أحدث المشاركات
صفحة 2 من 3 الأولىالأولى 123 الأخيرةالأخيرة
النتائج 11 إلى 20 من 27

الموضوع: جيل دولوز والسؤال الفلسفي

  1. #11
    الصورة الرمزية سحر الليالي أديبة
    تاريخ التسجيل : Sep 2005
    الدولة : الحبيبة كــويت
    العمر : 38
    المشاركات : 10,147
    المواضيع : 309
    الردود : 10147
    المعدل اليومي : 1.49

    افتراضي

    الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز شكل الى جانب ميشيل فوكو وجاك دريدا وأخوين قلائل ، أحد أهم أقطاب الفلسفة الفرنسية مابعد-السارترية . رحل دولوز مختارا، مانحا لموته صيغة قرار ولا أفظع ، بعد ما أثقلت عليه صحبة المرض وتعطل جهازه التنفسي الذي أجبره في الأعوام الأخيرة على التزود بالأوكسجين اصطناعيا. قذف بنفسه الى الارض من نافذة شقته الباريسية الكائنة في الطابق السادس من البناية ، مكررا بذلك حركة الفيلسوف اليوناني أمبدوقليس، التي طالما امتدحها دولوز نفسه . فمثلما قذف الفيلسوف اليوناني بنفسه في قلب بركان "اتنا"، مختلطا بأحشاء الأرض الملتهبة ، رمى دولوز بنفسه الى رصيف الشارع ، ممتزجا بتراب الأحياء.

    بدأ دولوز بتاريخ الفلسفة ، فوضع دراسات معتبرة في فكر نيتشه وسبينوزا وهيوم وبرغسون ، وأخوين . مقاربة "خذاعة " لم يغير بها أسلوب العرض الفلسفي فحسب ، بل جعل تناوله لفكر الآخرين يشف عن فكره الشخصي الذي سيفرض بعد ذلك أسلوبه الفريد في "منطق المعنى" و" الاختلاف والتكرار" و"بروست والعلامات "، الخ . فكر أدخل على الفلسفة وتاريخها تعديلات أساسية ، واطا حركاتها بحركات المجال والأرض والشعوب ، حيثما كان سواه يربطها بتحقيبات زمنية . أسس لعلم بداوة أو "نومادولوجيا" مقابل "المونادولوجيا" أو فلسفة "الأحادة " اللايبنتسية ، ولجيولوجيا للأخلاق بدل "الجينيالوجيا" أو علم أنساب الأخلاق النيتشوي، علما بأن دولوز يظل ، شأن جميع كبار التيار الفلسفي التالي لسارتر، متأثرا بصاحب "زرادشت "، مواصلا الحفر في الأخدود الواسع والعميق الذي فرضه هذا السلف الألماني الكبير على أديم الفلسفة وأرضية المعرفة . كما خاض دولوز حربا لاهوادة فيها ضد "البسيكياتري" أو الطب النفسي الذي يحول في نظره الأفراد الى رمم، وأدان ارتباط التحليل النفسي بالرأسمالية ، يعمل مثلها على تقنين الرغبة ، وتنبأ بمقدم فاشية غربية معممة . وهناك بالطبع كتابة دولوز، جملته الأصيلة التي يصفها هو نفسه بأنها سائحة في جميع الاتجاهات وملموسة مع ذلك على نفسها من الخارج بقوة ، كالبيضة ...

    وهنا نصان لدولوز، مستلان من منتخبات فلسفية له اختارها بنفسه قبل سنوات ، و قد ترجمها الى العربية الشاعر العراقي مقيم في باريس : كاظم جهاد ، في كتاب من المؤمل أن يرى النور عما قريب.


    النص الأول ، "مسار فكري" (وعنوانه من وضع المترجم ، فهو بالأصل بلا عنوان)، هو الفصل الأول من كتاب " محاورات " Dialogues ، الذي وضعه جيل دولوز بالاشتراك مع كلير بارنيه Claire Parnet التي اضطلعت فيه بدور المحاور. صدر الكتاب في 1977 في منشورات " فلاماريون " Flammarion ، ضمن سلسلة مكرسة لمحاورة كبار المفكرين والكتاب . ولقد صيغ الكتاب لا على هيئة أسئلة وأجوبة ، وانما في شكل فصول يطرق دولوز في كل واحد منها عددا من الجوانب الأساسية لتفكيره وفلسفته وما يعتقد هو أئه يدين به لتجارب الآخرين الفكرية والفنية .

    أما النص الثاني، "الجذمور" Rhizome ، فقد وضعه دولوز بالتعاون مع المفكر والمحلل النفسي الراحل فيليكس غواتاري Felix Guattari، الذي ألف دولوز بالاشتراك معه مؤلفات عديدة ضمن أسلوب في الكتابة الفلسفية المشتركة أصيل و"استفزازي". وقد أصدر دولوز وغواتاري هذا النص في كتيب مستقل في البدء، في منشورات "مينوي " Minuit، ثم جعلا منه بعد ذلك ، ومع بعض التعديلات ، فاتحة كتابهما "ألف هضبة " Mille plateaux (الدار نفسها).

    عبر صورة "الجذمور" الذي ينمو في جميع الاتجاهات ، بلا جذر ولا ساق ، يتصدى المؤلفان لصورة الكتاب -الشجرة ، الكتاب المكتمل المنغلق على ذاته ، رمز المعرفة الهيغلية المعلقة . ثم يستطرد الفيلسوفان لمهاجمة الواحدية والمثنوية في مجالات عديدة تذهب من تشريح الدماغ وعمل الذاكرة الى الرياضيات واللسانيات فالأدب . وهذا كله ، إن كان يمنح في الوهلة الأولى للنص بعض صعوبة ظاهرية ، فهو إنما ينتهي الى تثوير صورة الكتاب وممارسته عبر ارتباطه بكل من الرغبة والتاريخ . وتجدر أخيرا الاشارة إلى أن المؤلفين قد مهدا لهذا النص بنوتة موسيقية لقطعة على البيانو.

  2. #12
    الصورة الرمزية سحر الليالي أديبة
    تاريخ التسجيل : Sep 2005
    الدولة : الحبيبة كــويت
    العمر : 38
    المشاركات : 10,147
    المواضيع : 309
    الردود : 10147
    المعدل اليومي : 1.49

    افتراضي

    النص الأول
    لبالغ الصعوبة أن " يفصح " المرء عن نفسه في محادثة أو مقابلة أو حوار. وفي أغلب الأحايين ، فأنا عندما يطرح علي سؤال ، حتى إذا كان يمسني شخصيا، أجد أن ليس لدي ما أقول . تصنع الاسئلة ككل شيء سواها. واذا لم يدعك الآخرون تصنع اسئلتك ، من عناصر اتية من كل مكان ، ومن أيما شيء، واذا ما "القوها " عليك ، فإنك لن تكون لديك أشياء ذات بال لتقولها. إن فن إنشاء مسألة لهو بالغ الأهمية : تخترع المسألة ، ومرضعه ما للمسألة ، قبل أن يوجد الحل . ولا شيء من هذا يمكن القيام به في محاورة ، أو محادثة ، أو نقاش . حتى التفكير انفرادا، أو مثنى، أو جماعا، ليس ليكفى التفكير خصوصا. أما الاعتراضات ، فأسوأ في كل مرة يعترض علي فيها، تنشأ لدي الرغبة في أن أقول : " حسنا! حسنا! فلننتقل إلى شىء اخر" . إن الاعتراضات لم تأت بشيء أبدأ. والشيء نفسه عندما يطرح علي سؤال عمومي. لايتمثل الهدف في الاجابة على أسئلة ، بل في الخروج ، الخروج منها. وكثيرون يعتقدون بأننا نخرج من الأسئلة بتكرارنا إياها. " ماذا عن الفلسفة ؟ أهي ميتة ؟ هل نحن سائرون الى تجاوزها ؟ " . إن هذا لمضن حقا. لن يكفوا عن الرجوع الى السؤال أملا بالخروج منه . لكن لخروج لا يتحقق على هذه الشاكلة أبدأ. تتحقق الحركة " في ظهر" المفكر دائما، في اللحظة التي يحدق فيها مسهما وتطرف أجفانه . الخروج ، هذا حادث من قبل ، والا فأبدا لن نخرج . تنزع الأسئلة عموما إلى مستقبل (أو إلى ماض). مستقبل المرأة ، مستقبل الثورة ، مستقبل الفلسفة ، الخ .. لكن في تلك الأثناء، وفيما ندور نحن في حلقة مفرغة ، وسط هذه الأسئلة ، فإن هناك صيرورات تعمل في صمت ، خفية عن النظر تقريبا.إننا نفكر أكثر مما ينبغي بمفردات التاريخ ، الشخصي أو الشامل . أما الصيرورات ، فهي امسألتال جغرافية : إنها توجهات ، وجهات ، مداخل ومخارج . ثمة صيرورة -إمرأة لا تختلط بالنساء، بماضيهن أو مستقبلهن ، وينبغي تماما أن تدخل النساء في هذه الصيرورة حتى يخرجن من ماضيهن ومن مستقبلهن ، من تاريخهن . وثمة صيرورة -ثوري (أ) لا تختلط بصيرورة الثورة ، وربما لم تكن لتمر بالضرورة عبر المناضلين . وثمة صيرورة -فيلسوف لا شيء يجمعها بتاريخ الفلسفة ، وهي تمر بالأحرى بمن يعجز تاريخ الفلسفة عن تصنيفهم.

    ليست الصيرورة أبدأ التقليد، ولا التصرف على شاكلة ( هذا أو ذاك)، ولا الامتثال لا نموذج، وان يكن أنموذج عدالة أو حقيقة .لا طرف منه ننطلق ، ولا طرف نبلغه أو ينبغي أن نبلغه . ليس كذلك من طرفين يمكن استبدالهما أحدهما بالاخر. إن السؤال : " ما أصبح عليه ( هذا الشيء أو ذاك)؟ " ، لهو غبي تماما. إذ بقدر ما يصير أحد، فإن ما يصير اليه يتغير قدر تغيره هو نفسه . ليست الصيرورات ظواهر محاكاة ، ولا هضم ، بل هي (ظواهر) قنص مزدوج ، ونمو غير متواز، وأعراس بين عالمين مختلفين . الأعراس مجانية للطبيعة أبدا. الاعراس نقيض الزيجة . ليس من آلات ثنائية : سؤال / جواب ، مذكر/مؤنث ، إنسان / حيوان ، الخ ... يمكن لمحاورة أن تكون هذا: رسم صيرورة ببساطة . إن الزنبور والسحلبية ليمداننا بمثال . تبدو السحلبية في صدد تشكيل صورة زنبور، لكن ثمة في الواقع لدى السحلبية صيرورة - رنبور، ولدى الزنبور، صيرورة - سحلبية ، قنص مزدوج ، مادام " ما " يصيره كل منهما يتغير بقدر ما يتغير " من " يصير. يصبح الزنبور جزءا من جهاز إنتاج السحلبية، في الوقت نفسه الذي تصبح فيه السحلبية عضوا جنسيا للزنبور. صيرورة واحدة ، وكتلة واحدة للصيرورة ، أو، كما يعبر ريمي شوفان ، " نمو غير متواز لكائنين لا يمت أحدهما للاخر بصلة " . ثمة صيرورات حيوانات للإنسان لا تتمثل في محاكاة الكلب أو القطة ، ما دام الحيوان أو الأنسان لا يتلاقيان إلإ في مسافة ترحل (ب) مشترك لكنه غير متناظر. إن الشيء لشبيه بطيور موتسارت : ثمة في هذه .لموسيقى صيرورة - طائر. على أنها مأخوذة في صيرورة - موسيقى للطائر، فا لاثنتان تشكلان صيرورة واحدة ، كتلة واحدة ، نموا غير متواز: لا تبادل ، قط ، بل " مسارة بلا محاور ممكن " ، كما يقول أحد شارحي موتسارت -، أي، ويإيجازا، محاورة .

