سلام الـلـه عليكم
هكذا قرأت قصة " فاتورة حساب "
للأديب محمد سامي البوهي
بقلم د. محمد حسن السمان
لقد سمعت الأخوة يتهامسون , وهم يروني اقرأ هذه القصة , كل يوم , ثم اتركها لأعود اليها , حتى أن أحد الأدباء قل لي , في احدى الجلسات الأدبية : لقد رأيتك تغوص في هذه القصة , لمدة فاقت ساعتين من الزمن , ولم أرك تنبث ببنت شفة , ثم نصحني آخر بأن لااكتب حول القصة , مشيرا الى أن القصة استحوذت علي , وبالتالي لن استطيع رؤيتها بشكل صحيح .
والحقيقة , أنني عندما قرأت عنوان القصة , لم أقف عند هذا العنوان طويلا , لكنني بعد أن ولجت في النص , وجدتني أحسّ وكأن العنوان يعود أمامي , ليرسم خلف الابعاد المرئية , مجموعة من الأحرف , اقرأها في اللاوعي : " فاتورة حساب " , نعم مراجعة للذات , حتى أنه في لحظات معينة , كنت احس بضرورة التخلص من تأثيرالعنوان , لكي اكون حرّا في قراءتي للقصة , دون تأثير .
ومنذ الوهلة الاولى , وجدتني أمام عمل فني ابداعي , وفي الجملة الاولى , وجدتني امام اشارة ذكية , تقود ملامح المسار , ممهدة الطريق بعناية , لحالة من التداعيات :
"أسبح بعمق نفسي الحائرة ، أبحث عن أشياء تائهة بطلاسم عقلي "
وفي صورة غنية الحيوية , نرى أن الكاتب قد ألمح الى شكل بطل القصة , في أكثر من مدلول , عندما يقذف كتله , على مقعده المفضل , والذي جعله يحس معه بالهموم , فربما اراد الكاتب أن يصور بطل القصة , مترهلا مكونا من كتل لحمية , كناية عن الغنى المادي والشبع , او ربما اراد فقط تصوير شكل الشخصية , وفي كلا الحالتين , نجح الكاتب في رسم الشخصية , في كلمتين اثنتين :
"أقذف كتلي على مقعدي المفضل بزاوية المكتب المهموم "
ثم تبدأ حالة التداعيات باستخدام جمل قصيرة , تمثّل صورا حيّة عالية التركيز , يكاد كل منها , أن يمثّل لوحة فنية , خارقة التأثير , فابتداء من صورة التداخل النفسي :
" أترك نفسي لنفسي تتداخل معها "
"،يسترق جلد المقعد حرارتي بقيعانه المنتشرة ، يعود يضخها نحوي ؛ يزداد نزيفها تحت جلدي "
نلاحظ كيف أن الكاتب , رسم لنا صورا مبتكرة , اجبرتنا على اعمال التفكير والتخيّل , فكأننا نرى المقعد , وقد وقع عليه الجسم الممتلئ , الذي غالبا ما ينشر مزيدا من الحرارة , على المقعد , الذي صوّره لنا الكاتب , بأنه مقعد وثير , لوجود القيعان , ثم رسم لنا صورة التداخل الحراري , بين الجسم والمقعد ببراعة آسرة , ثم يأتينا الكاتب بصورة اخرى , غاية في البراعة , وهو يصوّر الجسد , وهو يرتمي على السرير , الذي صوّره لنا الكاتب , وهو يأخذ شكل الجسم ملتفا حوله , بما عبّر عنه من تلاحم مع تكوين الجسم .
"ألامس جسدي بسريري المتلاحم مع تكويني "
ثم يتالق الكاتب بتقديم صورة أكثر ابداعية , عندما يصوّر لنا سحب النفس , يتم من أرصدة الأنفاس ,
"أسحب أنفاساً أخرى من أرصدة رئتي "
والصورة الأكثر ابداعا , كيف رأى الكاتب العظام تعانق لحم الجسم المتعرق , مشبها ايّاه باللحم المحفوظ , بملح العرق .
