لما بدأ نور الشمس ينبعث بصعوبة خلف الغيوم الداكنة, فتحت عائشة باب الغرفة الساكنة بتأن و تسللت داخل الغرفة الباردة تمشي على أطراف أصابع رجليها حتى لا توقظ الحاج زيدان مخافة أن تقطع عنه لحظات النوم القليلة التي كانت تيسر له بعسر بعد كل ليلة مهولة مفزعة أبطالها الأشباح و وسائلها السكين و النار و الحطب ... و ديكورها الدم في كل مكان ... لكنها لما اقتربت منه وجدت جثته الطاعنة في الشيخوخة المبكرة قد اختفى منها كل أثر للحياة. عائشة لم تبك ولم تولول, بل عبرت عن إرتياح ممزوج بالأسى بتنهيدة عميقة, و كأن المشكلة لم يكن لها من حل سوى هذا الذي حدث بعد أن إستعصت عليها و عليه و على الأطباء لم تتكلف عائشة الدموع أمام المعزيات... كانت تقنعهن أنه إرتاح إلى الأبد من عذابه الذي لازمه منذ عودته من الحج.
لقد استنفذ زيدان حيوية عائشة و استهلك شبابها و أذبل جمالها, و لم تسعفها الظروف كي تسعد بزواجها كما تسعد الزوجات مع أزواجهن, طالما انتظرت الاستقلال لتتمتع بحياتها معه, لكن بعد الاستقلال انتابه مرض عصبي خطير عذبه و عذبها معه.
عائلته كانت تسكن البادية,أبوه الحاج سليمان كان يملك قطيعا من الغنم و البقر يذر عليه ثروة جعلت منه إنسانا مرغوبا فيه و من كلمته كلمة مسموعة وسط مجالس الدوار ...و كان يريد أن يورث أبناءه هذا العز و هذا الجاه.
لما بلغ زيدان العاشرة من عمره إنكب أبوه على تعليمه أمور الرجولة: كركوب الخيل و تركه مع قطيع الغنم وحده ليلا في الخلاء كي ينتزع من قلبه كل أثر للخوف, ثم واضب على تعليمه ذبح الغنم و سلخها في أسرع وقت, بدأ زيدان مع مرور الوقت يتفنن و يتقن أمر الذبح و السلخ, ولم يكتف أبوه بذلك بل وجهه إلى ذبح و سلخ الماعز, لأن سلخها أمر عسير إلا على المقتدرين, فكان يأمره بقبض تيس و تكبيله ثم ذبحه و ترك جثته ليلة كاملة في البرد, و في الصباح الباكر يوقظه ليسلخ التيس فكان عند حسن ظن أبيه و صار يشعر بهذا الإمتياز أمام أقرانه و قد تفوق حتى على الكبار, إذ أضحى مضرب المثل في هذا الميدان.
أصبح يحب هذا العمل و يفرح كلما قدم عليهم ضيف أو ضيوف من ذوي الجاه, يفرح لأنه سيقوم بمهمته التي شغف بها.
كان الثوار يقصدون عائلته من حين لآخر طلبا للإستراحة و المؤونة, لم يكن الحاج سليمان يتأخر في إكرامهم, إذ يأمر إبنه ليقوم بمهمته, فيذهب زيدان يختار ضأنا سمينا و ما هي إلا لحظات حتى تكون رائحة الشواء قد ملأت الفضاء و الحناجر... لم يكن الثوار يخفون إعجابهم و دهشتهم من هذه الخفة و الرشاقة الأمر الذي كان يزيده إعجابا بنفسه واعتدادا بها.
بعد أن بلغ زيدان مرحلة الشباب واشتد عوده, أصبح والده يسمح له بالجلوس للسمر مع الكبار بعد العشاء و شرب الشاي في حضرتهم.
بينما يكون الثوار و الحاضرون صامتين, يبدأ القائد في توجيه حديثه إليهم لتوعيتهم عن أهداف الثورة, و عندما ينتهي من حديثه, يلتفت إلى الحاج سليمان سائلا إياه :" هل من أحد يضايقكم من الخونة؟ ... ثم يتوجه القائد إلى الجميع ليواصل:" تعلمون مصير الخونة ما هو؟ ... هو الذبح كما تذبح الشاة.. " هذه العبارة توقظ زيدان الذي كاد أن ينام, يحمر وجهه, فيعتدل في جلسته و يأخذ في الانتباه أكثر ليتتبع الحديث فيلفت بذلك انتباه القائد الذي يتوجه إليه بالحديث و قد أعجبته فتوته و شبابه: "نعم يا بني, الخائن هو الذي يخون بلاده عند العدو.. مثل هذا الشخص هو عدونا الأول أكثر من المستعمر ... إذا كان المستعمر يستحق القتل بالرصاص أثناء المواجهة , فالخائن عقابه أن يكبل كما تكبل الشاة و يذبح ذبحا..". زيدان لم يسمع من قبل أن الإنسان يذبح ... هي أول مرة . هو الذي كان يتقن ذبح الشاة و سلخها هاهو اليوم يكتشف أن الذبح يتعدى الحيوان ليصل إلى الإنسان. يتدخل الحاج سليمان و أصابعه تعبث بلحيته الكثة السوداء ليقول متضاحكا:" ابننا زيدان فنان في هذه الصنعة..."
بعد مغادرة الثوار الخيمة و يتفرق الجمع, يخرج زيدان وسط الظلمة الحالكة:" إنسان يربط كما تربط الشاة و يذبح ذبحا.." لا يستطيع أن يتصور ذلك ثم يذهب إلى فراشه محاولا النوم. في الصباح تسأله أمه:" زيدان ما بك البارحة, بت تتخبط في فراشك و تنهض بين الحين و الآخر مفزوعا... أ كنت مريضا؟" يجيبها و هو يحك عينيه متثائبا:" رأيت أشياء أخافتني... رأيت فيما يرى النائم أنني كبلت إنسانا كما تعودت أن أكبل الشاة و..." . كان أبوه على مقربة منهما فتدخل مخاطبا زوجته:" بدون شك لقد تأثر بحديث القائد البارحة.."ثم يلتفت إلى زيدان و يردف قائلا:" ستتعود على مثل هذه الأخباريا ولدي و الأيام كفيلة بأن تروضك على سماعها دونما انزعاج.."
في إحدى الأمسيات الهادئة بعد العصر بقليل, بينما كان زيدان مع غنمه يرعاها غارقا في مشاهدة الخيمة التي كانت تبدو له و كأنها نقطة صغيرة في تلك الصحراء الشاسعة, سمع دويا ظنه صوت الرعد من بعيد, ثم شاهد أشكالا صغيرة تطير في الفضاء حسبها غربانا, كانت تقذف أشياء سوداء و ما إن تصل الأرض حتى يتصاعد دخانا كثيفا و تحدث قعقعة, بسرعة نهض و حث غنمه على العودة. بعد وصوله وجد الخيمة قد تناثر شعرها بفعل ضربات الحديد النارية, ثم اقترب أكثر فشعر بعظمة الكارثة, إذ وجد جثث أسرته مترامية الاشلاء إلى جانب أشلاء بقرتهم, حتى النعاج لم تجد الزريبة التي تعودت أن تدخلها مساء فبقيت واجمة في مكانها.
..........يتبع