المؤامرة
-الحمد لله على السلامة !
قالها السائق والتفت إلينا وقد رسم على شفتيه بسمة رضا أراد أن تكون رسالة لا تستطيع حملها الكلمات .
كانت رحلة مجهدة, بدأت بلقاء صاحبيَّ علي و عقبة , وائتمرنا على سرٍ بيننا , ثم انطلق كل واحد يبلغ من خلفه من الثقات , ويختم حديثه قائلا :
الانطلاق الساعة الثانية عشرة ليلاً عند أبي بكري .
كنا نلتقي بشكل شبه يومي عند السمان أبي بكري نتداول آخر الأخبار بروح مرحة ساخرة , تخفي وراءها آراء متباينة يحاول كل واحد إيصال رأيه إلى الآخرين بثوب الفكاهة والمرح ذاك !
قطع الصخب المتعالي صوت احدهم :
- جاء أبو حسين
وتوقفت سيارة أبي حسين جانب الحانوت وانطلقنا واحداً تلو الآخر نمازح أبا حسين بشيء من الهرج الظاهر إلى أن صعدنا جميعاً بينما أغلق أبو بكري حانوته وانطلق إلى بيته .
التفت إلى السائق ؛ هيا انطلق.
انطلقت المركبة إلى فضاء المؤامرة تلك ثم توقفت أمام منزل عقبة على صوت احد المتآمرين : أين عقبة ؟!
وساد لغط لا تكاد تفهم منه شيئا , وميزت من بين العبارات , كلمه يا سعيد !
أخرجت هاتفي وطلبته , وبعد رنات طويلة جاء الرد باردا ممطوطاً :
- آلوووو مييييين !
-أنا سعيد , أين عقبة ؟
ارتفعت حدة الصوت القادم فجأة وقست لهجته وبعصبية ظاهرة جاء الرد :
- دعوه وشأنه , ماذا تريدون منه, لا تتصلوا به ثانية .... ... , وأغلق الهاتف .
-يا رجال هذا والده لا يريد له أن يرافقكم , وكأني سمعت صوته بعيدا مخنوقاً متوسلاً ؛ انتظروني أرجوكم !
- إذن فقد أفشى السر لأهله
بعد فترة من الترقب والانتظار جاء أخوه لينبئنا بأمره ؛
- لقد منعه والدي من الذهاب معكم وقيده بالحديد, وهو يرجوكم انتظاره بعد نصف ساعة عند صيدلية أبي معروف, في طرف المدينة.
تداولنا الأمر فيما بيننا وخلصنا إلى ما أراد عقبة من ابتعادنا , يريد أن يوهم والده بسفرنا فيرق للطبيب الحاذق المثقل بالحديد فيطلقه .
مضينا في غايتنا , عند أبي معروف كانت المفاجأة , والد عمر وأخويه ينتظروننا ودون مقدمات وبصوت واحد - أين عمر ؟
اجبنا دون تردد , ليس معنا يا سيدي , وبهدوء انسحب عمر إلى الحيز الخلفي الإضافي حيث أدواتنا فاندس بينها متواريا , شيئاً فشيئاً ارتفعت حدة صوت أبي عمر , وتحت إصراره لم نجد بداً من فتح الباب الخلفي ليجدوا عمر متواريا فيخرجونه عنوة , ثم يرمقنا والده بنظرة احتقار أسقطت سنوات من الاحترام والثقة بلحظة واحدة !
