهزة إعلام الأنظمة التي تبنت تبرير خطة التخويف بفرض الخوف فرضاً فـي نفس المسلم التي انتزعوا منها كل لباسٍ يقيها الخوف. بما تبثه من سموم وما تعلنه من تبرير لجرائم أميركا ضد الإسلام والمسلمين.

لقد عمدت أميركا، فـي حملة التخويف للتدمير النفسي، إلى إصدار لوائح بأسماء مسلمين على أنهم إرهابيون، وإلى تصنيف جمعيات خيرية بحجة أنها تموِّل إرهاباً. ولقد وافق حكام المسلمين على القرار الأميركي الجديد فـي حق المسلمين؛ وأصبح كلُّ مَـنْ يعارض أميركا فـي قول من أقوالها، أو يجابهُ مؤامرةً أميركية فـي نهب ثرواتِ المسلمين هو إرهابي. وكذلك فإنَّ من تشك بهم أميركا أنهم يكنون مشاعرَ غيرَ ودية لها تصنفهم إرهابيين. ولو بقيت هذه اللوائح أو التصنيفات وثائق عند أميركا وحلفائها الغربيين لما كان تأثيرها كبيراً، لكن هذه اللوائح والتصنيفات اتخذت برامج عمل عند الحكام فـي بلاد المسلمين، ووضعت موضع التنفيذ. لقد قامت جميع الحكومات بفرض تجميد أرصدة الأفراد والجمعيات الذين شكّـت أميركا بنياتهم. واستدعت وحققت مع مَـن عندها من الأفراد والجمعيات المصنفين. بل إن الحكام تبرؤوا من هذه الأسماء حتى إنَّ البعض حاول أن ينكر مواطَـنَـتَـهم بالاسم بعد إنكارها بالفعل. والبعض الآخر كحاكمِ اليمن قرر إعلان "الجهاد" العام ضدهم، وجرَّد الجيوش لقتلهم، لا لاعتقالهم، لأن التحقيق معهم قد يكشف كذبَ أميركا فـي العالم، ويبين أن تصنيفها ليس هدفه المصنفين، بل الذين هم خارج التصنيف؛ عموم أمة المسلمين. تماماً كما كان قتل المسلمين فـي أفغانستان ليست غايته قتل مَـن جرى قتله بل موت مَـن لم يُـقتل بأن يحيا ميتا!

إن حملةَ تدميرِ النفسية فـي المسلمين هي حملة فـي تسويق الخنوعِ المطلق لأميركا قامت بها لتحقيق هدفين؛ الأول إبدال خوف الله فـي قلوب المسلمين بالخوف من معصية أوامر أميركا أو معارضة خطة سياسة أميركا فـي بلاد المسلمين. الهدف الثاني تحويلُ أنظمةُ الحكمِ العميلة لها أو العميلة للإنكليز إلى مخافر شرطةٍ تأتمر بإدارة الأجهزة الأمنية الأميركية مباشرة. ووضع الملفات الشخصية والمالية لجميع المسلمين تحت المراقبة المباشرة لأميركا فـي كل وقت. لقد خضعت الأنظمة لهذا الهدف وأضافت له رغبتها واستعدادها لتسليم أي فردٍ من رعيتها لظلم الافتراء الأميركي. لقد ظهر بشكل مادي محسوس أن الحاكم هو العدو الأول لشعبه، وأنه حين يحكمهم بالقهر والتجسس والسجن والتعذيب إنما يحكمهم تنفيذاً لأوامر أميركا ورغباتها، وأنه خائن لربه ودينه وأمته، خانعاً لأميركا ذليلاً دون أن يتظاهر حتى بالتذمر! ليس لأنه لا يحس بالإذلال بل ليفرض على المسلمين التسليم بقبول الإذلال والرضا بالعيش به وبما يفرضه من التسليم المطلق لسياسة التدمير للشخصية الإسلامية فـي نفوس المسلمين.

إن من نتائج حملة التدمير النفسي هو الضياع المعنوي، لكنه لا يتحقق إلا إذا انفلتت النفسُ من رباطها بفكرها العقدي. فإنه بقدر وضوح الفكرِ العقدي عند المسلم يكون مستوى فشل أميركا فـي حملتها فـي تدمير نفسية المسلم، وبقدر غموضِ الفكر العقدي يكون مستوى نجاحها فـي تدمير هذه النفسية. ولذلك فإن تمسك المسلم بعقيدته، وانضباطه بأفكار الإسلام وأحكامه كفيل بإفشال حملة التدمير النفسي التي تشنها أميركا على المسلمين، وبالتالي منع الضياع المعنوي من أن يكون له مكان بين المسلمين. وهذه الحقيقة تدركها أميركا وتعلم أن بقاء الإسلام حياً فـي النفوس يحبط خططها ويبطل كيدها، ولذلك كانت الجبهة الثالثة من الخطة التي وضعتها أميركا لنـزع سلاح الإسلام بتحريف معانيه بأفواه المحسوبين على الإسلام زوراً وبهتاناً.

الجبهة الثالثة: فرض المباشرة فـي نزع سلاح الإسلام بتحريف معاني الإسلام بأفواه أصحابِ العمائم والمثقفين فـي فنِّ دَجَـلِ الكلام.

[يتبع]