لم يكن لقاءنا مصادفةً . .
فقاموس القدر لا يحوي مثل هذه المرادفات . .
لقد كان لقاءنا مدبراً . . اتفقنا على زمانه ومكانه قبل أن تُولد الحياة . .
حضرت حسب الموعد المحدد أزلاً لتطلب مقابلتي . .
أدركت مع خطواتها الأولى داخل مكتبي بأن اللقاء لن يكون مثل بقية اللقاءات الروتينية اليومية التي عادةً ما تنتهي خلال بضع دقائق . .
عرّفتني بنفسها بثقة فريدة :
- ( داليا نبيل ) . . مترجمة بمجلة الأسرة
- تشرفنا
دعوتها للجلوس فلم تضع وقتاً في مقدمات عقيمة . . بدأت فوراً في سرد شكواها مما تراه سوء تصرف لبعض العاملين في موقفهم معها . .
شعرت سريعاً بملامح الغرور التي تكسو شخصيتها
كانت كلماتها سريعة و متلاحقة طعمتها بالكثير من المفردات الإنجليزية . . لهجتها الآمرة لم تدع لي الفرصة للتدخل أو النقاش
أثارني أسلوبها وإن استطعت الاحتفاظ بهدوئي ظاهرياً
أضمرت بداخلي النية ألا أدعها تخرج من مكتبي بنفس ما جاءت به من الغرور و الكبر .
تركتها حتى أنهت حديثها . . فأجبتها بكل هدوء :
- سأبحث الأمر
- يجب أن يكون هناك تصرف سريع و . . .
قاطعتها بنفس هدوئي :
- أعتقد أنني أدرى بما يجب عليّ فعله . . فأنتِ لم تطرقي هذا الباب إلا لأنني أنا - و أنا فقط - من يملك تقرير ما يجب فعله .
لم أدع لها الفرصة للتعقيب . . و إن حرصتُ على ألا أحرم نفسي رؤية مفاجأة الرد تملأ وجهها .
استدعيت المختص بشكواها . .
جاء حاملاً بضعة أوراق قليلة . . شرع من خلالها في توضيح الموقف
تعمدت أن أصغي إليه باهتمام مبالغ فيه متجاهلاً النظر إليها . . أخذت في مناقشته بصورة تقريرية لاستخلاص إجابات تؤيد موقفه . .
كان واضحاً أن الموقف يسير في غير صالحها . .
اختلست نظرة خفية إليها فلمحت حمرة الخجل تكسو ملامح وجهها
ما أن فرغ من توضيحه للموقف حتى وجهت حديثي إليها :
- أرجو أن يكون الموقف واضحاً لكِ الآن
- نعم
- إذن فأنتِ الآن مدينة باعتذار
- أنا آسفة
- ليس لي ، وإنما هو من يستحق الاعتذار
تحولت بنظرها إليه :
- آسفة
- أرى أنه من العدل أن يكون رد اعتباره في مكتبه و أمام زملائه
أومأت بالموافقة ثم أطرقت برأسها إلى الأرض
استدعيت السكرتيرة و طلبت منها مرافقتها إلى مكتبه
لم أنهض لتوديعها رغم شروعها في مصافحتي متظاهراً بتصفح بعض الأوراق التي كانت أمامي . .
رفعت بصري إليها لتقابلني بنظرة غريبة لم أرها من قبل
أطالت النظرة بضعة ثواني ثم غادرت المكتب
ملأني الزهو بمجرد خروجها من مكتبي . . كنت مقتنعاً أنها تستحق ما حدث لها جزاءً على غرورها في التعامل
انتظرت حتى تأكدت من اعتذارها و مغادرتها للشركة قبل أن انشغل بمتابعة عملي .
مر اليوم عادياً كأي يوم عمل ليس فيه ما يثير الاهتمام . .
قبل مغادرتي المكتب بلحظات أبلغتني السكرتيرة بأن الآنسة ( داليا ) عادت منذ قليل وتركت لي رسالة شخصية . .
كانت مفاجأة غريبة و غير متوقعة بالنسبة لي . . مما أعجزني عن توقع فحوى الرسالة
فتحت الرسالة فلم أجد بها سوى كلمة واحدة :
- لماذا ؟
لا أدري إن كانت الكلمة محيرة بالفعل . . أم أن إرهاق يوم عمل منعني من إدراك معناها . .
