ناظـــر للوطـــن
وقف بالشرفة المطلة على ساحة المدرسة , قلب نظره الحاد بيننا , أعلنت الهيبة عن وجوده , اعترض ببصره عقارب ساعة اليد , أعطى الإشارة للساعي بدق عنق الجرس , أقيمت الهياكل الأولية لصفوف الطلاب بعد عناء المدرسين ,وقف رؤساء الصفوف على روءوس صفوفهم , يعدلون من إعوجاجها نحو الإستقامة , يتأكدون من خلو الممرات البينية من الحقائب الضالة , لحظات لم تطل كثيراً , أصبحت خلالها ساحة المدرسة أشبة بكتيبة عسكرية ,الجميع يختلسون النظرات من الشرفة القائمة فوق رقابهم , يحاولون إجتذاب الرضا من الرقيب العتيد , يتابع تحركاتهم بدقة خارقة , لا يتهاون مع أي خلل يصل إلى حدود شعوره , ينطلق من هدوئه الصارم مندداً بالمتسبب في هذا الخلل , دون أن يبني مسافات بين طالب أو مدرس , كان يحمل دائماً الحزن بعينيه , هاجر به من وطنه إلى هنا , تمسك لسانه بلهجة بلاده التى تميزه , جاء ليغرس بذور رسالته من جديد بأرض غير أرضه ,بعد أن ترك خلفه جثثاً لأشجار وارفة تأكل من جذورها أقوام لا ترحم ,كان يعلمنا كقائد يعد جنوداً لمهمة حربية , يبدى اهتماماً زائداً بحصص التربية الرياضية , يتطفل بمعلوماته الثرية على مدرسي التاريخ , يصرخ فينا عندما تنهشنا موجات البرد الصباحية : لا تنكمشوا على أنفسكم كالدجاج , تعلموا الجَلد يا خير أجناد الأرض . كنا نشعر بأنه يستأمننا على أمل دفين داخله , فتتضارب مشاعرنا نحوه بين الحب , الهيبة ,أو الخوف , يعرف كل طالب تحيط به أسوار المدرسة , يحفظ أسمائنا كأنه هو من أختارها لنا ,يلقي بها بسطوته الجياشة علينا بأرض الطابور , يتعالى نداء مدرس التربية الرياضية نحونا , بجودة أداء التمارين الصباحية ؛ مد...ثني ..واحد.. اثنان.. ثلاث.. أربع.. كل مدرس يحفر له مكاناً أمام صفه , لا يلتفت عنه أبداً , خشية من خطأ آت ٍ يدر عليه بوابل محموم ,وسط هذه الموجة العاتية , تتعالى صيحات مدرس التربية الرياضية أكثر فأكثر كلما تحسس وخزات الشرفة خلفه , ينتهي بالتمارين الحامية عند نقطة النظام: "مدرسة صفا , مدرسة انتباه ... قف ثابتاً ",ينظر ناحية الشرفة في انتظار جرعة الرضا , يسلم طقوس الطابور لبرنامج الإذاعة المدرسية الذي يدخلنا في دائرة أخرى من ؛ قرآن كريم , أحاديث دينية تعج وسط الصمت , مسابقة في المعلومات , أحداث جارية , تعليمات الإدارة اليومية , يأتي الختام بلحظات نقضيها بين الصخب , الشجون , نترقب الإنطلاقة بأنشودة مجد البلاد , تأخذنا الأعناق للتعلق بالراية الشامخة , ُتصلب الأجساد حول نفسها ,و ُتشد الأكف بالأصابع , يجوب بنظراته يتفحص الوجوة الشاحذة للسكون, يتوغل بنظرةٍٍٍ حانية لأعماق الراية الملونة بخليط التاريخ , يخرج علينا مدرس التربية الرياضية بصيحته المفاجئة بالاستعداد لإلقاء التحية , و قبل أن تهتزالساحة بحياة الوطن, نحتسي أنفاسانا اللاهثة بنظرة للشرفة الخاوية كعادتها بنفس اللحظة من كل يوم.
محمد سامي البوهي