    الصيرورات هي ما يكون أكثر خفاء، إنها الآفعال التي لا يمكن أن تكون محتواة إلا في حياة ، ولا معبرا عنها إلا في أسلوب . شأنها شأن أنماط الحياة ، ليست الأساليب بناءات . في الأسلوب ، أي أسلوب ، ليست الكلمات هي ما يهم ، ولا الجمل ، ولا الصور ولا الايقاعات . وفي الحياة ،ليست الحكايات (هي ما يهم) ولا البدايات ولا النتائج . إن كلما ليظل ممكنا دائما استبدالها بأخرى. إن كانت هذه (الكلمة) لا تروق لكم أو لاتناسبكم ، فهاكم سواها، ضعوا محل الكلمة السابقة كلما أخرى. لو بذل كل واحد هذا المجهود، لاستطاع الجميع أن يتفاهموا، ولما عاد من مبرر لطرح أسئلة ،أو التقدم باعتراضات. ليس ثمة كلمات نظفتة، ولا مجازات (جميع المجازات كلمات وسخة ، أو تشكل كلمات وسخة). ليس ثمة سوى كلمات غير دقيقة لتسمية شيء ما بدقة فلنجترح كلمات خارقا، شريطتا أن نستخدمها الاستخدام الأكثر عادية ، حتى نجعل النوعية التي تسميها هي موجودة على قدم المساواة والشيء الأكثر شيوعا. لدينا اليوم طرائق جديدة للقراءة ، وربما للكتابة أيضا. منها ما هو رديء وقذر. يتوفر، مثلا، الانطباع بأن بعض الكتب مؤلفة من أجل القراءة التي يفترض أن يحققها عنها صحفي ما، هكذا بحيث لن تعود من حاجة للقراءة ، بل ، فحسب ، لكلمات جوفاه (ينبغي قراءة هذا! إنه لمدهش ! هيا: سترون !)، وذلك من أجل تفادي قراءة الكتاب وتهيئة المقالة . أما القراءات الجيدة اليوم ، فتتمثل في التوجه إلى معالجة كتاب مثلما نستمع إلى أسطوانة ، أو كما نشاهد فيلما أو برنامجا تلفزيونيا، وكما نتلقى أغنية : كل معالجة للكتاب تطالب باحترام خاص له ، وبانتباه من ضرب اخر، إنما هي اتية من عصر اخر وانها لتدين الكتاب نهائيا. ليس هناك مسألة صعوبة أو فهم قط : إن المفهومات هي بالضبط كمثل أصوات ، ألوان أو صورا إنها توهجات تناسبكم أو لا، وتفلح في المرور أو لا تفلح . فلسفة - لاولا(ت). ليس هناك ما يفهم ، ولا ما يؤول . أود أن أقول ماالاسلوب . إنه محاورة من يقال عنهم عادة " إنهم بلا أسلوب ... " ليس الاسلوب بنيتا دالة، ولا منظومه مفكرا بها، ولا إلهاما عفويا، ولا تجويقا، ولا جملة موسيقيا تتكرر... إنه ترتيب : ترتيب قول . يتمثل الاسلوب في أن نتوصل إلى التأتأة في لساننا نفسه . هذا صعب ، لانه ينبغى أن تكون ثمة ضرورة لمثل هذه التأتأة . لا أن يكون المرء تمتاما في كلامه ، وانما أن يكون تمتام اللغة نفسها بالذات . أن يكون كمثل غريب في لسانه نفسه . أن يجترح منسربا أو خط هروب (ث). الامثلة .لاكثر سطوعا عندي هي: كافكا، بيكيت ، غيراسيم لوكا، وغودار. إن غيراسيم لوكا لشاعر كبير بين أكبر الشعراء. لقد ابتكر تأتأة رائعة، هي تأتأته . حدث له أن قدم قراءات لقصائده أمام الجمهور، مائتي شخص، ومع ذلك فقد كان هذا حدثا؛ إنه حدث يمر عبر مائتي مستمع . من دون أن يعود إلى مدرسة أو حركة . أبدا لا تمر الاشياء حيثما نحسب ، ولا بالطرق التي نحسب .

    يمكن الاعتراض بأننا إنما نطرح أمثلة ملائمة ، فكافكا يهودي تشيكوسلوفاكي، كان يكتب بالالمانية ، وبيكيت إيرلندي يكتب بالانكليزية والفرنسية ، وغيراسيم لوكا روماني الاصل ، وغودار سويسري. ثم ماذا؟ ليست هذه مشكلة أي منهم . إن علينا أن نكون مزدوجي اللغة حتى داخل لغة بذاتها: علينا أن نحوز لغة أقلية (ج) داخل لغتنا نفسها بالذات ، علينا أن نستخدم لغتنا نفسها استخداما أقليا. ليست التعددية اللغوية هي حيازة نظم عديدة يكون كل واحد منها متجانسا في ذاته ، فحسب ، بل هي، أولا، خط الهروب أو التنويع الذي يمس كل نظام مانعا إياه من التجانس . لا أن نتكلم كإيرلندي آو رومانى في لغة أخرى سوى لغتنا، بل بالعكس ، أن نتكلم في لغتنا نفسها كأجنبي. يقول بروسة : "إن الكتب الجميلة مكتوبة في ضرب من لغة أجنبية . تحت كل كلمة ، يضع كل منا معناه أو على الاقل صورته التي هي في الغالب معنى خاطيء. لكن في الكتب الجميلة ، تظل جميع الاخطاء التي نرتكب جميلة " (1) (ح). هذه هي الطريقة الجيدة في القراءة . جميع الاخطاء أو المعانى المضادة جميلة ، شريطة الا تشكل تأويل ، وانما أن تهم استخدام الكتاب ، أن تمدد استخداماته ، أن تجترح داخل لغتها لغة. "الكتب الجميلة مكتوبة في ضرب من لغة أجنبية ..." هذا هو تعريف الاسلوب . وهذه أيضا مسألة صيرورة . دائما يفكر بمستقبل أغلبي (عندما ستكون كبيرا، عندما سأتسلم الحكم ...) على حين يتمثل المشكل في الصيرورة - أقليا: لا أن نتصنع ، ولا أن نقلد أو نحاكي الطفل ، أو المجنون ، أو المرأة ، أو الحيوان ، أو التمتام أو الغريب ، وأنما نصير هذا كله ، حتى نبتكر قوى جديدة أو أسلحة جديدة .

    الامر نفسه بالنسبة إلى الحياة . ثمة في الحياة ضرب من الخرف ، من هشاشة الصحة ، من البناء المعتل ، ومن التأتأة الحيوية التي هي سحر أحد ما. السحر منبع الحياة ، كما يكون الاسلوب منبع الكتابة . ليست الحياة هي تاريخك (حكايتك الشخصية)؛ إن من لا يتمتعون بسحر ليفتقرون إلى الحياة ، إنهم لكمثل الموتى. سوى أن السحر ليس هو الشخص كله . إنه ما

    يمكن من القبض على الاشخاص كتركبات ، وفرص فريدة تمخضت عن هذه التركيبة . رمية نرد ظافرة بالضرورة ، لانها تؤكد الصدفة بما فيه الكفاية بدل أن تقطعها، او تطبعها بالاحتمال، أو تبترها. من هنا، فعبر كل تركيبة هشة إنما تتأكد ثورة على الحياة ، بقوة ، بعناد، ومواظبة في الوجود مالها من مثيل . إنه لغريب أن ترى إلى كبار المفكرين وهم يتمتعون بحياة شخصية هشة ، وصحة غير متيقنة ، في الوقت نفسه الذي يرفعون فيه الحياة إلى مصاف قدرة مطلقة أو "عافية موفورة " . ليسوا أشخاصا، وانما هم تركباتهم الخاصة . إن السحر والاسلوب لكلمتان رديئتان ، وينبغي العثور على مفردات أخرى سواهما، واستبدالهما. ثم إنه في الاوان ذاته الذي يمنح فيه السحر الحياة قوة غير شخصية تتجاوز الافراد، يهب الاسلوب الكتابة غاية برانية تفيض عن المكتوب . وهما الشيء ذاته : فلا تتمتع الكتابة بغايتها في ذاتها، مثلما لا تمثل الحياة شيئا شخصيا. تجد الكتابة غايتها الوحيد في الحياة ، عبر التركبات التي تسحبها منها، بعكس " العصاب " (Nervose) (خ) الذي لا تكف الحياة فيه، بالضبط ، عن أن تجد نفسها مشوهة ، محقرة ، مشخصنة ، ومماتة ، والكتابة عن أن تتخذ نفسها غاية . إن نيتشه ، الذي كان ، بعكس العصابي، هائل الحيوية ، ومعتل الصحة ، قد كتب: "يبدو أحيانا أن الفنان ، وخصوصا الفيلسوف ، ليس سوى مصادفة في حقبته ... إن الطبيعة التي لاتثب أبدا ، تقوم لدى ظهوره بوثبتها الوحيدة ، وانها لوثبة فرح ، ذلك أنها تشعر أنها بلغت (هنا) مرامها لاول مرة ، هناك حيث تدرن أنفا، باللعب مع الحياة والصيرورة ، كانت مدفوعة إلى رهان كبير. وهذا الاكتشاف يجعلها تتضوأ، وينطرح على محياها تعب المساء العذب ، هذا الشيء الذي يدعوه البشر بالسحر"(2).

    عندما نعمل ، نكون بالضرورة في عزلة مطلقة . لا يمكن أن نشكل مدرسة ، ولا طرفا في مدرسة . ليس ثمة من عمل الا أسود وسريا. سوى أنها عزلة مأهولة بشدة . لا بالاحلام ، أو الاستيهامات ، أو المشاريع ، وانما بلقاءات . إن لقاء ربما كان يشكل والاعراس أوالصيرورة الشيء نفسه . من غور هذه العزلة نقدر أن نحقق جميع ضروب اللقاءات . نلاقي أناسا (وأحيانا من دون أن نعرفهم ومن دون أن نكون رأيناهم أبدا)، لكن كذلك حركات ، أفكارا، تنافيات ، نوعيات . لجميع هذه الاشياء أسماء شهرة ، لكن إسم الشهرة لا يحدد قط شخصا أو فاعلا. يحدد في الواقع تعرجا، شيئا ما يمر أو يحدث بين اثنين ، كما لو تحت ( تأثير) اختلاف في الاحتياطي : " أثر كومبتون " ، أو" أثر كللاان " ( 10). نقول الشيء نفسه في ما يتعلق بالصيرورات : لا يصبح طرف الطرف الاخر، وانما يلاقي كل منهما الاخر، صيرورة واحدة لاتكون مشتركة للاثنين ، ما دام الواحد منهما لا يمت بصلة للاخر، وانما هى بين الاثنين ، وتتمتع باتجاهها الخاص ، كتلة صيرورة ، نمو غير متواز. وهذا هو القنص المزدوج ، الزنبور والسحلبية : حتى ولا شيء يكون في طرف ، أو في الاخر، وان يكونا موعودين بتبادل ، وامتزاج ، بل هو شيء بين الاثنين ، خارج الاثنين ، وانه ليجري في اتجاه أخر. أن نلاقي هو أن نعثر على ...، أن نقتنص ، أن نسرق ؟ لكنه شيء بين الاثنين ، كل شيء هو ثمرة تهيئة طويلة . إن السرقة لهي مضاد الانتحال ، الاستنساخ ، التقليد، أو المحاكاة . والقنص هو دائما قنص مزدوج ، والسرقة سرقة مزدوجة ، وهذا لا يصنع شيئا متبادلا، وانما كتلة غير تناظرية، نموا غير متواز، أعراسا، دائما " في الخارج " ودائما " بين " . انذاك يكون حوار.

    "نعم أنا سارق أفكار

    لست -أرجوكم - خاطف أرواح لقد بنيت وبنيت ثانية

    على ما هو في انتظار

    لان رمل الشواطىء

    يرسم قصورا كثيرا

    في ما فتح

    قبل زماني

    كلمة، لحنا، خطا، حكاية

    مفاتيح في الريح لاهرب من الفكر

    ولاهرب أفكاري المغلقة نفحة فناء خلفي

    ليس مشغلتي أن أجلس وأتأمل

    مزجيا الوقت في التخمينات

    مفكرا بأفكار هاهي من الفكر

    وبأحلام لم يحلم بها

    أو بأفكار جديدة لم تكتب بعد

    أو بكلمات جديدة تلائم القافية ...