حاولت لعدة دقائق استنتاج مقصدها من السؤال دون جدوى
حملت حقيبتي و خرجت من المكتب . .
ظلت تلك الرسالة الغريبة تعبث بأفكاري . .
لم لجأ إلى الطريق السريع كعادتي كل يوم ، بل سلكت الطريق الذي يخترق أحياء المدينة
كنت كمن يبحث عنها في وجوه المارة على جانبي الطريق
لم تفارقني ملامحها طيلة الطريق . . لا أرى سوى نظرة الانكسار في عينيها وهي تغادر مكتبي
لم أدري كم مر من الوقت قبل أن أصل إلى منزلي . . ربما ساعة أو ساعتين . . وربما أكثر
أي الطرق سلكت حتى أصل إلى منزلي ؟ . . لا أدري
حاولت الانشغال بمراجعة عمل اليوم أو التحضير للغد . . خانني تركيزي
تحولت بين القنوات التلفزيونية حتى اكتشفت بعد وقت ليس بقصير أنني أطالع قناة مغلقة
كانت حيرتني تكاد تقتلني . . ماذا تقصد بهذا السؤال ؟
*****
ثلاثة أيام مرت عجزت فيها عن التحول بتفكيري إلى ما سواها . .
نظرات الانكسار المملوءة عتاباً تطالعني في كل الأشياء
أترقب قدومها مع اقتراب أي شخص من مكتبي . . أتلهف لسماع صوتها مع كل رنينِ للهاتف
كان يجب أن اعترف بعدم قدرتي على التحمل . .
استدعيت السكرتيرة . . طلبت منها بلهجة حاولت أن أنزع منها لهفتي الشديدة ؛ الاتصال بالآنسة داليا
غابت قليلاً ثم عادت لتخبرني أنها تركت العمل بالمجلة
- حاولي الاتصال بها على هاتفها الشخصي
- ليس لدي سوى هاتف العمل
- أو ليس لدينا بيانات كاملة عنها ؟
- نحن لا نحتفظ إلا ببيانات العملاء الدائمين فقط
- فليتغير هذا النظام منذ الآن . . أريد بيانات كاملة عن كل من يدخل من باب الشركة
- حاضر
- أعيدي الاتصال بالمجلة و حاولي الحصول على رقم هاتفها الشخصي
- ليس لديهم أي بيانات عنها . .فهي كانت تعمل بصورة مؤقتة
- وكيف يسمحوا لموظف بالعمل دون الحصول على بياناته . . حتى لو كان يعمل بصورة مؤقتة ؟
نظرت لي نظرات تعجب من هذا الانفعال الغير مبرر :
- لا أدري
- لم يعد أحد يدري أي شئ
- هل كنت تريدها في شئ معين ؟
قابلت استفسارها بنظرة صارمة . . فاستأذنت خارجةً من المكتب
*****
أصبحت كل أيامي مملة و متشابهة . . تأثر كل شئ في حياتي بهذا السؤال . . عملي و علاقاتي حتى عاداتي اليومية .
وكلما مرت الأيام . . كلما أحسست أنني لن أراها مرة أخرى . . و كلما زاد تعلقي بها .
كانت الأفكار تتصارع في عقلي حتى تكاد تشلني عن التفكير :
- لماذا كل هذا الاهتمام ؟
- أي اهتمام ؟
- اهتمامك بها وبالبحث عنها ؟
- ليس اهتماماً . . فقط هي وجهت لي سؤالاً و يجب أن تحصل على إجابته
- فقط ؟
- ماذا تعني ؟
- أعني أنك لم تكن تهتم يوماً بالآخرين
- هل تراني جامد القلب بلا مشاعر ؟
- أنا لم أقل هذا . . لكنك دائماً ما تهتم بالتفكير في مواقفك وليس في فهم الآخرين لها أو ردود أفعالهم تجاهها . . أو حتى في مجرد تقديم إيضاحات أو تفسيرات لمواقفك
- أنا لا أقدم تفسيرات . . إنه مجرد سؤال عادي و من حقها أن تحصل على إجابة له
- ولماذا تهتم بتقديم الإجابة طالما هي نفسها لا تهتم ؟
- من قال أنها لا تهتم ؟ . . بالتأكيد هي تسعى للحصول على إجابة
- لو كانت تسعى للحصول على الإجابة لجاءت تطلبها أو حاولت حتى الاتصال بك
- ربما هناك ما منعها
- لم تتعود أن تخدعني
- أنا لا أخدع أحداً
- إذن أنت تخدع نفسك
- ماذا تقصد ؟
- أقصد أنه عليك الاعتراف بأنك تهتم بها و أن الأمر أكبر من مجرد إجابة لسؤال تم توجيهه . . فهل تحبها ؟
- ماذا ؟! أنا ؟! . . الحب نوعٌ من الضعف يواري به الحمقى و البلهاء ضعفهم . . و لا زال موقفي من الحب كما هو ؛ لم يتغير و لن يتغير .