نظر بعضنا إلى بعض بعين الخيبة
- انطلقوا يا رجال
-ألن ننتظر عقبة ؟
-لا , أخشى من مفاجآت أخرى
وأذعن الجميع, فالطريق طويلة اختصرت منا عقبة وعمر ولمَّا نبدأ رحلتنا بعد , بقي على متن المركبة السائق الذي تكفل بنقلنا إلى غايتنا ورفيقَا سفرٍ يؤنسا طريق عودته ,علي وأخوه , وطارق الذي يمت بصلة قرابة إلى علي, لا اعلمها على وجه الدقة, ومروان اخو طارق, وبرغم أنهما شقيقان إنما فوارق كثيرة بينهما , زادت عليها أسمال مروان تباينا, لكن حديثها يوحي بأكثر من الالفة والمودة والاحترام , رحت أراجع ذكرياتي عن طارق علّي أجد تفسيرا لهذا التباين الذي استرقني , وشيئا فشيئا سرحت مع الذكريات
الطريق أمامنا ممتدة طويلة تبدو لانهاية لها , والليل مدلهم ونسمات ربيعية باردة تلفح الوجوه الجامدة الخالية من التعابير إلا من عيون متسعة تبدو كأنها كهوفاً لا قرار لها , ومسحة من الوجوم تغشى الوجوه.
انكسر حاجز الصمت بضحكة مقهقهة من علي , وهو ينظر إلى قصاصات ورقية أخرجها من جيبه قائلاً :
هذه الرسالة من مروة ابنتي وهذه من ابني حسام وقد أوصياني بعدم فتحهما قبل أن ابلغ غايتي , أتصدقون أكاد لا اصبر على الانتظار واجد نفسي تراودني على فتحهما ... , لقد تمكن الصغيران من العبث بي , لا بأس سأصبر قليلا , أما أخي الأصغر هذا فقد عهدته إلي أمي وودعته بدمعة باكية حينا وضاحكة أخرى ... حالة من الهذيان ... انه الأحب إلى قلبها , عجيب أمر حماتك يا طارق .
أخرجتني هذه الكلمة من استغراقي لتفسر ما استعصى علي من سر التباين بين الأخوين , إذن هي سعة ويسر حال الزوجة
عدت ثانية إلى استغراقي عشرون عاما إلى الخلف لم يتغير عليّ من الأمر شيئ إلا ما أجد في نفسي من الطمأنينة و الرضا وابتسامة خفيفة واثقة رغم كل الغليان الذي يعتمل في داخلي , قلت لنفسي :
- كانوا يقولون غارق في المراهقة والطيش , ماذا يقولون الآن عني وقد قاربت الأربعين ؟!
التفت إلى الصحب لأجدهم غارقين في أحلامهم , ساعتين والمركبة تنطلق بسرعة كبيرة ولم نتجاوز ثلث الطريق , رن جرس الهاتف ؛ انه عقبة !
آلو عقبة اين انت ؟!
وبصوت متهدج مزيج من الفرح والرجاء انتظروني أرجوكم, استأجرت سيارة خاصة لألحق بكم , أين انتم الآن؟
- ماذا جرى معك يا عقبة
- سأشرح لك لاحقا فقط اخبرني أين انتم
- حسنا سأكلمك بعد قليل عند أول استراحة تصادفنا
أبا حسين – وبروح مداعبة - لقد تخلص عقبة من الأسر , انه الآن على الطريق سننتظره عند اقرب استراحة للمسافرين .
- طيب على بركة الله
واستمر هدير المحرك على نمطه دون أن يأبه لمجريات الأحداث, كثيرا ما يخيل إلي أن الجمادات تعرف ما تريد أكثر منا نحن بني البشر , تمضي في طريقها مطمأنة مستقرة لا تحيد عن هدفها , و تتنازعنا الأهواء والرغبات, نابية قاصية طاغية حادة, لا تلبث أن تتهذب أطرافها وتلين جوانبها وتستقيم في أواخر العمر .
لم ادر كم مضى من الوقت عندما أفقت على صوت أبي حسين
- سعيد ها قد بلغنا استراحة الرشيد, قم وكلم عقبة
تناولت هاتفي وطلبته
- آلو عقبة نحن ننتظرك في استراحة الرشـ...ـيب .... بيب ....بيب !
أيعقل هذا؟! انقطع الاتصال !
لا بأس سأعيد الكرة : آلو ... آلو استراحة الرشـيد ... الرشـ ...يب ... بيب ...بيب بيب !