    إني لا أعبأ بالسنن الجديدة

    طالما لم تجترح

    وأنا أصرخ بما يغني في رأسي

    عارفا أننا، أنا وجميع من هم مثلي،

    من سوف نسنها، هذه السنن ،

    واذا كان أبناء الغد

    بحاجة لسنن اليوم،

    فلتحتشدوا جميعا أيها القضاة

    ما دام العالم ليس سوى محكمة

    نعم

    لكني أعرف المتهمين أفضل منكم

    وفيما تنهمكون في الملاحقات

    ننهمك نحن في الصغير

    ننظف قاعة المحاكمة

    نكنس ونكنس

    نصغي ونصغي

    غامرين بعضنا لبعض

    انتبهوا

    الا انتبهوا

    لن يتأخر دوركم قط " (3).

    كبرياء قصيدة بوب ديلان هذه روعتها، وتواضعها. إنها لتقول كل شى ء. أطمح ، كأستاذ جامعي، أن أقدم درسا كما ينظم أيلان أغنية ، كمنتج مدهش أكثر منه مؤلفا. وليبدأ الشيء مثلي عنده ، فجأة ، مع قناعه قناع المهرج ، ومع فن لكل تفصيل مدروس ، مع أنه مرتجل . إنه ضد المنتحل ، لكن في الاوان ذاته ضد المعلم أو الانموذج . تهيئة طويلة جدا، لكن بلا منهج ولا قواعد أو وصفات . أعراس ، لكن بلا زوج ولا زيجة . أن أمتلك كيسا لاضع فيه كل ما ألاقي، لكن شريطة أن أرضع في كيس أنا أيضا. العثور، الملاقاة ، السرقة . بدل التنظيم ، أو الاقرار أو الحكم .ذلك إن الاقرار هو نقيض اللقاء. يظل الحكم مهنة الكثير من الناس ، وهو ليس بالمهنة الجيدة ، لكن هذا هو أيضا الاستخدام الذي يخضع كثيرون له الكتابة. إن لافضل أن نكون كناسين من أن نكون قضاة . بقدر ما نخطيء في حياتنا، نمنح دروسا. لا أحد يضاهي الستالينيين في إعطاء دروس في اللا-ستالينية والاعلان عن سنن جديدة " . إن هناك سلالة كاملة من القضاة ، وان تاريخ الفكر ليختلط بتاريخ محكمة ، إنه ينادي بانتمائه إلى محكمة العقل المحض أو الايمان المحض ... لذا يتكلم الناس بمثل هذه السهولة باسم الاخرين وبدلا عنهم ، ويحبون الاسئلة إلى هذا الحد ويعرفون بهذه الدرجة من الجودة طرحها والاجابة عليها. هناك أيضا من يطالبون بأن يحكم عليهم ، لا لشيء إلا ليقر بهم مذنبين . ينادى في القضاء بالامتثال ، حتى إذا كان ذلك لقواعد تخترع ، أو لمتعال نزعم إماطة اللثام عنه ، أو لمشاعر نرفضها. إن العدالة ، وقوة الاصابة (في الحكم أو التشخيص)، لهما فكرتان رديئتان . ضدهما ينبغي أن ندفع بصيغة غودار : لاصورة صائبة ، بل مجرد صورة . الشيء نفسه في الفلسفة ، مثلما في فيلم أو أغنية : لا أفكار صائبة ، وانما أفكار وليس أكثر، ذلكم هو اللقاء، تلكم هي الصيرورة ، السرقة ، الاعراس ، " ما بين " العزلات هذا. عندما يقول غودار: أريد أن أكون مكتب إنتاج ، فهو لا يقصد بالطبع : أريد إنتاج أفلامي، أو أريد نشر كتبي بنفسي . بل يقصد ( إنتاج) أفكار فحسب ، لاننا، عند هذا المصاف، نكون وحيدين تماما، إنما كمثل جماعة أشرار أيضا. لم يعد الواحد مؤلفا، وانما مكتب إنتاج ، وهو أبدا لم يكن مأهولا أكثر منه الان . أن يكون " عصبة " : تعيش العصب أشد المخاطر. يمكن أن نعيد ترميم قضاة ، ومحاكم ومدارس ، واسر وزيجات ، لكن ما هو جيد في عصبة ، مبدئيا، هو أن كلا يتابع فيها قضيته الخاصة في الاوان ذاته الذي يلاقي فيه الاخرين ، كل يذهب بأسلابه ، وان صيرورة لترتسم ، وكتلة تشرع بالحركة ، وهى لا تعود إلى أحد، وانما هي " بين الناس جميعا، كمثل قارب يطلقه صغار ويفقدونه ، ويسرقه اخررن . ما فعل يا ترى غودار وميلفيل في المحاورات التلفزيونية " ست مرات اثنين " ، إن لم يكن الاستخدام الاكثر ثراء لعزلتهما، واستعمالها كوسيلة تلاق ، وجعل خط أو كتلة تمر بين شخصين ، وانتاج جميع ظواهر القنص المزدوج ، والابانة عن أن " واو" العطف لاتشكل اجتماعا ولا تجاورا، وانما نشأة تأتأة ، وأثر خط متكسر ينطلق على الدوام في حيدان ، ضرب من خط هروب فاعل وخلاق ؟ و...و...و...

    ليس ينبغي البحث عما إذا كانت فكرة صائبة أم مخطئة . ينبغي البحث عن فكرة أخرى مختلفة، في محل أخر. في ميدان اخر، بحيث يمر بين الاثنتين شيء ما، لا يكون في احداهما ولا في الثانية . الحال ، إننا لا نعثر على هذه الفكرة وحدنا عموما، بل تلزم صدفة ، أو أحد يهبنا إياها. ليس ينبغي أن يكون المرء عارفا، أن يعرف هذا الميدان أو ذاك ، وانما أن يتعلم هذا أو ذاك في ميادين جد مختلفة . وان هذا لافضل من القطع "cut - up " (ذ) . هو بالاحرى إجراء " pick - me - up " (إنعاش)، إجراء " pick - up " ، وهو -في المعاجم : الاقتناص ، انتهاز الفرصة ، استئناف عمل محرك ، التقاط الموجات : ثم إن هناك المعنى الجنسي للمفردة. مايزال " قطع " بورو Burroughs يشكل منهج احتمالات ، لغوية على الاقل ، ولا يشكل ، بعد، إجراء اقتراع أو فرصة فريدة في كل مرة ، تقوم بتركيب المتنافرات . فمثلا، أنا أحاول أن أوضح أن الاشياء، والناس ، مؤلفون من خطوط بالغة التنوع ، وأنهم لا يعرفون بالضرورة في أي خط من أنفسهم هم كائنون ، ولا أين يحررون الخط الذي هم بصدد رسمه . بإيجاز، إن هناك في الناس جغرافية كاملة ، مع خطوط صلبة ، وأخرى مرنة ، وخطوط هروب ، الخ... ألتقي صديقي جان -لايير الذي يفسر لي ، بصدد شيء اخر، أن ميزان النقد يتضمن خطا بين نمطين من العمليات ، بسيطين في الظاهر، لكن هذا الخط بالتحديد يقدر الاقتصاديون تمريره في أيما محل ، وعلى هذه الشاكلة بحيث لا يعرفون قط أين يمررونه . إنه تلاق ، لكن مع من؟ مع جان -لايير، مع ميدان ، مع فكرة ، مع كلمة ، أو إيماءة ؟ مع فانى (ر)، لم أتوقف عن العمل على هذه الشاكلة . هذه الافكار دائما أمسكت بي " بالمقلوب " ، اتية من محل اخر بعيد تماما، وبحيث كنا نتلاقى كعلامات تصدر عن مصباحين . تعثر فأنى في عملها على قصائد للورنس بخصوص السلاحف ؟ ماكنة لاعرف شيئا عن السلاحف ؛ ومع ذلك فإن هذا يغير كل شيء بصدد الصيرورات الحيوانية ، إنه ليس من المؤكد أن في مقدور اي حيوان أن يجتذب إلى هذه الصيرورات . ربما السلاحف ؟ أو الزرافات ؟ هوذا لورنس يقول : "إذا كنت زرافة ، وكان الانجليز الذين يكتبون عني كلابا حسنة التربية ، فلا شيء على ما يرام ، فالحيوانات مفرطة الاختلاف . تقولون أنكم تحبونني: صدقونى، إنكم لا تحبونني، بل تكرهون بالغريزة الحيوان الذي أكون ". إن أعداءنا لكلاب . لكن ما هو بالضبط لقاء مع كائن نحب ؟ أهو لقاء مع أحد، أم مع حيوانات تأتى لتسكننا، أو مع أفكار تغزونا، حركات تدفعنا، وأصوات تخترقنا؟ وكيف نميز بين الاشياء؟ أقدر أن أتحدث عن فوكو، أن أحكي أنه قال لي هذا الشيء أو ذاك ، أن أروي بالتفصيل كيف أراه . لكن ليس هذا بشيء زي بال ، طالما لم أعرف كيف ألاقي حقا هذا المجموع من الاصوات المتدافعة ، والحركات الحاسمة ، والافكار التي هي جميعا من خشب ناشف ونار، والانتباه المتطرف والانفلاق المفاجيء، والضحك والابتسام الذي تحس به " خطيرا " في اللحظة نفسها التي تحس فيها بحنانه - هذا المجموع بما هو تركيبة فريدة إسم شهرتها هو ميشيل فوكو. رجل بلا مراجع ، كما يقول فرانسوا إيوالد: إنه لاجمل إطراء ممكن ... جان -لايير، الصديق الوحيد الذي لم أهجره أبدا، وأبدا لم يهجرني... وجيروم (ز)، هذا الخيال الماشي ، الذي هو في حركة ، المخترق من كل جانب بالحياة ، والذي يتغذى سخاؤه وحبه من بؤرة وحيدة ، هي يونس ... في كل واحد منا، ثمة ما يشبه الزهد، الموجه في جانب منه ضد أنفسنا. نحن صحراوات ، لكنها مأهولة بقبائل ، بوحوش وممالك من الزهر. ونحن ننفق أوقاتنا في ترتيب هذه القبائل ، في تنظيمها على نحو مختلف ، في حذف بعضها، وجعل بعض أخر منها يزهر. وجميع هذه الشعوب ، هذه الحشود، لا تعيق الصحراء، التي هي زهدنا نفسه بالذات ، بل بالعكس تأهلها، وتمر بها، فوقها. في غواتاري، كان ثمة دائما شعاع وحشي ، موجه في جانب منه ضد نفسه. إن الصحراء، التجريب على الذات ، هي هويتنا الوحيدة ، حظنا الوحيد لجميع التركبات التي تسكننا. أنئذ يقال : لسقم معلمين ، لكنكم في هذه الحالة خانقون أكثر. كم كنا نود أن نكون شيئا أخر.

