حِرصٌ
تَمَطَّى عَلَى الأَرِيكَةِ الوَثِيرَةِ يَفْركُ يَدَيهِ بِسَعَادَةٍ وَرِضَا. الدِّفْءُ المُنبَعِثُ مِنَ الموقَدِ المُقَابِلِ يَتَخَلَّلُ جَسَدَهُ لِيَزِيدَهُ اسْتِرْخَاء وَسَكِينةَ وَهُوَ يَتَأَمَّلُ مِنَ النَّافِذَةِ الكَبِيرَةِ رِقَّةَ هُطُولِ الثُّلُوجِ فِي دَعَةٍ وَهُدُوءٍ كَقطْنٍ نَدِيفٍ مِنْ يَدِ صَانِعٍ مَاهِرٍ. بَيْتُهُ الخَشَبِيِّ الصَّغِيرِ المُحَاطِ بِأَشْجَارٍ بَاسِقَةٍ أَصَرَّتْ عَلَى الاحْتِفَاظِ بِأوْرَاقِهَا الخَضْرَاء وَإِنْ خَالَطَهَا البَيَاضُ كَانَ كُلَّ عَالَمِهِ الصَّامِتِ إِلا مِنْ بَعْضِ مَرَّاتٍ يَشْتَاقُ فِيهَا لِلصَّخَبِ وَالحَرَكةِ.
عَادَ لِيَتَفَحَّصَ الكَامِيرَا التِّي ابْتَاعَهَا مُنْذُ يَومَين مُتَأَمِّلاً تَارَةً شَكْلَهَا الأَنِيقِ ، وَمُسْتكْشِفَاً تَارَةً الجَدِيدَ مِنْ مِيزَاتِهَا العَدِيدَةِ مِمَّا لَمِّا يَصِلْ إِلَيهِ. ابْتَسَمَ مِنْ جَدِيدٍ سَعَادَةً بِهَذِهِ الكَامِيرَا التِي طَالَمَا حَلِمَ بِهَا لِيُسَجِّلَ لَقَطَاتٍ مِنْ لَحَظَاتِ حَيَاتِهِ السَّعِيدَةِ ذِكْرَى يَحْتَفِظُ بِهَا سَبَبَ أُنْسٍ لِشَيخُوخَتِهِ التِي يَعْلَمُ أَنَّهُ سيَكُونُ فِيهَا وَحِيدَا. لَمْ يَهْتَمَّ لِلمَبْلَغِ البَاهِظِ الذَي دَفَعَهُ ثَمَنَاً فَهِيَ تَسْتَحِقُ كَمَا أَقْنَعَ نَفْسَهُ بِمَا فِيهَا مِنْ خَصَائِصَ وَإِمْكَانِيَات مُذْهِلَةٍ هِيَ أَحْدَثُ مَا تَوَصَّلَتْ إِلَيهَا التقْنِيَةُ الرَّقمِيَّةُ.
أَعَادَ نَظَرَهُ إِلَى حَيثُ النَافِذَةِ يَتَأَمَّلُ مَا تَحِيكُ يَدُ السَّمَاءِ مِنْ نَسِيجٍ مُهَفَهَفٍ تَكْسُو بِهِ الأَرْضَ ثَوبَاً أَبْيَضَ مِنَ النَّقَاءِ يُخْفِي تَحْتَهُ كُلَّ أَدْرَانِهَا وَعَورَاتِهَا. شَعَرَ بِرَغْبَةٍ عَارِمَةٍ فِي أَنْ يَحْتَفِلَ بِهَذَا الجَّوِ الثَّلْجِيِّ الفَاتِنِ ، وَأَنْ يَحْتَفِيَ بِكَامِيرَتِهِ الجَدِيدَةِ ؛ فَيَبْدَأَ الاسْتِخْدَامَ الفِعْلِيَّ لِخَصَائِصِهَا الكَثِيرَةِ وَالكَبِيرَةِ خُصُوصَاً مِنْهَا مِيزَة ثَبَاتِ الصُّورَةِ فِي كُلِّ الظُرُوفِ. قَرَّرَ بِالفِعلِ أَنْ يَخْتَبِرَهَا في مثل هذا الطَّقْسِ البَارِدَ ، وَأَنْ يُسْعِدَ نَفْسَهُ بِرِيَاضَتِهِ المُفَضَّلَةِ يُفْرِغُ بِهَا دَفقَاتِ السُّرُورِ التِي تَنْتَابُهُ وَتَستَعْمِرَ مَشَاعِرَهُ.
