بأنف أبي الهولقطعت رحلتي بين أنحاء المعرض لأتوقف على تلك اللوحة المنزوية، تحمل بين ضلوعها 'نابليون العظيم' يمتطي حصانه الأبيض، يرقب سير المعركة من منظاره الإسطواني الطويل، يستظل بسحب البارود الزرقاء، يضع بظهره خلفية لأهرامات الجيزة، يتقدمها تمثال أبي الهول بأنفه المكسور، قرص الشمس الساطع يتوسط بهاء اللوحة من فوق قبعته المعقوفة،
تخيرتني من بين المتفرجين للمثول أمامها، يخترقني كل من يمر بجانبي دون أن يراها، أو يراني، لاحظت أن أسلوب إدارتها النهائي، يرتكز على إبراز الأشكال الهندسية، تجد الأهرامات المثلثة تتقابل مع أفخاذ الحصان، فوهة المنظار المستديرة، تتلاقى مع قرص الشمس، تسيرني نحوها، أتداخل وألوانها، وأحداثها، رائحة البارود تنخر من أنفي، صليل السيوف يقع على أذني، أرجل الخيل تدنس ملابسي، آهات الموت،و الغبار الأحمر.
حاولت التملص من هذا الجنون، تراجعت بخطواتي للوراء السحيق، احتجزتني أحضان قديمة بمعطفها الأسود، عكاز، فلول من شعر أبيض تتدثر بـ 'باريه'، وأنف كبير يحمل نظارة طبية، كدت أن أصرخ فزعا، صرعه ارتعادي للخلف، هممت بالتقاطه قبل الوقوع في بئر السقوط، استدرت، تمسكت بأطراف المعطف، انفتحت أمامي صفحات ملامحه، ما زلت استجمع التراكيب، القسمات، تهرول الخطوط على قضبان مخيلتي، أهاتف نفسي بالمعقول أحيانا، وبلا معقول أحيانا أخرى، بين الجنون وعقل الواقع أتقاذف... لا. ليس هو... هو... بل كأنه هو... تركت لوحته هناك بزمن القراءة على أغلفة الكتب، فتحت نافذة الوعي كي أُسائل نفسي: ما الذي أتى به إلى هنا؟! هل عاد يجدد حبه من بائعة الجرائد؟! أجاء يكتب يوميات عجوز بشوارع باريس؟! تتداعى الاسئلة على كل جدار حولي، ترتد إلى مسامعي مع صليل السيوف، وصهيل الخيل، وآهات الموت، علق غضب الدنيا بطرف عكازه، صوبه نحوي:
- كدت أن تصرعني يا.. (...)
- سيدي. أعذرني لم أقصد.
- ...
- سيدي. هل أنت...؟
- ليس ذنبي أنك لا تعرفني.
- ماذا أتى بك إلى هنا؟! وكيف خرجت من...؟!
- لك أن تسأل أهل الكهف.
أزاحني من أمامه، اتجه بخطواته الهادئة صوب اللوحة، دس يده في جيب المعطف، أخذ يتصفح اللوحة بحلم مفتن يقدر مذاق اللون، صمت كل شيء من حولي، تجمد المتفرجون كتماثيل الشمع، استدار بنظره نحوي، أشار بسبابته التي استلها من جيبه نحو اللوحة، أصدر قهقهاته الرخيمة، كأنه يعزف على أوتار حنجرته بريشة كسيرة، أو قف جحافل قهقهاته المتواثبة، وجم وجهه في وجهي، إلا من شفتيه اللتين احتفظتا ببقايا من الضحكات، تركني خلفه أصافح الجنون، تقدم نحو اللوحة، تداخل معها، قرع بعكازه رأس 'نابليون العظيم'، أسقطه من غروره، فر الحصان، الجنود، انقشع الغبار، سحب البارود، امتطى حماره الحكيم، أخرج من معطفه كتاباً بلون قلوبنا، رفعه لأعلى بيده اليمني، تجمدت اللوحة التي حملته بين ضلوعها، يعتلي حماره، يرقب التماثيل الشمعية من خلال كتابه، يستظل بسماء صافية، قرص الشمس الساطع يتوسط بهاء اللوحة من فوق 'الباريه'، يضع بظهره خلفية لأهرامات الجيزة، يتصدرها تمثال أبي الهول بأنف سليم.
محمد سامي البوهي