أحدث المشاركات
صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 13

الموضوع: المحرقة

  1. #1
    الصورة الرمزية ابن الدين علي قلم نشيط
    تاريخ التسجيل : Sep 2006
    الدولة : الجزائر
    المشاركات : 557
    المواضيع : 112
    الردود : 557
    المعدل اليومي : 0.09

    افتراضي المحرقة

    لما بدأ نور الشمس ينبعث بصعوبة خلف الغيوم الداكنة, فتحت عائشة باب الغرفة الساكنة بتأن و تسللت داخل الغرفة الباردة تمشي على أطراف أصابع رجليها حتى لا توقظ الحاج زيدان مخافة أن تقطع عنه لحظات النوم القليلة التي كانت تيسر له بعسر بعد كل ليلة مهولة مفزعة أبطالها الأشباح و وسائلها السكين و النار و الحطب ... و ديكورها الدم في كل مكان ... لكنها لما اقتربت منه وجدت جثته الطاعنة في الشيخوخة المبكرة قد اختفى منها كل أثر للحياة. عائشة لم تبك ولم تولول, بل عبرت عن إرتياح ممزوج بالأسى بتنهيدة عميقة, و كأن المشكلة لم يكن لها من حل سوى هذا الذي حدث بعد أن إستعصت عليها و عليه و على الأطباء لم تتكلف عائشة الدموع أمام المعزيات... كانت تقنعهن أنه إرتاح إلى الأبد من عذابه الذي لازمه منذ عودته من الحج.

    لقد استنفذ زيدان حيوية عائشة و استهلك شبابها و أذبل جمالها, و لم تسعفها الظروف كي تسعد بزواجها كما تسعد الزوجات مع أزواجهن, طالما انتظرت الاستقلال لتتمتع بحياتها معه, لكن بعد الاستقلال انتابه مرض عصبي خطير عذبه و عذبها معه.

    عائلته كانت تسكن البادية,أبوه الحاج سليمان كان يملك قطيعا من الغنم و البقر يذر عليه ثروة جعلت منه إنسانا مرغوبا فيه و من كلمته كلمة مسموعة وسط مجالس الدوار ...و كان يريد أن يورث أبناءه هذا العز و هذا الجاه.

    لما بلغ زيدان العاشرة من عمره إنكب أبوه على تعليمه أمور الرجولة: كركوب الخيل و تركه مع قطيع الغنم وحده ليلا في الخلاء كي ينتزع من قلبه كل أثر للخوف, ثم واضب على تعليمه ذبح الغنم و سلخها في أسرع وقت, بدأ زيدان مع مرور الوقت يتفنن و يتقن أمر الذبح و السلخ, ولم يكتف أبوه بذلك بل وجهه إلى ذبح و سلخ الماعز, لأن سلخها أمر عسير إلا على المقتدرين, فكان يأمره بقبض تيس و تكبيله ثم ذبحه و ترك جثته ليلة كاملة في البرد, و في الصباح الباكر يوقظه ليسلخ التيس فكان عند حسن ظن أبيه و صار يشعر بهذا الإمتياز أمام أقرانه و قد تفوق حتى على الكبار, إذ أضحى مضرب المثل في هذا الميدان.
    أصبح يحب هذا العمل و يفرح كلما قدم عليهم ضيف أو ضيوف من ذوي الجاه, يفرح لأنه سيقوم بمهمته التي شغف بها.

    كان الثوار يقصدون عائلته من حين لآخر طلبا للإستراحة و المؤونة, لم يكن الحاج سليمان يتأخر في إكرامهم, إذ يأمر إبنه ليقوم بمهمته, فيذهب زيدان يختار ضأنا سمينا و ما هي إلا لحظات حتى تكون رائحة الشواء قد ملأت الفضاء و الحناجر... لم يكن الثوار يخفون إعجابهم و دهشتهم من هذه الخفة و الرشاقة الأمر الذي كان يزيده إعجابا بنفسه واعتدادا بها.