وقبل أن أعاود , رن جرس الهاتف انه عقبة :
- آلو الرشيد فهمت فقط انتظروني أرجوكم ... انتظ ... بيب ... بيب ... بيب !
إذن لقد وصلت الرسالة و علينا أن ننتظر الوقت نفسه الذي قطعته السيارة تبتلع ما تيسر من الطريق دون تململ, يزيد قليلا أو ينقص قليلا !
و تسلل النعاس إلى أجفاني ثقيلا طاغياً , ولم أفق إلا والفجر مستطيرا واثقا مبشرا بنهار جديد , وصوت عقبة فرحاً ضاحكاً كزقزقة العصافير .
- عقبة الحمد لله على السلامة , ما جرى لك يا رجل
- قيدوني بمجرد أن علموا بما عزمت عليه
- وكيف علموا بالأمر
- كان لا بد أن اخبر أختي على الأقل , لقد غالبتها وفضحتها دمعتها ولم تستطع إخفاء الأمر
- وكيف تحررت من قيدك
- أطلقوني بعد أن اطمأنوا إلى ابتعادكم , وها انذا لم آلُ جهدا في اللحاق بالركب
قطع الحوار صوت أبي حسين
- سنصلي الصبح ثم ننطلق
وتبادرنا إلى الوضوء والصلاة, ثم تزودنا من استراحة الرشيد بما يعيننا على بلوغ غايتنا , وانطلقت بنا المركبة تنهب الأرض نهبا , لكأنها أكثر منا شوقا لبلوغ مأربنا !
وبدأ شعاع الشمس يتسلل من وراء الأفق وئيدا واثقا يرتسم لامعاً على شطب النخيل يلونه بأشعة ذهبية فيبدو وكأنه تيجان ملكية مركوزة على جذوع متسامقة نحو السماء , تنتظر عمالقة عجنتهم الصحراء بشظف عيشها , و رسمت لظى شمسها المحرقة على وجوههم , و أورقت في دمائهم عذوقاً تبشر بمواسم الفرح .
وبدت الظلال مستلقية طويلة لانهائية لصيقة بالبلاقع و التلاع , تنكمش كلما تسلقت نجداً وتتعاظم فيما وراءه من الوهاد , وكلما ارتفعت الشمس توارت الظلال خلف الجذوع إلى أن انتصف النهار فغدت مجرد قطع ممزقة تتلبس الجذوع لتجلو ما جرحت منها السنون.
وانتبهت ثانية إلى صوت أبي حسين:
- لقد وصلنا !
- الحدود عند هذا الساتر الترابي الذي ترونه
وبدت على شفتيه ابتسامة الرضا تختصر الغاية التي جاء من أجلها , تفضلوا بالنزول , وعانقنا جميعاً ,شد الله من أزركم , سأعود إلى عملي , وقفل راجعاً مع صاحبيه.
بنظرة فاحصة سريعة مسحت المكان , ساتر ترابي مرتفع يعلوه غطاء نباتي زاحف يستلقي على جانب الساتر يمتد حينا إلى الأرض , ويتقلص أخرى فلا يكاد يغطي أكثر من القمة , فيبدو الساتر طويلا ممتدا إلى اليمين واليسار كطرة ثوب قدته يد عابث فبدت قليلة التهذيب , وعلى بعد خطوات من الساتر صف من الجنود يفصل الواحد عن الآخر ما لا يزيد عن مئة خطوة , في وسط الساتر بوابة عريضة يخترقها الطريق الإسفلتي وكلما اقترب النظر من البوابة تقلصت المسافة بين الجنود المدججين بالسلاح حتى يتزاحموا بالأكتاف في عمق البوابة , وجنح بي الخيال لأتصور في الطرف الآخر من الساتر صفاً مشابها من الجنود .
بعيداً عن الساتر رجال متجمعون وفرادى , إذن لم نكن وحدنا المتآمرون !