    تلقيت إعدادي على أيدي فيلسوفين كنت أمحضهما مودة واعجابا كبيرين . ألكييه Alquie وهيبوليت Hyppolite. ثم فسد كل شيء. كان للاول يدان طويلتان بيضاوان وتأتأة لم نكن لنعرف إن كانت أتية من الطفولة أم أنها كانت هنا لتخفي، بالعكس ، لهجة ولادية كانت تضع نفسها في خدمة الثنائيات الديكارتية . والاخر، كان له وجه قوي، بملامح ناقصة ، وكان يوقع بقبضته الفقرات الهيغلية شابكا الكلمات . مع تحرير باريس ، وجدنا أنفسنا حائرين في تاريخ الفلسفة بغرابة . كنا ببساطة ندخل إلى (فلسفة) هيغل وهرسرل وهايدغر. نتدافع ككلاب ناشئة في تعليم كان أسوأ مما في العصر الوسيط . ومن حسن حظنا أنه كان هناك سارتر. كان سارتر بالنسبة الينا هو الخارج ، كان حقا نفحة من الغناء الخلفي (وما كان ليهم كثيرا أن نعرف ما كانت بالضبط علاقاته بهايدغر من وجهة نظر تاريخ قادم). بين جميع احتمالات السوربون ، كان هو التوليفة الوحيدة التي تمدنا بالقوة لنحتمل عودة الاشياء إلى نصابها من جديد. ولم يكف سارتر عن أن يكون هذا، لا أنموذجا، ولا منهجا أو مثالا، وانما شيئا من الهواء النقي تيار هواء حتى إذا كان أتيا من مقهى " فلور" ، مثقفا يغير وضعية المثقف بفرادة . إن لمن الغباء التساؤل إن كان سارتر بداية شيء ما، أو نهايته . كجميع الاشياء والافراد الخلاقين ، هو في الوسط ، ينمو من الوسط . يبقى أنني أبدأ لم أشعر بالانجذاب إلى الوجودية يومذاك ، ولا إلى الظاهراتية (الفينومينولوجيا)، لا أدري لم ، حقا، لكن هذا كله كان يبدو في ذمة التاريخ عندما أتينا نحن ، وفرة مفرطة من المنهج ، ومن المحاكاة ، والتفسير، والتأويل ، الا لدى سارتر. واذن ، فبعد التحرير، أطبق تاريخ الفلسفة علينا، حتى بدون أن نفطن إلى ذلك، بحجة تفتيح أعيننا على مستقبل فكر هو في الاوان ذاته الفكر الاكثر عتقا. لا يبدو لي أن " مسألة هايدغر" هي: هل كان نازيا نوعا ما (هذا بديهي، هذا بديهي)، وانما: ما كان دوره في هذه الحقبة الجديدة من تاريخ الفلسفة ؟ إن الفكر لشيء لا يحمله محمل الجد تماما إلا من يزعمون كونهم مفكرين ، وفلاسفة محترفين . لكن هذا لا يمنع أن يكون له - أي للفكر- أجهزته السلطوية عندما يقول للناس : لا تحملوني محمل الجد ما دمت أفكر من أجلكم ، وما دمت أمنحكم امتثالا، معايير وقواعد، صورة يمكنكم الانصياع اليها سيما وأنكم ستقولون :"ليس هذا شأني، ما لهذا من أهمية ، إنها قضية الفلاسفة ونظرياتهم المحض ".

    دائما، كان تاريخ الفلسفة عامل السلطة داخل الفلسفة ، بل وحتى داخل الفكر. لعب دور القامع: كيف تريدون التفكير من دون قراءة افلاطون ، وديكارت ، وكانت وهايدغر، وكتاب هذا عنهم، أو ذاك ؟ مدرسة رهيبة للتجفيل " تفبرك " اختصاصيين للفكر، لكنها تدفع كذلك من يبقون في الخارج إلى الامتثال هم أيضا، وبأكثر قوة ، إلى هذا الاختصاص الذي يزدرونه .إن صورة للفكر، إسمها الفلسفة ، قد تأسست تاريخيا، وهي تمنع من التفكير حقا. إن علاقة الفلسفة بالدولة لا تأتى فحسب من كون أغلب الفلاسفة كانوا، منذ ماض قريب ، " أساتذة عموميين " (مع إن هذه الحقيقة كان لها معنى مختلف في كل من فرنسا وألمانيا). إن العلاقة لاتية من بعيد. ذلك أن الفكر يستمد صورته الفلسفية بصورة محض من الدولة باعتبارها داخلا جميلا جوهريا أو ذاتيا. إنه يخترع دولة روحانية بصريح التعبير، بما هي دولة مطلقة ، لاتكون قط حلما مادامت تعمل في الفكر فعلا. من هنا أهمية مفهومات كالكونية ، والمنهج ، والسؤال والاجابة ، والحكم والاقرار أو التمييز، والافكار الصائبة ، امتلان أفكار صائبة دوما. ومن هنا أيضا أهمية موضوعات كجمهورية الافكار، ومبحث الفهم ، ومحكمة العقل ، و" حق " محض للفكر، مع وزراء داخلية الفكر المحض وموظفيه . إن الفلسفة لمخترقة . بما هي مشروع تشكيل اللغة الرسمية لدولة محض . وعلى هذه الشاكلة تتطابق ممارسة الفكر مع أهداف الدولة الفعلية والدلالات المهيمنة مثلما مع إلزامات النظام القائم . قال نيتشه كل شيء في هذا الصدد في "شوبنهاور مربيا" . وما يجد نفسه مسحوقا، ومدانا، باعتباره مزعجا، هو كل ما ينتمي إلى فكر بلا صورة ، كالبداوة ، وماكنة الحرب ، والصيرورات ، والاعراس المنافية للطبيعة ، والقنص، والسرقات ، وما يقيم بين عالمين (الانسانى والحيواني مثلا)، واللغات الاقلية ، والتأتأت في اللغة ، الخ ... أكيد أن ميادين أخرى سوى الفلسفة وتاريخها يمكن أن تلعب دور قامع الفكر، هذا. يمكن اليوم حتى أن نقول أن تاريخ الفلسفة قد أفلس ، وأن "الدولة لم تعد بحاجة للمصادقة عليها من لدن الفلسفة ". إلا أن منافسين صارمين احتلوا من قبل مكانها. لقد انتزعت الابستمولوجيا الراية من فلسفة التاريخ . والماركسية تطلق حكما للتاريخ بل حتى (تقيم) محكمة للشعب هما بالاحرى أكثر إقلاقا من السابقين . والتحليل النفسي يعنى أكثر فأكثر بوظيفة " الفكر " ويتزوج الالسنيات ، لا بدون حق . هذه الاجهزة الجديدة سلطة داخل الفكر نفسه ، ويؤلف ماركس وفرويد وسوسير قامعا غريبا برؤوس ثلاثة ، لغة كبرى مهيمنة : التأويل ، التحويل ، والتعبير أو القول هي أشكال جديدة "لصائب" الافكار. حتى المؤشر النحوي لشومسكي هو، أولا، مؤشر سلطة. لقد انتصرت الالسنيات في الاوان ذاته الذي راح الاعلام يتنامى فيها كسلطة ، ويفرض صورته عن اللغة والفكر، المتطابقة وتوصيل الايعازات وتنظيم التكرارت . ليس من كبير معنى في التساؤل إن كانت الفلسفة ماتت ، في حين تضطلع بوظيفتها مباحث أخرى كثيرة . إننا لا ننادي بأي حق بالجنون ، لفرط ما يمر الجنون نفسه بالتحليل النفسي والالسنيات مجتمعين ، ولفرط ما أصبح مخترقا بالافكار الصائبة وبثقافة متينة أو بتاريخ بلا صيرورة ، ولفرط ما يتمتع بمهرجيه وأساتذته وقادته الصغار.

    بدأت إذن بتاريخ الفلسفة ، عندما كان ما يزال فارضا نفسه . وما كنت لاهتدي إلى وسيلة للخروج منه لحسابي الخاص . لم أكن أحتمل لا ديكارت ، ولا ثنائيات الكوجيتو، ولا هيغل وثلاثياته وعمله السلبي. فوجدتني محبا لفلاسفة كان يبدو عليهم أنهم منخرطون في تاريخ الفلسفة ، لكنهم كانوا يفلتون منه من جانب ما أو من الجوانب جميعا: لوكريس ، سبينوزا، هيوم ، نيتشه ، برغسون . لا شك أنه ما من تاريخ للفلسفة الا ويقدم فصلا عن التجريبية : يتمتع فيه لوك وبيركلي بمكانهما، لكن هناك لدى هيوم شيئا بالغ الغرابة يحول التجريبية بكاملها، ويمنحها قوة جديدة ، مراسا ونظرية في العلاقات ، في "الواو" العاطفة ، صحيح أن هذا كله سيستمر لدى روسل ووايتهيد، لكنه سيظل جوفيا أو هامشيا بإزاء التصانيف الكبرى، حتى عندما يلهم تصورا للمنطق والابستمولوجيا جديدا. وصحيح أيضا أن برغسون كان مأخوذا في تاريخ الفلسفة على الطريقة الفرنسية ، ومع هذا فإن فيه شيئا غير قابل للاستيعاب ، شكل هو من خلاله رجة ، وتحالفا لجميع المعارضين ، ومحط أحقاد كثيرة ، ولا يتمثل هذا في موضوعة الديمومة بقدر ما في نظرية الصيرورات المتنوعة والتعدديات المتعايشة وممارستها. وسبينوزا، يظل من السهل حتى أن نهبه المكان الاكبر في تتمة الديكارتية ؟ سوى إنه يفيض من هذا المكان من جميع الجهات ، وما من ميت حي يرفع بمثل هذا القوة غطاء قبره ، ويقول بمثل هذه النصاعة : لست منكم . سبينوزا هو من اشتغلت عليه بالقدر الاكبر من الجدية بحسب معايير تاريخ الفلسفة ، لكن هو أيضا من وفر لي أكثر من سواه الاحساس بتيار هواء يدفع المرء من قفاه كلما جاء إلى قراءته ، وبمكنسة ساحرة يجعلك تمتطيها (كدابة). إننا حتى لم نبدأ بفهم سبينوزا بعد-أنا أكثر من سواي. جميع هؤلاء المفكرين معتلو الصحة ، لكنهم مخترقون بحياة لا تتجاوز. لا يعملون الا بقوة إيجابية ، توكيدية . لديهم ضرب من عبادة للحياة (أحلم بتحرير مذكرة لاكاديمية العلوم الاخلاقية ، لاري أن كتاب لوكريس لا يمكن أن يختتم بوصف الطاعون ، وأن هذا تلفيق ، وتحريف من لدن المسيحيين الراغبين بإثبات أن مفكرا شريرا يجب أن يجد نهايته في الحصار والرعب .) لا يتمتع هؤلاء المفكرون بعلاقات ذات بال بعضهم ببعض خلا نيتشه وسبينوزا- ومع ذلك فهم يتمتعون بعلاقات . لكأن شيئا يمر بينهم ، بسرعات وتوهجات متباينة ، وهو لايكمن في بعضهم ولا في البعض الاخر، وانما في فضاء لم يعد ليشكل جزءا من التاريخ حقا، وهو ليس حوار موتى وانما تخاطب ما بين - كواكبي، بين نجوم بالغة التباين ، تشكل صيروراتها المختلفة كتلة متحركة سينبغي اقتناصها، طيرانا متبادلا، سنوات ضوئية . بعد هذا، كنت قد سددت ديوني: لقد عفا عني نيتشه وسبينوزا. فألفت كتبا لحسابي الخاص أكثر. أعتقد أن ما كان يهمني في جميع الاحوال هو وصف هذا المراس للفكر، إما لدى مؤلف ، أو لذاته من حيث يتضاد والصورة التقليدية التي عكستها الفلسفة وأقامتها في الفكر لاخضاعه ومنعه من العمل . لكنني لا أريد أن أستعيد هذه الايضاحات ، إذ حاولت من قبل أن أقول هذا كله في رسالة إلى صديق ، هو ميشيل كريسول، الذي كتب عني أشياء جد طيبة وشريرة .

    غير لقائي وفيليكس غواتاري أشياء كثيرة . كان لفيليكس من قبل ماض طويل في العمل السياسي والتحليل النفسي . لم يكن صاحب " إعداد فلسفي " ، لكنه كان يتمتع بصيرورة - فيلسوف ، وبصيرورات أخرى كثيرة . ما كان ليتوقف . إن أشخاصا قليلا وفروا لي إنطباعا هائلا بالتحرك في كل لحظة ، لا التبذل ، وانما التحرك بكامله بفعل إيماءة يقوم بها، كلمة يقولها، نبرة صوت ، كمثل " مشكال " يستمد في كل مرة توليفا جديدة . كان هو دائما فيليكس نفسه لكن اسم شهرته كان يسمي شيئا يحدث فيه ، وليس ذاتا.