    بعد أن بلغ زيدان مرحلة الشباب واشتد عوده, أصبح والده يسمح له بالجلوس للسمر مع الكبار بعد العشاء و شرب الشاي في حضرتهم.
    بينما يكون الثوار و الحاضرون صامتين, يبدأ القائد في توجيه حديثه إليهم لتوعيتهم عن أهداف الثورة, و عندما ينتهي من حديثه, يلتفت إلى الحاج سليمان سائلا إياه :" هل من أحد يضايقكم من الخونة؟ ... ثم يتوجه القائد إلى الجميع ليواصل:" تعلمون مصير الخونة ما هو؟ ... هو الذبح كما تذبح الشاة.. " هذه العبارة توقظ زيدان الذي كاد أن ينام, يحمر وجهه, فيعتدل في جلسته و يأخذ في الانتباه أكثر ليتتبع الحديث فيلفت بذلك انتباه القائد الذي يتوجه إليه بالحديث و قد أعجبته فتوته و شبابه: "نعم يا بني, الخائن هو الذي يخون بلاده عند العدو.. مثل هذا الشخص هو عدونا الأول أكثر من المستعمر ... إذا كان المستعمر يستحق القتل بالرصاص أثناء المواجهة , فالخائن عقابه أن يكبل كما تكبل الشاة و يذبح ذبحا..". زيدان لم يسمع من قبل أن الإنسان يذبح ... هي أول مرة . هو الذي كان يتقن ذبح الشاة و سلخها هاهو اليوم يكتشف أن الذبح يتعدى الحيوان ليصل إلى الإنسان. يتدخل الحاج سليمان و أصابعه تعبث بلحيته الكثة السوداء ليقول متضاحكا:" ابننا زيدان فنان في هذه الصنعة..."
    بعد مغادرة الثوار الخيمة و يتفرق الجمع, يخرج زيدان وسط الظلمة الحالكة:" إنسان يربط كما تربط الشاة و يذبح ذبحا.." لا يستطيع أن يتصور ذلك ثم يذهب إلى فراشه محاولا النوم. في الصباح تسأله أمه:" زيدان ما بك البارحة, بت تتخبط في فراشك و تنهض بين الحين و الآخر مفزوعا... أ كنت مريضا؟" يجيبها و هو يحك عينيه متثائبا:" رأيت أشياء أخافتني... رأيت فيما يرى النائم أنني كبلت إنسانا كما تعودت أن أكبل الشاة و..." . كان أبوه على مقربة منهما فتدخل مخاطبا زوجته:" بدون شك لقد تأثر بحديث القائد البارحة.."ثم يلتفت إلى زيدان و يردف قائلا:" ستتعود على مثل هذه الأخباريا ولدي و الأيام كفيلة بأن تروضك على سماعها دونما انزعاج.."

    في إحدى الأمسيات الهادئة بعد العصر بقليل, بينما كان زيدان مع غنمه يرعاها غارقا في مشاهدة الخيمة التي كانت تبدو له و كأنها نقطة صغيرة في تلك الصحراء الشاسعة, سمع دويا ظنه صوت الرعد من بعيد, ثم شاهد أشكالا صغيرة تطير في الفضاء حسبها غربانا, كانت تقذف أشياء سوداء و ما إن تصل الأرض حتى يتصاعد دخانا كثيفا و تحدث قعقعة, بسرعة نهض و حث غنمه على العودة. بعد وصوله وجد الخيمة قد تناثر شعرها بفعل ضربات الحديد النارية, ثم اقترب أكثر فشعر بعظمة الكارثة, إذ وجد جثث أسرته مترامية الاشلاء إلى جانب أشلاء بقرتهم, حتى النعاج لم تجد الزريبة التي تعودت أن تدخلها مساء فبقيت واجمة في مكانها.
    ..........يتبع

  2. #2

  3. #3
    الصورة الرمزية حسام القاضي أديب قاص
    تاريخ التسجيل : Mar 2006
    الدولة : مصر+الكويت
    العمر : 63
    المشاركات : 2,213
    المواضيع : 78
    الردود : 2213
    المعدل اليومي : 0.34

    افتراضي

    اخي الفاضل الأديب / ابن الدين علي
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    مرحباً بك مرة أخرى بعد غياب.

    مقدرتك القصصية واضحة كالعادة لا غبار عليها..
    قصتك مشوقة ومليئة بالتفاصيل ، وخاصة خلفية بطل قصتك .. نشاته وتطورها ..وهذه بعض من سمات الروائي .
    ننتظر الباقي ، ولكن لم نعرف جنس هذا العمل هل هو قصة قصيرة ام رواية؟( يمكنك ان تنوه عن هذا في هامش أسفل الصفحة ).