- أتمنى هذا ! !
كان يجب أن أوقف هذا الصراع السخيف
حاولت أن أغمض عيني قليلاً
قطعت السكرتيرة سكوني لتخبرني أن هناك من تريد مقابلتي . .
شعرت بخفقات قلبي تشير إلى ( داليا ) . . هل من الممكن أن تكون هي ؟ . . هل شعرت بعذابي فجاءت أخيراً لتريحني منه ؟ . . بالتأكيد سأنسى كل لحظات العذاب بمجرد دخولها . . بالتأكيد سأسامحها على ما فعلته بي
طلبت من السكرتيرة أن تدخلها فوراً . .
ترقبت خطوتها الأولى داخل مكتبي . . فلا زلت أذكر تلك الخطوة الواثقة . .
نعم إنها هي . . بالتأكيد هي
ولكن . .
إنها لا تحمل نفس الملامح . . وإن كانت تحمل نفس الروح ؛ نفس الثقة بالنفس ؛ وربما نفس الغرور
عرّفتني بنفسها :
- ( . . . . . )
لم انتبه لحروف الاسم جيداً . . لكنه بالتأكيد لم يكن ( داليا نبيل )
احترمت شرودي الذي تسبب في تجاهلي لدعوتها للجلوس
انتبهت أخيراً . . فدعوتها للجلوس . . بدأت الحديث فوراً بدون مقدمات
شعرت سريعاً بملامح الغرور التي تكسو شخصيتها
نفس اللهجة الآمرة . . نفس الكلمات السريعة المتلاحقة . . نفس المفردات الإنجليزية . . نفس أسلوب الثقة في الحديث
بالتأكيد هي . .
لا يمكن أن تصل تهيؤاتي إلى هذه الدرجة . . لا يمكن أن تكون كلمات ( داليا ) فقط هي كل ما أسمع . . أو أن ملامحها فقط ما أرى . .
أنهت حديثها . . وظلت لحظات صامتة تحدق فيّ بانتظار الرد . .
أجبتها بكل هدوء :
- سأبحث الأمر
- يجب أن يكون هناك تصرف سريع و واضح
ابتسمت ابتسامة ثقة من صحة ظني . . فبالتأكيد هي ( داليا )
استدعيت المختص بشكواها دون تعقيب
جاء حاملاً بضعة أوراق قليلة . . شرع من خلالها في توضيح الموقف
لم أصغِ إلى كلماته مكتفياً بمتابعة تعبيرات وجهها
أدركت من حمرة الخجل التي بدأ تكسو ملامحها أن الموقف يسير في غير صالحها
ما أن فرغ من توضيحه للموقف حتى وجهت حديثي إليها :
- أرجو أن يكون الموقف واضحاً لكِ الآن
- نعم . . أنا اعتذر عما حدث من لبس
- بل نحن المدينون بالاعتذار لأننا لم نبدي الاهتمام الكافي لتوضيح الأمر لك ِ
لذلك أرجو قبول اعتذاري الشخصي و اعتذار الجميع
همت بالقيام . . نهضت سريعاً لتوديعها و مرافقتها حتى الباب الخارجي للشركة
عدت فوجدته يقف بمكتبي مذهولاً
ابتسمت له ابتسامة خجل
خرج يتمتم متعجباً
أغمضت عيني ثانية . . وشعرت أخيراً بالرضا يسكن روحي . .
فأخيراً . .
تعلمت الحب .
إسلام شمس الدين