    كان فيليكس رجل فريق ، عصب وقبائل ، ومع ذلك فهو رجل وحيد، صحراء مأهولة بكل هذه الفرائق ، بجميع أصدقائه وجميع صيروراته . إن كثيرين قد مارسوا من قبل العمل الثنائي، من الاخوين غونكور حتى إيركمان - شاتريان ، ولوريل وهاردي. لكن ليس هنا من قواعد، ولا من وصفة عامة . كنت في كتبي السابقة قد حاولت وصف مراس معين للفكر: لكن لم يكن وصفه ليعني، بعد، ممارسة الفكر على هذه الشاكلة . (مثلما لا يكفى أن نصرخ " يحيا المتعدد" لاجتراحه ، بل يجب اجتراح المتعدد. ولا يكفي كذلك أن نقول : " تسقط الانواع " بل ينبغي الكتابة فعليا بحيث لا يعود ثمة " أنواع " ، الخ ...) وأن هذا كله يصبح ، مع فيليكس ، ممكنا، وان طاشت ضربتنا أحيانا. لم نكن سوى اثنين ، لكن ما كان يهمنا لم يكن العمل معا بقدر ما هذه الواقعة الغريبة المتمثلة في الكتابة بين الاثنين . صار الواحد يكف عن أن يكون " مؤلفا ". وكان ما -بين - الاثنين هذا يحيل إلى أناس أخرين ، مختلفين من ناحية وأخرى. صارت الصحراء تتنامى، لكن مأهولتا أكثر فأكثر. لم يكن هذا ليمت بصلة لمدرسة ، أو لعملية "تزهين" (من " الذهن ")، بقدر ما بلقاءات . وكل هذه الحكايات ، حكايات الصيرورات والزيجات المنافية للطبيعة ، والنمو غير المتوازي، والازدواج اللغوي وسرقة الافكار، عشته أنا مع فيليكس . لقد سرقت فيليكس ، وأمل أن يكون قام بإزائي بالشيء نفسه . تعرفين كيف نعمل ، أكرر قول هذا لانه يبدو لي مهما، إننا لا نعمل معا وانما بين الاثنين . في مثل هذه الظروف ، وما أن يكون ثمة هذا النمط من التعددية ، يكون الامر نوعا من سياسة ، سياسة " مجهرية " . وكما يقول فيليكس ، فقبل الكينونة هناك السياسة . إننا لا نعمل ، بل نتفاوض . أبدا لم نكن في الوتيرة نفسها، بل دائما في انزياح : ما كان فيليكس يقوله لي ، كنت أفهمه وأقدر أن أستخدمه بعد ستة أشهر: وما كنت أقوله له ، كان هو يفهمه على الفور، بأسرع مما يلزم بالنسبة إلى ذوقي، ثم ها هوذا في محل أخر. كنا أحيانا نشتغل على المفهوم ذاته ، ثم نلاحظ أننا لم نكن نقبض عليه بالشاكلة نفسها: هكذا مثلا، : " الجسد المجرد من الاعضاء " ، أو مثال أخر: كان فيليكس يشتغل عي الثقوب السوداء(س) . إن هذا المفهوم الفلكي ليفتنه . إن الثقب الاسود هو ما يقتنصكم ولا يعود يسمح لكم بالخروج . كيف يمكن الخروج من ثقب أسود؟ كيف يمكن البث إنطلاقا من غور ثقب أسود؟، هكذا كان فيليكس يتساءل . أنا كنت أعمل بالاحرى على جدار أبيض : ما جدار أبيض ، ما شاشة ، وكيف يمكن نشر الجدار وتمكين خط هروب من أن يمر؟ لم نجمع بين المفهومين الاثنين ، بل لاحظنا أن كلا منهما ينزع إلى الاخر من تلقاء ذاته ، لكن ، وبالتحديد، لانتاج شيء لم يكن قائما لا في أحدهما ولا في الاخر. ذلك أن ثقوبا سوداء على حائط أبيض هي بالتحديد: وجه ، وجه واسع أبيض الخدين ومثقوب بعينين سوداوين . إنه لا يشبه ، بعد، وجها، بل هو بالاحرى تركب الماكنة المجردة التي ستنتج وجها. واذا بالقضية تعاود الانبثاق من جديد، سياسية : ما المجتمعات ، أو الحضارات المحتاجة إلى تشغيل هذه الماكنة ، أي إلى أن تنتج ، أن " تضاعف ترميز" الجسد كله والرأس بمعونة وجه ، ولاي غاية ؟ إن وجه المحبوب ، وجه الرئيس ، و" توجيه " (اجتراح وجه) الجسم الفيزيائي السياسي ،. هذه أشياء لا تحدث تلقائيا... هاهي زي تعددية ، ذات ثلاثة أبعاد على الاقل ، فلكية ، وجمالية وسياسية . ونحن أبدأ لا نستخدم مجازات ، إننا لا نقول : " كمثل " ثقوب سوداء في الفلك أو " كمثل " لوحة بيضاء في الرسم . بل نستخدم مفردات " مرحلة " ، أي منتزعة من ميدانها، لاعادة موضعة مفهوم أخر، " الوجه "، و"الوجهية " كوظيفة اجتماعية . بل أسوأ من هذا أيضا: إن الافراد مدفوعون بلا هوادة في ثقوب سوداء، ومسمرون إلى جدار أبيض . هذا هو أن يكون المرء محدد الهوية ، مؤرشفا، معروفا: ناظما مركزيا يعمل كثقب أسود ويكنس جدارا أبيض بلا أطر. إننا نتكلم حرفيا. وان علماء الفلك ليفكرون بالفعل بإمكان أنه ، في ركام كواكبي، تجتمع ثقوب سوداء من جميع الانواع في المركز داخل ثقب وحيد من كتلة ضخمة ... جدار أبيض -ثقب أسود، هذا في نظري مثال أنموذجي للطريقة التي يترتب فيها بيننا عمل ، لا اجتماع ولا تجاور، وانما خط منكسر يمر بين اثنين ، تكاثر، أخطبوطات .

    هذه طريقة " التقاط " أو" قنص " (بيك -أب). كلا، إن المفردة "طريقة " لرديئة . إلا أن " البيك -اب " بما هو اجراء، هو مفردة اخترعتها فاني، التي تخشي فقط أنها تمثل لعبا مفرطا على الكلمات . " البيك -أب " تأتأة . لا قيمة له الا بالتعارض مع " قطع " ( " كات -أب ´´) بورو : لا قطع ، ولا تجعيد، ولا طي، وانما تهديدات بمقتضى أبعاد متنامية . لا يقام بالـ´´ "لايك -أب " ، أو السرقة المزدوجة ، أو النمو غير المتوازي، بين شخصين ، وانما بين أفكار تترحل كل واحدة منها في الاخرى، بموجب خط أو خطوط ليست في احداها ولا في الثانية ، وتجرف " كتلة " . لا أريد التفكير بأشياء من الماضي. نحن ، أنا وفيليكس ، بصدد الفروغ الان من كتاب ضخم . لقد انتهى تقريبا، وسيكون الاخير(ش). بعد هذا سنرى. سنقوم بأشياء أخرى. أريد إذن الكلام عما نقوم به حاليا. لا واحدة من هذه الافكار الا وهي أتية من فيليكس ، من ناحية فيليكس (الثقب الاسود، السياسة المجهرية ، الترحيل ، الماكنة المجردة ، الخ ...) إنها اللحظة ، الان أو أبدا، لممارسة الطريقة : نقدر أنت وأنا، أن نستخدمها، في كتلة أخرى أو من ناحية أخرى، مع أفكار لك ، بحيث ننتج شيئا لا يكون لاي منا، وانما بين 3.2، 4... ، إلى ما لا نهاية له . لم يعد هذا (شيئا من قبيل) " فلان يفسر فلان " ، " توقيع فلان " ، "دولوز يتحدث عن دولوز" ، توقيع المحاور" ...، وانما " دولوز يتحدث عن غواتاري، توقيعك أنت " . هكذا يصبح الحوار وظيفة حقة . من ناحية (فلان)... ينبغي أن نضاعف الجهات ، أن نكسر، لصالح المضلعات ، كل دائرة .

    (أ) : طوال هذا الكتاب ، يقرأ التعبير "صيرورة - ثوري"، "صيرورة -طائر"، الخ ، كمفردة مركبة لاتفيد الاضافة (صيرورة الطائر)، وانما التحول : تحول الطرف المعني- موتسارت مثلا- إلى طائر. وربما كان الافضل (وهذا ما نقوم به عندما تسمح به الصياغة) قراءتها على الحالية : "الصيرورة -طيرا"، "الصيرورة -ثوريا"، الخ . ..

    (ب) : بصدد " الترحل " و:الترحيل " وما يرتبط بهما، راجع كشاف المصطلحات (المترجم).

    (ت) : فلسفة -لاولا: أي فلسفة "شعبية "، من "pop"، وهي مختصر "populaire " (الانجليزية "popular ")، مثلما نقول pop-music ( للموسيقى الشعبية (المترجم).

    (ث) : خط هروب (أو:منسوب): راجع بهذا الصدد كشاف المصطلحات (المترجم) .

    (ج): اللغة الاقلية ، الادب الاقلي أو الادب الصغير: لا يشترط أن تكون اللغة ممثلة هنا لاقلية محددة تاريخيا وجفرافيا، بل كل لغة تنشأ على الهامش هي أقلية ، ويمكن أن تكون "لسان " فرد أو جماعة ، فالمفرد ة تعمل هنا بقوة مجازية أو قوة ثانية . يتحدث دولوز وغواتاري أيضا، في كتاب لهما معروف من كافكا، عن "الادب الصغير" rature mineure,Litt، بمعنى الادب الاقلي هذا بالذات ، وبالتعارض مع الادب الكبير، المؤسس ، الراشد، والذي يفضي الى كتابة "معيارية " أو" قانونية " (المترجم).

    (1): لاروست ، "ضذ سانت -بولا" Proust, Contre d. Gallimard, p. 303, Beuve, - Sainte

    (ح): المعنى الخاطيء هو بالفرنسية : contresens، والكلمة تعني في حرفية اشتقاقها: " معنى ضد " ، أو " ضد معنى " ، وهذا مما يمنح مقولة لاروست هنا قوتها (المترجم).

    (خ): العصاب : للتفريق -الاساسي- بينه وبين "الذهان "، لك أن تراجع كشاف المصطلحات (المترجم).

    (2): نيتشه ، "شوبنهاور مربيا": Nietzsche, Schoducateur.,penhauer

    (د) : الاثر كوملاتون Copmton: نسبة إلى الفيزيائي الامريكي كوملاتون ، الذي اكتشف ، بين أشياء أخرى، أثر تفاعل الشعاع × (وله طبيعة الضوء) مع ذرته بما ينتج عنه انزاح للشعاع الحاصل ينجم عنه أليكترون (كهيرب). أما الاثر كللاان Kelvin فنسبة إلى الفيزيائي الانجليزي ثومسون كللاان الذي أثبت أن تمدد غاز فعلي ذي طاقة داخلية ثابتة يقود إلى ابتراده. وفي الحالتين ، فإن مايشير اليه دولوز هو إمكان الانزياح داخل مسار معين أو حالة معينة لدى الاتصال بوسط اخر أو لدى توافر أدنى عامل مساعد، وما يتمخض عنه هذا الانزياح (المترجم).

    (3): بوب أيلان ، "كتابات ورسوم ": Bob Dylan, Ecrits et dessins, d. Seghers.

    (ذ): "الكات -اب "، القطع أو التقطيع ، هو نوع من الكولاج الادبي، شاع استعماله عند الكاتب الاميركي المعروف وليام بورو (من " البيتنكز ")، يقوم فيه بتشويش جمل يختارها لا على التعيين من الصحف أو من المحاورات العادية . ويفضل عليه دولوز تقنية "اللايك -اب " التي يأتي شرحها في صلب المقالة (المترجم).

    (ر): هي زوجة الفيلسوف . كانت عارضة أزياء، وقد ترجمت إلى الفرنسية نصوصا للكاتب الانجليزي د.ه . لورنس . يعزو لها دولوز إلهام عدد من أفكاره (المترجم).

    (ز): هو جيروم لندون ، الناشر الفرنسي المعروف ، صاحب منشورات "مينوي" ("منتصف الليل ") الذي احتضن ، قبل اشتهارهم ، كتابا طليعيين عديدين ، من بيكيت إلى فاتالي ساروت فكلود سيمون ، وله كتاب في يونس النبي طالما استشهد به دولوز (المترجم).

    (س):واضح أن دولوز يوظف هنا فكريا مصطلح "الثقب الاسود" الذي يطلقه علماء الفلك على مايشاهد أحيانا في السماء من بقع مبهمة لا تتوصل المراصد إلى تشخيص مافيها، هباء أم كواكب أخرى نائية في البعد (المترجم).

    (ش): صدر في 1980 بعنوان : "ألف هضبة "، تجد منه في الكتاب الحالي فصلا بعنوان : "الجذمور". ووضعا بعده كتابا مشتركا اخر عنوانه : "ماهي الفلسفة ؟" تجد منه هنا أيضا فصلا بعنوان : "جيو-فلسفة " (المترجم).