    تقديري واحترامي .
    حسام القاضي
    أديب .. أحياناً

  4. #4
    الصورة الرمزية وفاء شوكت خضر أديبة وقاصة
    تاريخ التسجيل : May 2006
    الدولة : موطن الحزن والفقد
    المشاركات : 9,734
    المواضيع : 296
    الردود : 9734
    المعدل اليومي : 1.49

    افتراضي

    أخي ابن الدين علي ..

    سأنتظر البقية ..
    بداية الجزء الأول يبشر بقصة رائعة .

    تحيتي .
    //عندما تشتد المواقف الأشداء هم المستمرون//

  5. #5
    الصورة الرمزية حنان الاغا في ذمة الله
    أديبة وفنانة

    تاريخ التسجيل : Nov 2006
    الدولة : jordan
    المشاركات : 1,378
    المواضيع : 91
    الردود : 1378
    المعدل اليومي : 0.22
    من مواضيعي

      افتراضي

      استمتعت حقا بقراءة هذا الجزء ، للنفس الجميل والحدث المتصاعد جيئة وذهابا
      جميل
      ابن الدين علي
      بشوق للمتابعة
      تحياتي

    • #6
      الصورة الرمزية ليال قلم نشيط
      تاريخ التسجيل : Apr 2003
      المشاركات : 982
      المواضيع : 35
      الردود : 982
      المعدل اليومي : 0.13

      افتراضي

      سرد مشوق ..ورسم ماهر لتفاصيل دقيقة ، كذلك أعجبتني طريقتك اعتمدها بالبدء من النهاية أوما يعرف بطريقة الفلاش باك ..وبرغم الدموية الحاضرة بقوة في خلفية القصة إلا أنها كما لاحظت تحتوي على إضاءات إنسانية عميقة ومؤثرة ..أنا كما البقية أنتظر البقية
      أصدق تحياتي وأطيب تمنياتي
      .

    • #7

    • #8
      الصورة الرمزية ليال قلم نشيط
      تاريخ التسجيل : Apr 2003
      المشاركات : 982
      المواضيع : 35
      الردود : 982
      المعدل اليومي : 0.13

      افتراضي

      أخونا ابن الدين علي
      اسمح لي أن أدرج رابط الجزء الثاني من هذه القصة لمن لم يتنبه لوجوده ..القصة مشوقة بالفعل و جديرة بالقراءة ولي عودة بإذن الله
      المحرقة (الجزء الثاني)

    • #9
      عضو غير مفعل
      تاريخ التسجيل : Dec 2006
      الدولة : في عقل العالم ، في قلب الحكايات
      المشاركات : 1,025
      المواضيع : 36
      الردود : 1025
      المعدل اليومي : 0.16

      افتراضي

      الأخ / ابن الدين علي

      استمتعت بهذا السرد القصصي بيد وأتوقع أن تكون التتمة رائعة فحبذا أن ترفعها لنا إن كانت موجودة

      كان هذا مروري الأول

      لك كل الاحترام والتحية

      مأمون

    • #10
    صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة

    المواضيع المتشابهه

    1. المحرقة...
      بواسطة ريمة الخاني في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
      مشاركات: 19
      آخر مشاركة: 15-12-2023, 08:57 PM
    2. المحرقة تابع(2)
      بواسطة ابن الدين علي في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
      مشاركات: 5
      آخر مشاركة: 25-01-2023, 12:33 PM
    3. رغم المحرقة متحدين *اهداء لاخي العقيد ابي المعتصم/شعر لطفي الياسيني
      بواسطة لطفي الياسيني في المنتدى أَدَبُ العَامِيَّة العَرَبِيَّةِ
      مشاركات: 2
      آخر مشاركة: 30-10-2008, 03:58 PM
    4. المحرقة - مهداة إلى شهداء غزة الصامدين
      بواسطة فارس عودة في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
      مشاركات: 13
      آخر مشاركة: 02-06-2008, 12:30 AM
    5. المحرقة ،، شعر ،، عبدالرحيم الحمصي
      بواسطة عبدالرحيم الحمصي في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
      مشاركات: 12
      آخر مشاركة: 15-04-2008, 03:08 PM