الوطن س / لم يكن أحد يتصور أن الخطر الذي قد يدهم الهدنة التي سعى إليها أبو مازن سيأتي من داخل البيت الفتحاوي وليس من حركتي حماس والجهاد الإسلامي اللتين أبدتا انضباطا مثاليا، وهذا يعكس حالة الفوضى التي تمر بها حركة فتح وعدم انضباط أطرها.
يتمثل الشرخ الواضح في حركة فتح بالانقسام الهائل بين القاعدة والقمة، فالأعضاء التقليديون في اللجنة المركزية وهي أعلى الأطر القيادية في حركة فتح لم يتغيروا منذ 13 عاما ،ولم تجر أي انتخابات كما يطالب أفراد الحركة الذين يمثلون قاعد الحركة خاصة الجيلين اللذين خاضا الانتفاضتين دون أن يشعروا بأن لهم صوتا مسموعا أو دورا في اتخاذ القرار السياسي .
وتمثل كتائب شهداء الأقصى الحالة الناقمة الأبرز لهذه القاعدة ومن هنا كان التفاوض مع مروان البرغوثي بين الفصائل الفلسطينية بخصوص الهدنة، وليس مع الرئيس ياسر عرفات، الأمر الذي أثار غضب الأخير وكاد أن يعصف بالهدنة لولا تدخل عوامل محلية وعربية ودولية في الأمر.
وفي قطاع غزة مثلت "لجان المقاومة الشعبية" الشق المماثل لكتائب شهداء الأقصى حيث واصلت عملياتها مما هدد بانهيار الهدنة بعد قيام إسرائيل بإغلاق شارع صلاح الدين، ولولا تدارك حركة فتح للأمر لضاع كل شيء حيث جرى حوار مكثف مع اللجان وتم احتواء الأمر.
وعلى الرغم من أن الأمور سارت بعد ذلك بشكل جيد في الشارع الفلسطيني الذي ساده الهدوء إلا أنها لم تسر على ما يرام داخل حركة فتح حيث احتد الخلاف ضد أبو مازن داخل اللجنة المركزية التي يسيطر أبو عمار على أعضائها، فيما يتقلد ناصيتها هاني الحسن وزير الداخلية السابق والذي لم ينس ثأره مع أبو مازن الذي استبعده من منصبه لصالح محمد دحلان، وكذلك الدكتور صائب عريقات الذي أقصى بصورة مذلة من حكومة أبو مازن ،وصخر حبش المعروف بتبعيته المطلقة لعرفات الأمر الذي جعل المراقبين يشبهون مشاركة أبو مازن في اجتماعاتها بالكمين.
فقد وجد أبو مازن نفسه وسط اجتماع عقد في مقر الرئيس حيث طرحت قضية مناقشة سياسة المفاوضات مع إسرائيل استعدادا للقاء أبو مازن - شارون و هذه المسألة كانت في الواقع إسفينا معداً لأبو مازن وقد أعد الكمين بصورة جيدة، ففي البداية طلب من أبو مازن أن يقدم تقريرا عن إنجازات حكومته في المباحثات، خصوصا في القضايا الحساسة مثل إطلاق سراح السجناء الأمنيين ورفع الحصار عن مدن الضفة.
وبعد أن قدم أبو مازن تقريرا قصيرا قال في ختامه: "إسرائيل لم تطبق أياً من تعهداتها". وقبل أن يتمكن من إنهاء كلماته صدرت الإشارة بالانقضاض حيث صرخ عليه هاني الحسن:"لتستقل من رئاسة الوزراء".
وفي زاوية من قاعة الاجتماع جلس عرفات طوال تلك الفترة صامتا. أما السلاح فقد كان أعطاه للموالين له في لقاءات مسبقة، ولم يكن عليه في هذه الحالة أن يرهق نفسه.
وقد حاول أبو مازن الاحتفاظ بهدوئه. بقي صامتا، وعندما تزايدت الصرخات غادر المقاطعة وانغلق في منزله ليكتب رسالتين. في الأولى كتب: "إذا كانت سياسة حكومتي لا تروق للجنة المركزية لفتح فإنني أعبر عن رغبتي في الاستقالة من اللجنة".والرسالة الثانية وجهت لعرفات، وكانت لاذعة: "سنشكر فخامة الرئيس إذا أشار لنا ما هي السياسة التي يرغب بها بالضبط حتى تتمكن الحكومة من التأكد إذا كانت قادرة على القيام بالمهمة، وإلا فإنني سأستقيل من منصبي".
ووفق التقارير فإن أبو مازن استغل هذه الفرصة حتى يسوي حساباته، ليس فقط مع معارضيه الداخليين،وإنما مع أصدقائه في إسرائيل والولايات المتحدة أيضا الذين رغبوا جدا في اختياره. تهديد الاستقالة من اللجنة المركزية وجه للداخل، أما تهديد الاستقالة من الحكومة فقد كان رسالة موجهة لإسرائيل والولايات المتحدة.
وتقول التقارير إن عرفات لم يقبل الاستقالة، فالرئيس الذي تتأرجح حياته بين الأزمات ويعرف كيف يستغلها لتحقيق أهدافه عرف في هذه المرة أيضا بأن عليه ألا يشد الحبل زيادة عن اللزوم، حيث سيحاول أن يسجل قضية إطلاق سراح السجناء في رصيده الكفاحي، أما أبو مازن فقد أدرك أن من المحظور عليه أن يستقيل من رئاسة الحكومة لأن ذلك يعني تحطيم قوانين اللعبة وانهيار عملية وقف إطلاق النار وخريطة الطريق والعودة إلى مربع الحرب.