    يتبع النص الثاني

  3. #13
    الصورة الرمزية خليل حلاوجي مفكر أديب
    تاريخ التسجيل : Jul 2005
    الدولة : نبض الكون
    العمر : 57
    المشاركات : 12,545
    المواضيع : 378
    الردود : 12545
    المعدل اليومي : 1.83

    افتراضي

    فرحتي لاتوصف بهذا الحشد الجميل من الاحبة الاخوة والاخوات

    ومايزعجني اني لم اعد امتلك الوقت ولا الكهرباء ولاالمدن التي تجعلني اقرأ لكم أحبتي

    ولكن

    اعدكم
    سابذل قصارى جهدي لاكون قارئا ً لحروفكم هنا في منتدى الفلسفة

    بارك الله بالجميع ووفقتم
    الإنسان : موقف

  4. #14
    أديب
    تاريخ التسجيل : Apr 2006
    المشاركات : 9,079
    المواضيع : 101
    الردود : 9079
    المعدل اليومي : 1.38

    افتراضي

    هذه قراءة في فكر دولوز...منقول بالطبع...ولان هذه القرأة طويلة فاودرها حلقة حلقة...
    اتمنى ان اكون قد وفيت بكلامي...لاني سبق وان نوهت بان ما تقع هذه القرأة بين يدي اوردها هنا...

    المعرفة والفكر: شاعرية المرور في السديم
    دولوز - غاتاري: صيرورة كتابة
    مالك الريماوي
    "الإمعان في الهرب خلف الخطوط"

    بينما أنا منشغل في قراءة "ترحالية" تقفز من حقل إلى آخر، ومن مفكر إلى آخر بحثاً عن خيط ينسرب بين التربية والثقافة، ويتنافذ عبره الفكر والتاريخ، ضمن صيرورة ورؤية تجعل من تاريخ الفكر صيرورة تحرره، تلك الصيرورة المرهونة بمدى اقتناصه الرغبة، وترى أن فكر التاريخ هو حريته في الهروب دوماً من خطوط تحده وتحدده إلى آفاق تهرب به، ما دفعني إلى التموضع في حالة من البحث، وإن كانت لا تشبه البحث بقدر ما تشبه الإصغاء، إصغاء حائر ومتردد، يلتقط الأصداء لا الأصوات، ويبحث عن الخافت والمهموس، ما دفعني إلى قراءة، فانون، وسعيد، وفوكو... وجيل دولوز. وبعد أن قررت كتابة ما يشبه السيرة لتربية مغايرة، تربية مقاومة، تربية تشكل خطاً من خطوط الانفلات من الهيمنة الاستعمارية والفكر الامبريالي، ما جعلني أعد العدة لكتابة تتصدى لموضوع التربية والمعرفة والتاريخ في سياق مواجهة العولمة تحت عنوان "التربية خارج الشرط الإمبريالي"، وعزمت أمري على البدء بسلسلة من المقاربات تبدأ من فرانز فانون وتنتهي بجيل دولوز كمحاولة في البحث عن ذلك الخط المنفلت، الهارب، خط يراوغ ويشاغب ويلمع فجأة، ثم يختفي لينبثق في مكان آخر، وحقل آخر، وفيلسوف آخر - حرفني القدر المتجلى على شكل صدفة "لأبدأ من حيث ما كان يجب أن أنتهي"، حيث قررنا ترجمة فصل الجذمور ونشره، الذي يشكل مقدمة كتاب جيل دولوز وفليكس غاتاري، والذي يحمل عنوان ألف ربوة "هضبة أو سطح"، حيث تعددت الترجمات العربية. ويمكن أن نقول إن المقصود من العنوان هو الإيشاء بأن الكتاب محاولة للانفلات من الواحد، ولذلك، فكلمة ألف تدل على التعددية، في حين أن مصطلح ربوة يدل على "منطقة زاخرة بالطاقة كثيفة التوهج، فكل ربوة هي تعدد، وكل تعدد هو أديم مسطح"، ومصطلح ربوة الذي استمده "دولوز" من "غريغوري باتسون"، والذي كان يستعمله بمعنى "منطقة زاخرة بالطاقة، تستمد حيويتها من تلقاء ذاتها، نامية دوماً دون توجه نحو شيء خارجها، فهي لا تبتغي بلوغ هدف خارجها"،1 وهي ربوة لا تتحدد ببداية ونهاية، ولكنها وسط دوماً، والوسط ليس نقطة بين طرفين، ولكنه حركة اختراقية تأخذ الطرفين في غمارها.

    فالعنوان يشي بأن الكتاب ليس بنية واحدة، ولا مساراً منغلقاً، لا موضوعاً محدداً له، ولا أسلوباً واحداً يجمعه، بل هو كوكب فيه ألف ربوة، كل ربوة منطقة، وكل منطقة تعددية، وهذه الترسيمة المفككة والمتشعبة تنسحب على مضمون الكتاب الذي عالج أشكالاً شتى من المعرفة وتناولها، وتقافز بين حقول مختلفة ومتغايرة تبدأ باللسانيات والأدب والتاريخ، وتنتهي في الفكر والكتابة والمعرفة، مروراً بالجيولوجيا والبيولوجيا وعلوم الكون والأخلاق والسياسة، وهذا ليس كل شيء، فبنية الكتاب أيضاً جذمورية وليست جذرية، تبحث عن الغائر والمنفلت والمتوهج والمنبثق، ترصد الإشكاليات، وترسم التفرعات، وتخترق الخطوط، وتتلاشى خلف الأفق، ولغته أيضاً قلقة ومتوترة، منفلتة من لغة الأغلبية، نازعة إلى لغة الأقلية، واللغة، كل لغة هي واقعة متنافرة بالأساس، ثمة لويغات متنافرة في اللغة الواحدة، وليست هناك لغة أم، بل استيلاء لغة مهيمنة على السلطة.2

    وهذا كله نتاج لكونه كتاباً من تأليف حشود بشرية وخلفيات معرفية متباينة؛ فجيل دولوز ورفيقه فيليكس، كل منهما قبيلة؛ أي شخص متعدد ومتكوثر، فدولوز يرى أن "ما نطلق عليه تسمية "الأنا" هو نسيج متناقض من آلاف الأنوات"، فالأنا تأليف بين أنوات متعددة، وهذا الأنا "لا يستقيم أمره إلا بالاعتماد على هذه الآلاف من الشهود التي تؤلفنا".3 ودولوز يرى أن علاقتهما تقوم على السرقة والاقتناص، فيقول "لقد سرقت غاتاري وأتمنى أن يكون قد فعل إزائي الشيء نفسه".

  5. #15
    قلم نشيط
    تاريخ التسجيل : Mar 2006
    المشاركات : 804
    المواضيع : 100
    الردود : 804
    المعدل اليومي : 0.12

    افتراضي جيل دولوز بلغة لاتتخلص من التأتأة..

    جد مسرورة بوجود هذا النقل للأفكار وليس سرقتها، لأن سرقة الأفكار مفهوم يتحدد معناه بقراءة فلسفة "جيل دولوز" عن الإبداع والفن.
    أنقل أنا بدوري مقاطع أخذتها من المنقول مثل قول دولوز:




    منقول آخر: يقول جيل دولوز:


    منقول أخير: يقول جيل دولوز:

    "

  6. #16
    أديب
    تاريخ التسجيل : Apr 2006
    المشاركات : 9,079
    المواضيع : 101
    الردود : 9079
    المعدل اليومي : 1.38

    افتراضي

    -2-
    جيل دولوز: المسار والصيرورة

    بينما دولوز يبدأ مسيرته الفلسفية، يبدأها مترحلاً من رحم فلسفي إلى آخر، ومن فيلسوف إلى آخر، من التجريبية والذاتية عند هيوم، إلى فلسفة كانط النقدية، وسبينوزا والتعبير، ونيتشه، وفلسفة نيتشه، وفوكو....4 دولوز يقرأ فلاسفة متعددين ومختلفين، أو دولوز يكتب ذواته المتعددة، ويرسم خطوط انفلاته وترحاله، فيلسوف لا يكتب الفلاسفة الآخرين إلا بمقدار ما يكتب تعدده الفلسفي، ما جعله يستحق ما أطلق على فوكو وامتدحه دولوز "هذا المجموع بما هو تركيبة فريدة اسم شهرتها هو ميشيل فوكو. رجل بلا مراجع".5

    فالعلاقة بين الكتابة والواقع عند دولوز وغاتاري، هي صورة معقدة للصيرورة كعملية متداخلة وترحالية، في جوهرها ليست عملية نسخ أو تقليد، وليست ظاهرة محاكاة أو حركة مصممة، بل هي حركة اصطياد مزدوج، فيض هائج، واحتفال دائم ترتسم دائماً كخريطة وتمتد كجذمور. فالكتابة لا تنسخ العالم أو تقلده، وإنما تخترقه وتخترق به لتتصير جزءاً من خريطته ويصير جزءاً من خريطتها، ليشكلا معاً للجذمور خريطته، ويعطيا للخريطة صيغتها الجذمورية الممتدة في تشابكاتها، المتشابكة في امتداداتها، فكل كتابة تتراكب مع العالم فتعدل في صيرورته وحدوده، كما يفعل في مجالها مع الحفاظ على صيرورة كل منهما.

    والصيرورة، الكتابة- العالم، تتصادى مع علاقة الزهرة والزنبور، حيث يصبح الزنبور جزءاً من جهاز إنتاج السحلبية، في الوقت الذي يصبح جزءاً من الزهرة "السحلبية" عضواً تكاثرياً للزنبور، ما يجعل كلاً منهما وكأنه طور في صيرورة الآخر، والآخر طور في صيرورة الأول، وهما معاً صيرورة واحدة "ما يجعل الصيرورة تغير الأشياء، والأشياء في حركة تصيرها تغير الصيرورة نفسها"، أو هي في تغيُّرها؛ أي الأشياء ليست إلا مادة للصيرورة، تعبر بالصيرورة كوظيفة، وتعبرها الصيرورة ككينونة، فلا صيرورة خارج الأشياء، ولا أشياء دون صيرورتها، فخارج الأشياء سكون لا مسار صيرورة، وبصمت الصيرورة تنهار الأشياء إلى هباء، وكذلك حال العلاقات بين الكتاب والعالم، الثورة والتاريخ، حيث كل منهما جزء من صيرورة الآخر، وكل منهما يحقق نموه وتغيره عبر تواصله مع الآخر ضمن علاقة صيرورتهما، صيرورة التغير، ولذلك فالصيرورة عند "دولوز" ليست فيما تحققه من تغير، ولكن بوصفها جوهر التغيير، أو قوة التغيير، فالعمق في الصيرورة ليس نتاجها وإنما حدوثها ذاته.