رِيَاحُ الشَّمَالِ تَتَدَفَّقُ بِرِفْقٍ تَحْمَلُ الهَوَاءَ النَّقِيَّ البَارِدَ لِتَلْفَحَ بِهِ وَجْهَهُ المُتَلَفِّعَ بِلِثَامٍ صُوفِيٍّ سَمِيكٍ وَهُوَ يَنْسَابُ بِتَؤُدَةٍ عَلَى زَلاجَتِهِ نَحْوَ تِلْكَ المَسَاحَاتِ البَيْضَاء حَيْثُ لا شَجَرَ يَزْجُرُ وَلا حَجَرَ يَحْظرُ وَلا بَشَرَ يَنْظُرُ. وَعَلَى سُفُوحِهَا هُنَاكَ أَطْلَقَ لِسَاقَيهِ العنَانَ يُسَابِقُ الرِّيحَ تَارَةً وَيُسَابِقُ الحُلُمَ تَارَةً أُخْرَى ؛ كَأَنَّهُ فَارِسٌ امْتَطَى مَتْنَ الرِّيحِ مُنْطَلقَاً نَحْوَ الحُلُمِ الجَمِيلِ الذِي رَاوَدَهُ عَدَدَ سِنِين. مَهَارَتُهُ فِي التَّزَلُّجِ مَدَّتْ يَدَاً لِكَفِّ نَشْوَتِهِ الجَارِفَةِ تَدْفَعَانهُ لِلتَّمَايُلِ تَبَخْتُرَاً بِرَغْمِ هَذِهِ السُّرْعَةِ العَالِيَةِ وَقَدْ أَمْسَكَ بِيَدِهِ الكَامِيرَا يُدِيرُهَا إِلَى وَجْهِهِ المُتَهَلِّلِ سَعَادَةً حِينَاً ، وَحِينَاً إِلَى الأُفُقِ المُمْتَدِّ أَمَامَهُ أَبْيَضَ مِنْ غَيرِ سُورٍ مُتْعَةً كُبْرَى.
وَفَجْأَةً ؛ شَعَرَ بِأَنَّ الأَرْضَ لَمْ تَعُدْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَحْمِلَهُ. لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حُلُمَاً تَوَهَّمَهُ. كَانَتِ الأَرْضُ تَتَشَقَّقُ تَحْتَهُ حَقَّاً لِيَجِدَ نَفْسَهُ وَقَبْلَ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنَ التَّوَقُّفِ قَدْ بَدَأَ يَغُوصُ فِي الجَلِيدِ. اضْطَرَبَ جِدَاً وَهُوَ يَرَى كَأَنَّ الأَرْضَ تَبْتَلِعُهُ وَكَأَنَّ صَقِيعُهَا يُكَبِّلُهُ. لَمْ يَتَوَانَ الأَلَمُ أَنْ يَغْرسَ فِي أَطْرَافِهِ أَنْيَابَهُ يَعضُّهُ سَغْبَانَ مَسْعُورَاً. يَتَأَوَّهُ بِشِدَّةٍ وَلَكِنْ كَانَ كُلُّ هَمِّهِ وَقْتَئِذٍ أَنْ يُحَافِظَ عَلَى الكَامِيرَا مِنَ البَلَلِ فَتَتَعَطَّلَ ، أَوِ السُّقُوطِ مِنْ يَدِهِ فَتَنْكَسِرَ. رَفَعَ يَدَهُ بِهَا أَكْثَر كُلَّمَا غَاصَ أَكْثَر مُشْفِقَاً عَلَيهَا يَنْظُرُ إِلَيهَا بِحِرْصٍ وَانْتِبَاهٍ.