تشاورنا الامر فيما بيننا
- هل ستعبرون البوابة
- لا , مجرد العبور من البوابة خطر مقيم في هذه الظروف
- وكيف سنعبر وهذا الطابور اليقظ من الجنود الممتدين على طول الساتر , ومثلهم في الجانب الآخر منه
وانقسمنا مجموعتين علي وأخوه وعقبة يعبرون البوابة , والآخرون لابد لهم من مكان في الساتر الترابي بعيدٍ عن أعين الجنود, و نلتقي في ذاك المسجد الذي تلوح مئذنته على بعد بضعة كيلومترات
وقبل أن ينطلق علي اخرج الرسائل من جيبه , ليقرأها ودفعنا الفضول
- اسمعنا يا علي
- حسنا هذه رسالة مروة ؛ احبك يا بابا , وأرجوك أن تعود بسرعة وتحضر لي شجيرة من حدائق بابل المعلقة , أعلقها فوق سريري , مع السلامة.
- أما حسام , ونفرت دمعة من عين علي ثم قال بصوت متهدج ؛ لا أعرف كيف خرجت بعيدا عن ناظريه , كان يصر على مرافقتي وعندما غبت عنه ويئس من مرافقتي أعطى الرسالة لأمه , ليعبر فيها عن حبه وحنقه ؛ انتظرك يا بابا و لا تنس أن تحضر لي مسدساً كبيراً , رافقتك السلامة .
وانطلقا وعلي يخفي انفعالا شديداً على وجهه لمحته من طرف خفي , لم يشأ أن نراه فتهتز المعنويات
استودعكم الله , رافقتكم السلامة .
عدت وصاحبيَّ طارق ومروان وأنا اعتصر ذهني باحثا عن طريقة نعبر بها, أراجع في ذهني قبعة الإخفاء , وحصان علاء الدين , و ساقي شيبوب وقلب عنترة وسيف الزير , وكلما عدت من الخيال إلى الواقع اصطدمت بالساتر الترابي وصف الجنود على مقربة منه كأنهما سور في سجن كبير يمتد على محيط الوطن !
- طارق لنبتعد عن البوابة علنا نجد ثغرة ننفذ منها
وسرنا على مهل باتجاه اليمين على مسافة من السور الكبير , وبدأ عدد الجنود بالتقلص كلما ابتعدنا عن البوابة و أوغلنا في المسير حتى ظننا أن ذاك الذي يلوح من بعيد هو آخر صف الجلاوزة !
وكلما اقتربنا بدت الصورة أكثر وضوحا إنهما جنديان يتنادمان , لا بل جندي وشخص آخر لعله أحد الرعاة وشيئاً فشيئاً بدأ الصوت يطرق مسامعنا وبدت حدته واضحة , شيخ في الستين من عمره جلدته قسوة الحياة فلم تبق منه سوى جلد مغضن كوته الشمس وجذع منتصب لا يبدو عليه اثر للإنحاء ونشاط لا تجده في أقرانه يدور في جدل لانهاية له مع جندي طويل القامة مفتول العضل , الساتر الترابي من خلفهما تكلله سوق العرقد خضراء زاهية مقبلة على الحياة لا تخجل من دقة سوقها بقدر ما تتيه بأشواكها الحادة المعقوفة وكأنها أطراف خناجر تتحدى كل من يجرؤ على الاقتراب منها, وتناهي إلي صوت الشيخ ؛
- سأعبر ولن تمنعني , وانطلق نحو الساتر الترابي وتبعه الجندي لثنيه عن عزمه مرغماً , ودار بينهما عراك غير متكافئ , ثم تهاوى الجندي متدحرجاً وتبعه العجوز ينزع عنه سلاحه وذخيرته وينطلق ليختفي خلف الساتر الترابي
- التفت إلى صاحبيَّ , ينبغي إن نتخذ قراراً سريعا في هذه اللحظات العصيبة , ودون تردد انطلقنا نعبر الثغرة التي أحدثها العجوز في جدار العرقد .
كل عام وانتم بخير .