" أعانق عظامي بلحمي المحفوظ بملح العرق "
ويسترسل الكاتب بتقديم الصور الابداعية الحيّة , والتي أكاد أجزم بأنه من الأدباء القلائل الذين يقدرون على الاتيان بمثلها , ثم ينقلنا الكاتب بحرفية , الى اشكالية تمثّل احد مفاتيح القصة , وهو الهاتف الهام جدا , عند اصحاب الشأن , مستخدما نفس المستوى من التفوق , في العبارات التصويرية الحيّة :
"أنظر كوخ الهاتف المرصع بالأصواف ، وعيدان البوص المتشابكة ، أنهر وجوده ... أعود إلى رغبة زوجتي بطرده من منزلنا ، محو أرقامه السداسية من عقول كل من يحفظها ، شججت أستار نظراتي ، تقوقعت بها بعيداً عنه ، خشيت أن يلمحني أطالع وجهه البلاستيكي ؛ فيعود يحدثني بنفس الصوت المهيب :"
ثم ينبجس التوظيف الماهر , بشكل صارخ , باستخدام الهاتف كمفتاح , وفق تكثيف راق جدا :
"غداً بالعاشرة صباحاً.. ينتظرك النائب العام "
ويتابع الكاتب تداعيات الحالة , باسلوبه المكثّف المبدع , باستخدام صوره الحيّة البارعة , توقفت طويلا عند البعض منها , للابداعية الخارقة فيها , عندما يعود الى الهاتف وارقامه , التي يصورها قد سالت على بقايا الفم الموصد , ثم تأتي صورة رائعة , عندما يتكلم عن استخدام المحارم الورقية , ليجفف الأرقام السائلة على الفم , إنه شكل غير مسبوق فعلا :
"عدت للغة الأرقام ، أدور بها بين المقاعد الخانعة ، سالت بقاياها على جوانب فمي الموصود ، جردت صندوق المحارم من منديله الأخير ، جفف به الأرقام السائلة على فمي "
ثم ينساب الكاتب بنا مع تداعياته , بنقلة خالية من الاطراف الحادة , في باقة من الصور السينمائية قوية التاثير , ليذكر المفتاح الهام وهو الهاتف , ولكن بشكل خاطف , ثم مشيرا بشكل مكثّف الى وفاة الزوجة , مستخدما خفقات انسانية موفقة , وهو في طريقه لاختيار البذة الملائمة , ثم يعود الكاتب مستحضرا المفتاح الهام ( الهاتف ) :
أغلقت عقارب الساعات المظلمة أبواب المحلات ، تراجعت بخطواتي خلف أشيائي ، تركت طاولة الطعام تتسامر و مقاعدها الكثيرة ، على رؤوس أصابعي دلفت غرفة نومي ، صديقي الثقيل ، نائم بكوخه على وسائد الأسلاك ، فتحت محلات خزانة ملابسي ، أتخير بين بذاتي القديمة المنشورة ، كانت تريحني دائماً من أوجاع الإختيار ، أتنهد ... أستوي مع ذاتي ، أشعر بالراحة بعد الدعاء – فليرحمها الله – اندرج صوت يعصف بأوبار البذات ، بأن أختار ذات اللون الأسود ، أمسكت بها ، حررت قيدها ، ضممتها نحوى ، الإختيار ليس لزوجتي ، الصوت ليس لزوجتي ، مسحت بكفي على جسد القماش الأسود ، امتزجت جميع الألون بلون وجهي الشاحب ، تلاعبت الأرقام بمقاعد سنيني ، اهتز الهاتف بالصمت ، نصب نفسه مليكاً على نفسي التائهة :
- ماذا يريد ؟!"
ثم يوصلنا الكاتب لما يريد , من خلال التداعي , بنفس الاسلوب الابداعي المتميّز , معبّرا عن المشاعر بشكل غريب , ليشير الى مرحلة استلام الشخصية المحورية للمنصب الرفيع :
"التفت شراييني بخلايا قلبي المنهك ، تعلقت بنسيج بذتي السوداء ، ارتفعت الأصوات من حولى ، الهتافات حملتني على أعناقها ، استقرت بي على كرسي المنصب الكبير ، علت الأصوات أكثر فأكثر ،"
ثم وبطريقة مذهلة , نرى الكاتب يشير الى التدرج بالمناصب :
" أبدلت من لوحات مكتبي الرخامية ، اللوحة تلو اللوحة ، فناجين قهوتي اليومية غيرت من لون شعري ، تسابقت مع اللوحات "
ثم يعبّر عن انتهاء المشوار , بلوحة فنية خارقة , عندما يتوّج اللوحات بلوحة الاستقالة :
" أخيراً كان الفوز للوحة الإستقالة "
ثم يصوّر الكاتب الحالة النفسية للشخصية المحورية عند حدوث الاستقالة , مركزّا على ثلاثة رموز هامة , وان كانت تتفاوت في درجة قوتها : البذة السوداء التي تبرز الشكل الخارجي للشخصية الهامة , وزجاج المكتب الزجاجي , الذي يعكس صورة الشخصية الهامة , وراء المكتب , ثم القلم الذهبي رمز القوة واتخاذ القرار :