    الكتاب كصورة جذمورية، صورة مغايرة لصورته الشجرية، صورة يتبدى فيها الكتاب كسيالات للرغبة ومعمل لها، وتركيب مع التاريخ لا ناقل له، إنه نقطة وسطية دوماً، وفرع في تشابكات أخطبوطية دائمة النماء، وهذا التصور يتصدى لصورة الكتاب كشجرة، صورة شيء له بداية محددة ونهايات واضحة، بينهما مسارات مصممة في اتجاه مغلق، إنها صورة الكتاب المكتمل المنغلق على ذاته رمز المعرفة الكلية المغلقة.6

    الأسلوب هنا هو ترتيب قول، أو تركيب ما، تركيب قول وتركيب حالة، تركيب مع العالم وحالة تركيب مع اللغة، إنه التأتأة في لساننا نفسه، أن يكون الكاتب والكتاب تمتام اللغة نفسها، أن يكون كغريب في لسانه نفسه، أن يجترح منسرباً أو خط هروب: لغة الأقلية؛ أي اللغة المتكونة في الهوامش، المهموسة في الزوايا، لغة الممنوع والمحرم، الازدواج اللغوي، الترميز المضاعف، إشباع كل ذرة كل فكرة، العبور بين الأفكار، رسم خطوط تعبرها، إزالة كل حشو وموت ونفاية، الاحتفاء بالمتنكر والطازج والمنبثق، القطع والتهديد والتشويه، إننا نسمي أساليب، كما يقول النحات، جياكوميتي "أشكال الرؤية هذه المتوقفة في الزمان والمكان"، ولكن الأمر هنا مختلف، دائماً يتعلق بتحرير الحياة حيثما هي أسيرة".7 "الأسلوب يدخل لغة في اللغة"؛ لأن الكتب الجميلة كما يقول بروست: هي التي كُتِبَت بِلُغَة خاصة داخل اللغة نفسها، وكأنها لغة أجنبية في لغتها، إنها ضرب من الانحراف باللغة والانحياز داخلها إلى الغريب فيها وفي الفكر والحياة. فتحت كل كلمة، يضع كل قارئ معناه، أو على الأقل صورته هو التي هي في الغالب معنى ناقص. لكن في الكتب الجميلة، تظل جميع النواقص التي ترتكب جميلة، هذه هي الطريقة المقترحة في القراءة. جميع الأخطاء أو المعاني المضادة جميلة، شريطة ألا تشكل تأويلاً مهيمناً، بل على كل قراءة أن تجترح داخل لغتها لغة، وداخل معناها معنى. وهذه هي البداية، بداية إزاحة الخطوط وتنظيف الخامات "خامات الكتابة والإبداع"، لاجتراح المتعدد، واختراق المألوف الذي يغلفنا كسقف لينسرب المائع فنشكله كنص في الاختلاف ودرس في التجاوز، فكما يؤكد دولوز: مثلما لا يكفى أن نصرخ "يحيا المتعدد" لاجتراحه، بل يجب اجتراح المتعدد. ولا يكفي كذلك أن نقول: "تسقط الأنواع "بل ينبغي الكتابة فعلياً بحيث لا يعود ثمة أنواع".8 تلك الصيرورة التي انبثقت في كتابات دولوز وغاتاري، ككتابة لحشد من الجموع عبروا كتركيبات مختلفة، ومروا كفرص فريدة. فدولوز يصف: ذلك أنه ليس كتابة كالكتابات السابقة، وليست أيضا مجرد كتابة لاثنين، بل هي مغامرة الكتابة بين اثنين، وما يميزها هو كونها بلا قواعد وبلا وصفات تسبق الكتابة وتقولبها، بل هي ممارسة للفكر كتعدد وتيه وسيلان رغبة. ويصف تعددهما عبر وصفه لـ "غاتاري"، الوصف الذي يناسب دولوز أيضاً بالقدر نفسه: "كان فيلكس رجل فريق، عصب وقبائل، ومع ذلك فهو رجل وحيد، صحراء مأهولة بكل هذه الفرائق، بجميع أصدقائه وجميع صيروراته".9 وهذا ما مكننا من ممارسة الكتابة كتفكير بين اثنين، لكن ما كان يهمنا لم يكن العمل معاً بقدر ممارسة هذه الحالة الغريبة المتمثلة في الكتابة بين الاثنين. ففيها كف واحدنا عن كونه "مؤلفاً". وكأن المسافة والخط ما -بين- الاثنين أصبح مسارة لأناس كثيرين، ومختلفين. صحراء تتنامى، لكنها مأهولة أكثر فأكثر. لم يكن هذا تقليداً لمدرسة، أو فبركة لعملية ذهنية، بقدر ما كان لقاءات. تتضمن كل الحكايات، حكايات الصيرورات والزيجات المنافية للطبيعة، والنمو غير المتوازي، والازدواج اللغوي وسرقة الأفكار، "هذا كله عشته أنا مع فيلكس. لقد سرقت فيلكس، وآمل أن يكون قام بإزائي بالشيء نفسه، إننا لا نعمل معاً وانما بين الاثنين. في مثل هذه الظروف، وما أن يكون ثمة هذا النمط من التعددية، يكون الأمر نوعاً من سياسة، سياسة "مجهرية". وكما يقول فيلكس، فقبل الكينونة هناك السياسة. إننا لا نعمل، بل نتفاوض10... لم نتعاون كشخصين، بل كنا مثل جدولين انضما ليكونا جدولاً ثالثاً، هو ليس أحدنا ولكنه كلانا".11

    الكتابة الجذمورية12 تفارق الكتابة الشجرية، كما يختلف البدوي عن المسافر، كما يختلف العرس عن الزواج، كما يختلف الكرنفال عن الاستقبال، كما تختلف حرب العصابات عن الحرب الكلاسيكية، لا تحتاج إلى جنرال ولا إلى قرار مركزي واحد، لا طقوس ولا قواعد، إنها حرب أخرى، حرب الغوار تعتمد على التعددية وعلى السرعة والحركة والترحال، وكذلك الكتابة -الخريطة – الجذمور. ويتساءل دولوز "فهل من الضروري وجود جنرال، كي تتمكن مجموعة من الجنود إطلاق النار في الوقت نفسه؟".

    الكتابة هنا ليست تمركزاً ولا انبناء، إنها ليست إلا حركة، حركة لإطلاق النار في كل الاتجاهات وكل الأوقات بشكل منفلت من كل القواعد إلا قاعدة السرعة، سرعة الظهور والاختفاء والالتواء والمراوغة، إنها حركة نقطة تتصير خطاً، حركة خط يتصير سطحاً، وحركة سطح يتصير كتلة، وحركة كتلة تتصير طاقة، وطاقة تشع تخترق السقف، وتعود سديماً، مادة مبعثرة منفلتة من الثقب الأسود سايحة خارج مجالات جذبه الآسرة، نقط متحركة تتحرر من السطح الأبيض الذي يحتجزنا، نقط تفلت من سكونها لترسم خطوط انفلات وهروب جديدة، تنفلت من الخريطة المتشكلة ومن خريطة المتشكل وجوداً، لترسم خرائط لمناطق لم توجد بعد أو لم تكتشف، خرائط لمناطق بصدد المجيء.

    كتابة ليست رصداً، ولا تتبعاً، ولا انعكاساً، كتابة احتفال بالمنبثق فجأة، اقتناص، وسرقة، جرياً وراء المبعثر، فالعالم حركة مزدوجة من الهدم والبناء، تراكبات وطبقات تتراكم، وتجويات وتصدعات وزلازل تبعثر ما تجمع، إنها جدلية من التشكل والتبعثر، البناء والهدم، حركة من التكرار المختلف، والاختلاف المتكرر، في كل عملية تكرار، تحدث جملة من الإزاحات والانكسارات، الاغتصابات، أشياء تتراكب، تسرق بعضها، تغير وتتغير "الزنبور والسحلبية" "الفيروس والخلية"، لا شيء يعود للمجيء مرة أخرى ويبقى ذاته السابقة، إنها الرحيل، الانفلات، الاختراق الاستراتيجي، الهجرة الفعالة، الهروب بالخط المرسوم، دفع الحدود وعبورها، "الترحيل، الإفلات... عبور الأفق، الإيغال في حياة أخرى، "هكذا يجد ملفيل نفسه في قلب المحيط الهادئ، لقد اجتاز خط الأفق حقاً، إن خط الهروب هو ترحيل وليس فراراً، وإنما هو تركيب لشخصيات متعددة؛ كل واحد فيها كل متشظٍّ، وترسيم لقطيعات حادة وابتكارات لأراضٍ جديدة، فالهروب هو إنتاج واقع، إبداع حياة، والعثور على سلاح، الهروب خيانة للحدود والقوى التي تحتجزنا، العبور إلى تجارب، يمكن القول فيها، إن من نجوا، بعد تجارب كهذه، قد حققوا قطائع كبيرة".13

    إن الفكر عند دولوز، ليس في أصله هوية، فهو لا يبحث عن التشابه ولا ينشد التطابق والانسجام، لا من حيث بنيته ولا من حيث مساره، فالفكر في وجوده الحي هو الاختلاف والانقلاب والمشاكسة، فالفكر عنده صيرورة رغبة جسدية، ويقظة جسدية متسكعة، وحركة مترنحة، لا يرتسم كجوهر ثابت ولا كحقيقة منسجمة، إنه حالة من الترحال، حالة من الانبثاق والانطفاء، حالة اصطدام وعنف، وارتسام على شكل طيات وطبقات انبثاقات فجائية على شكل علامات، "إشارات" تطوي المعني وتتضمنه، ومعنى يتكور فيها ويتمرد عليها، ليضغطها، وينضغط فيها، ليعود يفلت منها، يتحرر من الطية، من الإشارة كثنية، من المعرفة كطبقة، يفتتها ليعود يجري وينفلت كشعاع أو تيار منفلت هادر متبدد، ويصطدم فجأة بعلامة أخرى تعيد طيه ليعود إلى النزوع، إلى التحرر والجريان.

    للفكر البدوي صحراؤه الشاسعة يمتلكها عبوراً ويعبرها امتلاكاً.
    للفكر الترحالي مساراته المنفلته وخرائطه الضالة.
    للفكر الغواري عناده وصبره وحريته.
    للفكر الجيوجغرافي، تجوياته وتصدعاته وترسباته أيضاً.
    للفكر الفلسفي انتشالاته من الأرض وهروباته من التوطن.
    للفكر الانفصامي تسللاته ووثباته، هلوساته وهذياناته.

    ترحال وتحليق، انتشال وهروب، هجرة وإيغال، قطائع وتهديدات، تسربات وانسرابات، ترسبات، عودة أخرى إلى التأرضن "العودة إلى الأرض".14

  7. #17
    الصورة الرمزية سحر الليالي أديبة
    تاريخ التسجيل : Sep 2005
    الدولة : الحبيبة كــويت
    العمر : 38
    المشاركات : 10,147
    المواضيع : 309
    الردود : 10147
    المعدل اليومي : 1.49

    افتراضي

    رائع يا جوتيار

    كنت أبحث عن الصيرورة لدولوز ..وها أنا أجدك قد اتيت به

    سلمت لنا
    ودمت بخير

  8. #18
    أديب
    تاريخ التسجيل : Apr 2006
    المشاركات : 9,079
    المواضيع : 101
    الردود : 9079
    المعدل اليومي : 1.38

    افتراضي

    في تفكيك هوية
    الفلسفات الكلية المهيمنة

    إن ما يكتبه "دولوز" ليس نقداً لفلسفة الهوية فقط، أو نقداً لحقل التحليل النفسي والرأسمالية والدولة فقط، ولكنه في حقيقته عبارة عن ابستمولوجيا جديدة تستجيب لأوضاع المعارف الراهنة، فهو يهدف إلى وصل حقول معرفية منعزلة عن بعضها البعض وتركيبها، ويبتغى خلق أساليب وإستراتيجيات تبني سطوحاً تصل بين متفرقات المعارف المتفتتة المتناثرة، وينشئ مناطق جديدة فيها تتمكن المعارف والعلوم من أن تتحاور فيما بينها، لتخصب بعضها البعض على نحو يعمق اختلافها وتفاعلها، ويكرر تصيرها وتغيرها، تفرعها وتشعبها، توحدها وتجمعها، ترحالها وهبوطها.

    دولوز في تحريره للمعرفة وللفكر الذي ينتجها يسعى دوماً إلى تحريرهما من شبهة الهوية والتطابق إلى فضاء الاختلاف والتعدد من جهة، ويحررها من التجزير والانفصال ليعيد توطينها في أفق التجاور والتحاور، التلاقي والتراكب من جهة أخرى، ويكمل ثورته ليحرر الفكر من سيادة المدارس اللغوية والنفسية والسياسية، ويعيد إنتاجه على شكل فكر بدوي يتيه في المفازات والصحاري.

    ففي مواجهته للبنيوية ولتعاليم "دي سوسير" الذي أسس سلطة الدال، وأعلى من شأنه، فإن دولوز قد أحدث إزاحة للدال عن عرشه، لتخليص الحقول المعرفية من إمبرياليته، وتحريرها من سيادته وهيمنته، رابطاً بين العلامات والمعنى والدلالة، والكلام والصوت، وأنساق التلفظ وأنساق التلقي، مؤكداً أن أي مستمع لا يمكنه أن يتفاعل مع ما يسمع إلا من خلال اتخاذ موقف مناوئ لما يقال، رافضاً الفصل بين المضمون والتعبير، أو بين اللغة والجسد، "فليس ثمة ما يعزل الجسد عن العلامة، والكلمات عن الأشياء، فالعلامات تشتغل وهي منغرزة في الأجساد، ودون أن تنفصل عن الأشياء، والأشياء لا تتمظهر إلا من خلال العلامات".15

    مقارباً العلاقة بين القول والفعل، بين اللغة والسلطة، بشكل مختلف، فالقول، أي قول، بالنسبة له: هو فعل إنجازي، واللغة ذات طبيعة آمرة، وذات بنية سلطوية، إن لم تكن صريحة وعلنية فهي ضمنية ثاوية داخل الخطاب.

