الخنجر
صباح اليوم، لمّا خرجت رحمة من بيتها الذي صار بيتها وحدها، بعدما اغتيل أهله و لم يسلم منهم غيرها، كانت قاصدة المدينة المجاورة لحضور المهرجان الشعبي الذي سينشطه الرئيس في إطار الدعوة إلى الوئام المدني و المصالحة الوطنية. لم يخطر ببالها أبدا أن يجلس عبد الحليم الذي كان مغرما بها، في نفس المقعد، إلى جانبها كما كان الحال قبل أعوام، إذ لم يكن له من سبيل للالتقاء بها و التحدّث معها سوى حافلة النقل التي تقلّهما إلى العاصمة..هي تذهب إلى الجامعة، و هو ينصرف إلى سوق "الدلالة" يسترزق من هنا و هناك، بشراء أشياء و إعادة بيعها بفائدة. و قد نسجا حبًّا كأيّ شابّين من سنّهما، بأحلام وردية و آمال عريضة، و لكن القدر شاء غير ذلك، إذ تبخّرت أحلامهما في خضمّ الأيّام المثقلة بالآلام و الجراح.
في الوهلة الأولى، صدمتها المفاجأة، لأنّها لم تصدّق أن تكون المصادفة إلاّ ميعادا مبيّتا لا يرجى منه خير، و لم تصدّق قبل ذلك، أنّ الشخص الجالس إلى جوارها، هو عبد الحليم، حبيب قلبها السّابق، و يجلس إلى جانبها، هكذا، دون خجل أو حياء.. أو حتّى كرامة، بعد الذي حدث، وقد كان فيه صاحب الأمر و النهي. قالت في نفسها حينما مالت بصدغها إلى اليمين حيث بدا لها وجهه المنعكس على صقال الزّجاج المليس، وهو غير مكترث بوجود أنثى إلى جانبه، أنه ربما لم يدر بوجودها، أو لعلّه يتعمّد تجاهلها، لأنّه يستحيل أن يكون قد نسي وجهها الذي كان يرتوي من بسمة قسماته كلّ صباح، أو أنّه ينوي على شرّ آخر..أليس هو الذي، قبل عامين بالتحديد، كان على رأس المجموعة الإجرامية التي اقتحمت الدار ليلا، و أخمدوا أنفاس أفراد عائلتها إلى الأبد، و لم ينج من القتل البشع إلاّ فرد واحد.. قالت له يومئذ:" أتتركني حيّة انتقاما، أم لتبرهن بأنّ قلبك رحيم، باستطاعته أن يشفق و يعفو؟ اقتلني..و خلّص ضميرك من عقدتك.. اقتلني، و لا تتركني حيّة، بل رهينة لنزوتك، بعدما ظهرت حقيقتك عارية.. اقتلني، حتّى لا أبقى شاهدة يطاردها الزمان في كلّ مكان..".
و لكنّه تركها تجلجل بأعلى صوتها، كأنما أراد أن يكون موتها أشدّ و أنكى، بعد أن تعيش ساعات في عذاب.. ممزقة القلب ، مقطعة الأحشاء و هي بين تلك الجثث العائمة في دمائها.
لم تكن تتصوّر ساعتئذ، أن ينسلخ الإنسان عن جلدته هذا الانسلاخ الكلّي، و ينتقم بجهالة عمياء، لمجرّد أنّ طلبه للزّواج مرفوض. لم تر حينها سببا سواه ، ثمّ، أيّ سبب آخر يعطيه الحقّ لاستباحة أرواح الناس؟ أم هي هواية و موضة العصر؟ سمحت لخيالها بالطواف في أغوار النفس البشريّة المتنكّرة لطبيعتها الأصلية. غير أنّ الحقيقة أقوى من الخيال، حقيقة صدمت حياتها الحالمة، و أحدثت فيها شرخا من الحزن و الألم، و هو ما لم تستطع فهمه.
اختلست نظرة إلى صفحة وجهه الذي نمت في ذقنه و صدغيه لحية سيّئة التوزيع، فقرأت في عينه اللّخصاء التي غاب عنها ذلك الجذل الصبياني المبرق حيويّة و سعادة بلقيا الحبيب، قرأت فيها شرّا مبيّتا، مثقلا بالمكر و الخديعة، و تمثّلت وراء كلّ شعرة من شعرات لحيته، قنبلة من الخبث تتربّص بها. و هي كذلك، لم تشعر إلاّ و أصابعها تتلمّس حقيبتها اليدوية المحطوطة في حجرها، و لمّا تحقّقت من أنّ الخنجر الذي لم يفارقها منذ رحل أقرب الناس إليها، بجوف الحقيبة، أوغلت فيها يدها المرتعشة ، و قبضت عليه بشدّة و هي تستدعي ما أوتيت أعضاؤها من شجاعة و بأس ، حتّى إذا تداعت قواها و تجمّعت في قبضتها، غرست الخنجر في جنبه الذي يحاذيها، ثمّ تغادر مكانها و تتركه يتجرّع ألمه و يعيش لحظات من العذاب.. كما تركها ذات ليل، وحيدة، ممزّقة، تناجي ربّها كي يلحقها برحمته و يخلّصها من عذابها.. و فجأة، جاءها صوت من أغوار العدم يقطع تفكيرها و يقول لها لائما:" لا! لا تتركي تفكيرك يتعدّى حدوده، و لا تدعي نفسك تسوقك إلى الهاوية السحيقة من الندم، و حذار أن تجعلي من الألم لذّة، فتتحوّلين إلى «سادية"، تنتشين بتعذيب الآخرين و تسعدين بآلامهم و عذابهم.
و انقطع الصوت فجأة، كما جاء، ثمّ ها هي تحسّ بقبضتها تتلاشى، و إذا بأصابعها تتخلّى عن الخنجر كأنما سحب كلّ عضو مدده خذلانا، أحسّت بذلك عندما مرّت عليها موجة من العرق البارد، ممّا شابه حلما مرعبا أو كابوسا ثقيلا.
مرّة أخرى تتفحّص ملامحه، فيتأكّد لها بما لا شكّ فيه، أنّه هو. حوّلت عندئذ، نظرها عنه، و غرست عينيها في حقيبتها التي ما تزال يدها بداخلها تداعب الخنجر بحنوّ و قالت بينها و بين نفسها:" سأدافع عن نفسي إن بدا منه ما يوجب استعمال الخنجر.. سأكون حذرة و كفى، لابدّ أنّه يتعمّد تجاهلي، و يوهم نفسه أنّه مؤمن تقيّ نقيّ، لا دماء عليه".
توقّفت الحافلة في محطّة المنتهى، نزل الرّكاب واحدا تلو واحد، و نزل معهم عبد الحليم دون أدنى التفاتة، و نزلت رحمة و راحت تتعقّبه، و بعد مدّة من القيافة في ثنايا الأزقّة و الشوارع، ألفت نفسها، بدون أن تدري، أمام قاعة المهرجان، فقالت في داخلها:" لعلّ الرجل تاب..أو.. " ، و قطعت تخمينها، بينما أخذت تراقب حركاته و سكناته داخل القاعة، حتّى نهاية المهرجان، و لمّا لم يصدر منه ما يثير الشبهات، عندئذ حمدت الله على أنّها لم تغرس الخنجر في جسمه. فقد ضمّد جرحها الصبر، و آلت على نفسها أن تغمض العين التي كانت تنظر بها إلى الماضي، و تفتحها على المستقبل واسعة مليئة بالأمل و الحياة، ثم قالت مستسلمة: " هو قدري!