"تصدعت قدماي من تحتي ، بحثت عن أقرب مقعد ، مقاعد الطاولة لا تهمد ، زحفت أمامي بالخارج ، انصاع مقعد لجلوسي ، وآخر حمل مني البذة السوداء ، لفع بها عنقه ، أدلى لى وجهي بحقيقته المنعكسة على الزجاج ، حدقت ملامحي القديمة ، تحاول أصابعى نفض الغبار عنها ، زمجر الزجاج من تحتها، ارتبكت أوصالي ، ازحت وجهي بعيداً عني ، لمع صوت أخر من جيب الحلة العلوى ، اقتربت ... أملت جزعي نحوه ، جذبته من رأسه ، ياااااه ، إنه قلم توقيعي الذهبي ،خط حروف استقالتي ، وكان اللقاء الأخير، شهق بعودة روحه ، إعتصرته أصابعي ، لم تقو كثيراً على حمله ، ألقيته على ملامحي القديمة المطبوعة على الزجاج ، اعتمد وجهي بتوقيعي الذي اعتاد عليه ، طوى الصفحة على أيامي الماضية "
ثم يعود الكاتب الى استحضار المفتاح الهام ( الهاتف ) مرة اخرى , وكأنه هذه المرة يطلبه للعودة , من حيث أتى , بعد أن تتابع الاحداث والتاريخ , في اشارة الى دورة الحياة , انما بنفس الاسلوب الابداعي , في تقديم الصور الحيّة المميّزة :
"أبحث عن شىء غائب عني ، بين أشيائي ، فوق حلمى ، خلف قراراتي ، بأعماق خزائني الفارغة ، كان حذائي... يتصفح أوراقي الماضية ، اعتذرت للمقعد ، حملت نفسي ، عبرت صالة عمري ، مررت بحجرة نومي ، بحجرة ابني ، بأمنياتي العالقة بباب المنزل ، توقفت خلفه ، فتحت صندوق أوراق المناصب القديمة ، والأحذية ، جذبت حذائي من بين الأتربة ، وصوت الفئران المريضة ، حملته مع جسدي ، عدت من حيث أتيت "
ثم يبدع الكاتب , في عودة الشخصية المحورية , في سياق دورة الحياة , ليكون بين العامة , يعيشهم ويحس احاسيسهم , ويسلك سلوكياتهم , وبشكل ذكي ينقلنا الكاتب الى مشهد تلك التي تجلس خلف النافذة , في المطعم , وهو يراها تمثّل العامة , فيتمنى أن ينزل اليها ويجلس معها , بل كان يحسدها , ويتمنى لو نفض عنه كل ما له من هيبة وحيثيات :
" التقطت واحداً من أكمام البذة ... نظفت وجه حذائي ، بلون الماضي رأيت من حولي، بالشارع المتلألىء بالأضواء ، السيارات ، الموسيقى ، رائحة نجوم الفنادق ، كانت تجلس على الرصيف لا أعلم ماذا تنتظر ، كنت أجلس خلف نافذة المطعم الفاخر أنتظر الطعام ، أحسدها ... تمنيت أن أنفض عني الحراس ، الألقاب ،أعين الناس المتدنية ، أهبط أجلس معها ... تراجعت بشغفي ... لماذا تجلس هنا ؟! .."
وأخيرا , نجد أن الكاتب يذهلنا بتلك اللقطات التباينية , بين حالتين , الشخصية المحورية , المترعة بالامجاد , وهيبة المرور بالمناصب , وقد اصبحت رمزا اجتماعيا , وبين انسانة مجهولة , هي العامة ( وإن حملت مضمون اختلاف النوع ) , وهي المثقلة بالمعاناة , :
"ألاح إليها رجل من الجانب الآخر ، ألاحت رائحة الطعام لمعدتي الجائعة "
" أقترب منها ، اقترب ... اقترب مني النادل بالطعام "
" توقف أمامها ... توقف أمامي ..."
" حط بقدمه على صندوق صغير قرب وجهها ... حط بالطعام الشهي على طاولتي ..."
" أمسكت بفرشاتها ... أمسكت بشوكتي ..."
" مسحت واجهة حذائه ... مسحت أطباق الطعام من حولي ..."
" شعرت بالشبع ... جهلت شعورها بالجوع .. "
"أخرج لها ورقة مالية من جيبه .... ألاح لي سكان الطاولة المجاورة .. بابتسامة ... بفاتورة حسابي ... "
قصة " فاتورة حساب " ليس عملا فنيا فحسب , بل هو حالة ابداعية , تميّزت جدا باستخدام الصوّر المبتكرة الحية , في كل صورة منها حالة شاعرية , تمثّل لوحة فنية خارقة , وقد نجح الكاتب في توظيف العنوان " فاتورة حساب " ليدلل عن حالة التداعي , ومراجعة الشخصية المحورية للذات , دون ضرورة لابراز الملامح الجيدة أو السيئة في الشخصية , انما جعل التداعي موقفا انسانيا , يشمل الجميع , وخاصة في حالة الضعف , تاركا الأمر للقارئ , وإن كانت مثل هذه المراجعة , تتضمن بعدا يشي بطيبة الشخصية , وقد نجح الكاتب في هذا العمل , في استخدام وتوظيف مفاتيح قوية الملامح , مثل : فاتورة الحساب , والهاتف , والبذة السوداء , ثم القلم الذهبي , ليقدم لنا عملا فنيا حداثيا , بل كما اسلفت عملا ابداعيا بامتياز .
ولايفوتني أن اثني على القراءة الراقية التي قام بها الأديب الاستاذ مأمون المغازي , ولفتاته الذكية , وأنا اوافقه بالكثير , مما جاء في دراسته للنص , ولكنني لااوافقه في مسالة التملق الاجتماعي , عند دفع فاتورة الحساب , من سكان الطاولة المجاورة , فغالبا ما يحدث هذا , تجاه الشخصيات المعروفة في المجتمع , ورموز المجتمع , وليس في ذلك تملق , وأعتمد في رأيي على أن شخصية القصة , هو خارج اطار القوة والسلطة .