    فالتواصل ليس الوظيفة الأساسية للغة، وكذلك فهي ليست ذات طبيعة نسخية تنسخ الواقع وتحول الموجود إلى مقول، وإنما هي تواصل بين قول وقول آخر، فاللغة ليست استنساخاً للواقع، ولا نقل له، وإنما هي محملة بالأقوال التي قيلت حول الواقع.

    وبالتالي، فهي مجال تنازع وفضاء صراع، وسطح للتسويات، فالقول بالوحدة السوية للغة، هو قول سياسي لأنه يبتغى لهذه اللغة أن تكون أداة سيطرة عبر توحيد المشتت، ولملمة المتفرق، وضبط الاختلاف، وقمع الصيرورات.

    وبالتالي، فالفكر الدولوزي انبثق ضمن حركة الفكر في مجابهته لفلسفة الهوية، باعتبارها، أي الهوية، "لحظة تصالح هشة ومؤقتة".16 هذه الحركة الفكرية التي انبثقت منها فلسفة الاختلاف وأعلنت انحيازها للوعي الآخر، الوعي المتصادم مع العقل وإمبراطوريته، فانحازت إلى وعي آخر يعيد الاعتبار للفن، أو للرغبة والتيه (دولوز)، للحلم والاختلاف والكتابة "دريدا"، للمجنون والمنبوذ "فوكو"، للعقل النقدي والجدل السالب "أدورنو"، لمواجهة فلسفة الكل، فلسفة العقل والدولة باعتبارها اللاحقيقة التي تهمش الآخر وتستبعده.

    وإذا كانت فلسفة الهوية في تشييدها للكليات ترفض التعدد وتحجب المتناقض وتمحوه لتبرز الوحدة، فهي في فعلها تتحالف مع السلطة والمال والوحدة والدولة، ففلسفة كهذه تحدد الكائن كحضور ثابت، وتقدم الراهن كحقيقة، وتحرس حدود الفكر وحدود الدولة، وتقود الحركات والخطوط لتعود إلى المكان ذاته، وتجذب المتطاير إلى المركز القار، وتكرر المتشابه، وتحجب المختلف، وفي مواجهتها يقدم دولوز فلسفة:

    تنشد التقاط المباغت وتحالف المشاغب.
    تصغي للمتعدد والمقصي.
    تفكر راغبة وترتحل بالفكر إلى الرغبة.
    ترتحل خلف الأفق وتوغل في حياة أخرى.
    ترصد المنشق والمتصدع والمبعثر.
    ترقص مترنحة وتهمس هاذية.

  9. #19
    الصورة الرمزية أمل فؤاد عبيد قلم مشارك
    تاريخ التسجيل : Jan 2007
    الدولة : فلسطين
    العمر : 59
    المشاركات : 149
    المواضيع : 62
    الردود : 149
    المعدل اليومي : 0.02

    افتراضي عزيزي جوتيار ..

    كتابة ثرية وغنية والأكثر من هذا منطقية الترابط والتحليل .. شيء عظيم ان تتفاعل القراءة على القراءة .. من خلال قراءة .. وانا استفدت منك هنا ببعض الجزئيات .. شاكرة لك تواصلك وإثراءك للموضوع

    تحياتي

  10. #20
    أديب
    تاريخ التسجيل : Apr 2006
    المشاركات : 9,079
    المواضيع : 101
    الردود : 9079
    المعدل اليومي : 1.38

    افتراضي

    مازلت مستمرا في نقل ما جاء في دراسة مالك الريماوي...

    المعرفة كصيرورة تركيب

    إن المعرفة هنا ليست حقلاً منفصلاً أو قائماً بذاته، بقدر ما هي مسرح الفكر بكليته، بكامل الحركة الكلية؛ الخشبة كسطح، والممثلون كعناصر معاً، والعملية كفعل، لكن ما يميز صيرورات المعرفة من مثال المسرح هو أن المعرفة هي حالة من الالتقاء والانزلاق والتصادم لسطوح متعددة: مسطح المحايثة الفلسفي ومفاهيمه، ومسطح العلم عناصره ووظائفه، ومسطح التركيب الفني والإحساسات والانفعالات التي تتحرك عليه.

    فالفكر المعرفي هو تلك الفرجات، واللقاءات والاصطدامات، وما يصير عنها، تلك العمليات والنتاجات المنبثقة نتيجة انزلاقات المسطحات التي تماثل حركات الصفائح الأرضية، حركات تبزغ عنها قارات وأراضٍ جديدة، بحار ومحيطات، ولادات جديدة، وتلاشيات وغيابات، قارات تولد وأخرى تغيب وتتلاشى، ولادات ووفيات، هدم وبناء، حركات أخرى تجري على السطح لا تقل خطورة وعمقاً عن تلك التي تجري في الأعماق، ما يجري في الأعماق من انزلاقات وانكسارات وهزات وانفجارات بركانية، تعيد بناء السطح وتغير طوبوغرافية العالم، تواجهها سيولات وتيارات على السطح، تيارات ماء وهواء ونار، تعيد ترتيب السطح عبر عمليات متداخلة من التجوية والنحت والتعرية، تعيد هندسة السطح إزالة طبقات وتسويتها، وبناء طبقات أخرى من ترسبات جديدة.

    هكذا الفكر المعرفي هو نتاجات وولادات اصطدام رؤى ولقاء صيرورات انبثاقات تولد من عنف الصدامات، صدامات الفلسفة بالفن، والفن بالعلم، والمفاهيم بالانفعالات، والانفعالات بالوظائف، سطوح تتداخل وتتصادم، وثنيات وطيات، هضاب وتلال تبنى، وانزلاقات وانكسارات تنسرب على شكل أغوار وأودية سحيقة، حالة من الصيرورات تعيد رسم الخرائط، وتعيد صياغة وجه العالم، إنها كتابة متواصلة للفكر والمعرفة لا تعيد كتابة تاريخ الفكر وفكر التاريخ، بل تعيد أيضاً صياغة تضاريس الفكر والجغرافيا التي يتحرك عليها، فكر ينسرب عبر التاريخ وتاريخ ينسرب عبر الفكر، وكلاهما ينزلق على مسطح جغرافي في غاية الاضطراب، ما يجعل من حقل المعرفة، ليس حقلاً لجغرافيا قارية، بقدر ما هو حقل لصيرورات وحركات وانزلاقات سطوح متراكبة، وحركات متصادمة، وما يجعل من المعرفة صيرورات، وولادات وغيابات ونتاجات لحركات في العمق، وأخرى على السطح، المعرفة هنا لقاءات واصطدامات من ريح ونار، من خشب وماء، معرفيات تغور وتهرب نحو الأعماق، وأخرى في الأعماق تنثني وتطفو على شكل طيات وثنيات. "فالعمق يظل يطفو على السطح دون أن يكف عن كونه عمقاً"17 و"في الوقت ذاته، فسطح الجلد هو العمق الغائر الذي لا يضاهيه عمق آخر".18

    المعرفة كانبثاقات وتراكيب

    فالمعرفة كصيرورة جيوجغرافية مستمرة، حركة سطوح وأعماق تكشف مناطق جديدة، وتبني سطوحاً جديدة، تمثل جانباً واحداً من جوانب التعدد التركيبي لعملية تشكيل المعرفة كصيرورة بناء وهدم، وإذا كانت عمليات الهدم والبناء الجيولوجي تظهر جانباً من جوانب التصير والحدوث المعرفي، فإن ما يجري في علم البيولوجيا من لقاءات بين التراكيب العضوية، قد يظهر جانباً آخر، فاللقاء بين العضويات قد يسهم في فضح المخفي في العلاقات العضوية والمعرفية، فالحياة العضوية في شكلها الدقيق أو المجهري تجري ضمن لقاءات، تتميز بكونها لقاءات هاربة ومنسربة وسريعة، اقتناص وسرقة، تهديد وتشويه يماثل الكرنفال لا الزواج، وسرقة تساوي الإبداع لا الانتحال، وتشويه ينتج الجديد دوماً ويخلق فضاءات للمباغت والمنبثق، فيخلق تغيرات تصيب المغير والمتغير، دون أن يصبح أحدهما الآخر، فكلاهما يمر عبر صيرورة تغير، صيرورة لا تحدث إلا عبر صيرورة الآخر، أو عبور خط بينهما أو عبورهما عبر خط، كأنهما نقط وجودية تعبر من خلال الصيرورة كمجرى إلى كينونتها، وتؤول بها أيضاً إلى فنائها، تلك الرحلة المتناقضة في تضاعفها، صيرورة من الميلاد والموت، هي جوهر الأشياء وجوهر الكينونة وخط صيرورتها المتدفق بحركة الأشياء الصائرة في مسارها، عامرة بالصيرورة، معمرة للصيرورة مجراها، كماء يحفر المجرى الذي يحتضنه في علاقة من تلازمهما تمنحهما صيرورة نهر، دونها يؤول المجرى إلى فضاء خرب، ويتبدد ما كان عنفوان تيار وصخب شلالات إلى هباء صامت.

    تراكيب تلتقي على سطح الوجود وتنزلق عليه وعبر مساراته، صيرورة بين التراكيب وليس لها، انزلاق يهرب بهما إلى لحظة تصادم، يجري فيها قطع وتشويه وتغيير، ويهرب بهما كل في مساره بعد أن يكون قد تصير كل منهما إلى آخر يكمل صيروراته، ويكتمل لا بتكراره كمتماثل، بل كتكرار مختلف، واختلاف يتكرر كأنها مسارة بلا مسارات.

    ومن هذه الصيرورات العضوية، الفيروس والخلية، حيث ينسرب الفيروس إلى داخل خلية، يتحرك من سطح إلى آخر، من سطح جامد إلى آخر حي، ليتحول من الموت إلى الحياة، ويدخل مع الخلية في علاقة سرقة واقتناص، قطع وتشويه، تداخل بين تركيبه وتركيبها، وكثيراً ما ينفصل عنها بعد أن يأخذ شيئاً من تركيبها "الوراثي" "الجينات"، ويعطيها شيئاً آخر، عرس لصيرورة مزدوجة لكائنين ليس بينهما صلة سابقة، تنتج كائنين وصيرورتين ليس لهما صلة بما كانا سابقاً. العرس نفسه يجري بين السحلبية والزنبور، لقاءات وأعراس تنتج تغيرات وتحولات، ترتسم كميلادات جديدة، لحظات عنف ترتسم وتنبثق في التماعات برقية، تعيد إنتاج الفضاءات والحركات والأشياء، ثمة خطوط جذمورية وعلاقات تراكبية اقتناصية من هذا النوع تخترق كلاً من الفكر والدماغ، اللغة والفكر، المعرفة والوجود، الكتابة والعالم. فالفكر ينكسر في الدماغ ويلتوي، يتفرع ويصاغ ضمن ممرات ومسارب، ولكنه في الوقت ذاته يحفر في الدماغ ممرات وأخاديد، يخترق شبكات ويصيغ أخرى، كذلك المعرفة والوجود والكتابة والعالم، كل متشظٍّ متفارع ومتفرع متشعب ومتداخل وسط ومتوسط، موغل في العمق طاف على السطح، متوتر متراكب مخترق بإحداثيات وتوترات، سائح عابر، مشدود إلى نقاط توتر وبؤر توهج، ومتجهات متسارعة يعبرها وتعبره تشده ويشدها، كل واحد منها، "الكتابة والعالم، الفكر والوجود"، يتراكب مع الآخر، يجاوره ويجابهه بشكل يشرط بينهما جرحاً ويثقب ممراً يعبر بينهما، ويعبرهما ليحيكهما في صيرورة الوجود، ويحيل وجودهما صيرورة.

صفحة 2 من 3 الأولىالأولى 123 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. من جيل التحرير إلى جيل البناء والتعمير
    بواسطة ساعد بولعواد في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 15-07-2017, 12:20 AM
  2. عندَ التّأَمُّلِ والسّؤَال
    بواسطة صقر أبوعيدة في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 17
    آخر مشاركة: 22-02-2011, 02:12 PM