عالم الأسوار
لم يكترث أحد منا بالسؤال عنه أو عن هويته، أو لماذا هو نائم على الرصيف نوما عميقا يدل على تعب هذا الولد الذي لم يتجاوز عمره الخمسة عشرة سنة... أرجل المارين و المارات تتخطاه دون أدنى إعتبار...، كنت ممن يعلمون انتماءه لعائلة ممزقة تضم خمسة أفراد لم يجتمعوا مرة واحدة داخل ما يسمى بيتهم. هم غائبون عن بعضهم البعض منذ سنين.
الأب كان ضحية لغم دسه المحتلون قبيل مغادرتهم البلاد قسرا منذ أزيد من خمسة عشرة سنة ينتظر فريسته, إلى أن جاء القدر به ذات يوم مارا عليه في طريقه إلى كسب قوت عياله فاندلع معبرا عن حقده الدفين. فدعت الحكمة المجتمع إلى ترحيله إلى مدينة الصمت المحاطة بسور حجري خارج المدينة، هو إذًا تحت التراب منذ سنين.
أما ثاني أفراد العائلة فهو الأخ الأكبر، قد رباه الحرمان و العوز ... منذ أيام الاستعمار على نبذ المجتمع و الإنتقام منه كلما حانت الفرصة. فما كان من عين العقل إلا أن تلزم المجتمع وضعه وراء القضبان إتقاء عدوانيته خارج المدينة بسجن سوره عاٍل جدا يُتَوٍجُه سلك شائك. هو سجين تصرفاته منذ سنين.
أختهم الوحيدة هي ثالث أفراد الأسرة،يقال أنها فقدت صوابها، و تماديها في تصرفاتها الجنونية حتم على المجتمع دفنها داخل مستشفى الأ مراض العقلية حماية لها من نفسها و من الناس، خارج المدينة بمصحة سورها الخارجي أبيض اللون، إنها حبيسة هذا المكان منذ سنين
لم يبق في هذه العائلة سوى الأم و طفل... أكثرت الأم من التسول في الطرقات و أمام المساجد، الأمر الذي أدى بالمجتمع لأن يستجيب لدواعي الشفقة، فتظافرت الجهود لرميها في بيت العجزة المتواجد عند مدخل المدينة و ما يميزه هو سوره المطلي باللون الأزرق،هي عجوز ببيت العجزة منذ سنين.
أما الطفل لم يجد له مكانا لا تحت التراب، و لا وراء القضبان، و لا داخل مستشفى الأمراض العقلية، و لا بدار العجزة. لم يبق له غير الشارع، البيت إستولى عليه أحد أفراد هذا المجتمع،لأته لا يعتدي على أحد... لا يؤذي..لا يتسول..و لم يمت.
عندما يمل الشوارعَ أو تمله الشوارعُ، يركض صوب المقبرة ليتحسس أباه الراقد تحت التراب،فيجد كل شئ هادئ صامت،لحظتها يشعر ببعض الأمان: لا أطفال يلاحقونه. ولا كبار ينظرون له بعين الريبة و الحذر. و لا نساء تشترين اللعب و الحلويات لصغارهن...
لما يمنحه ذلك الأمن الذي تشبع به في مدينة الصمت بعض الشجاعة يتوجه نحو السجن حيث يجد أخاه ممتدا على سريره و أجزاء قطع السجائر تحيط به من كل مكان، و عيونا تتقد شراسة تحويها وجوه ناقمة حاقدة تنتظر وراء القضبان ساعة الإفراج عنها ليكون الإنتقا م أشد و الكراهية أعمق... وقتها يفقد الصبي شعوره بالأمن الذي يحل محله خليط شعوري تتقاسمه الشفقة و الخوف... فيغادر السجن مهرولا و يتذكر أخته البائسة في المصحة التي ما إن يتخطى عتبته حتى يعدو صوبها، يدنو منها فيرى دموعا و يسمع همهات، لا يلبث أن يغادرها مبهوتا سارحا و لكن إلى أين سيتجه هذه المرة؟ أليس إلى أمه.. العجوز؟ فليذهب و ليكمل جولته داحل دنيا الأسوار ليجدها هي الأخرى ممتدة على سريرها. و ما عساها تفعل سوى الإمتداد على السرير؟ لم تعد تنتظر شيئا . طالما إنتظرت الرحمة . القليل الذي بقي من الرحمة هو الذي أوجد لها هذا السرير لتمتد عليه.
سئم الطفل من الأسوار، خرج يعدو عائدا إلى الشوارع ، لكنه سرعان ما أحس بتعب شديد جراء تجواله داخل أسوار متنوعة منها الحجري و العالي و الشائك .. و ... فبقي يبحث عن مكان يرتاح فيه و لكن من غير أسوار.