وَعَلَى أَحَدِ الأَسِرَّةِ البَيْضَاء كَانَتْ عَيْنَاهُ تَتَقَلَّبَانِ بَينَ قَدَمَينِ قَدْ شَلَّ الجَلِيدُ قُدْرَتَهَا وَدَامَا ، وكَامِيرَا قَدْ كَسَرَ البَرْدُ عَدَسَتَهَا خِتَامَا ، وَكَشْفُ حِسَابٍ جَاوَزَ ثَمَنَهَا بِعَشْرَةِ أَضْعَافٍ تَمَامَا
مايهمني وانا أقرأ القصة انها كتبت بقلم شاعر لايستطيع مغادرة نبض شاعريته وهذا قد أعطى للقصة دفقة تألق وجرعة مركزة من الانسيابية جعلت القارىء يسأل نفسه هل أنا الآن أمام قاص أم أمام شاعر خصوصا ً انها قصة لشاعر كبير بحجم سمير العمري لديه بصمته الخاصة بل والخاصة جدا ً ، لقد قمت بعرض القصة على احد الفضلاء من متابعي أدب العمري دون ذكر اسمه فلم يخطر في باله البتة انها للعمري
استنتجت بعد ذلك أن القاص هنا قد مارس الهروب من الشاعرية وخيالاتها الى المباشرة والتقريرية فقط ليثبت للمتلقي انه هنا يقول النثر لا الشعر .
2\
البطل هنا هو الانسان ، وحرصه هنا يغذي شهوتنا للحرص على تسجيل اللحظة بكل غنائيتها سياحة ً في هذا الكون الجميل والذي بالغ القاص في وصف دلالات جماله وكأنه يريد اخبار القارىء ان انسان هذا الزمان منشغل بملاحقة نوعين من اللحظات ، لحظة التملك لآخر صيحات الحضارة المادية ( ممثلة بآخر تقنية للكاميرا ) ولحظات أ ُنسِه وقد اراد القاص ربط زمني الحاضر بالمستقبل من خلال لهفة البطل على اختراق المكان بسرعة
وفي ذلك هناك اشارة خفية تمس واقعنا الاسلامي كوننا لانزال نلاحق حلمنا الاسلامي الرشيد في نفس الوقت الذي نوثق فيه مايحصل لنا الآن بكاميرا المتلهف لغد أمثل ومستقبل أجمل
اليد التي تتشبث بالحلم وتسجيل الامنيات هي اليد التي لازالت تصر وبهمة توازي حجم الهموم أنها اليد التي تعشق الاصرار
3\
ان القاص قد حبك وبمهارة خاتمة القصة بلون لطيف من الوان النثر وجعل القصة تختتم لسطور من المقامة المدهشة
4\
ولكن
مايؤخذ على القصة ان القاص بالغ في التوصيف على حساب الحبكة مما جعلني اعيد القراءة مرات لعلني أعثر على هامش ( إثارة في الحدث ) اوظفه لاستقراء مراد وغائية القاص من سرده
ثم
فاجئتنا الخاتمة والقاص ينقلنا الى مشافي نداوي بها خيبتنا وبطلنا قد تبدد حلمه
ولو ان القاص سلط الضوء ببعض كلمات تشير الى امكانية عودة البطل الى الحلم ومعلوم ان الكاميرا تشير الى الوسائل لهذا الحلم وليس كما ذهب استاذنا ابو نعسة إذ حصر الكاميرا بمضمونها المادي وان خسارتها تعتبر خسارة مادية بل على العكس كان القاص يريد ان نلتفت الى ان الكاميرا هي الاداة التي ستبلغه الحلم
ولكن
مايؤخذ على القاص هنا هو انه حدثنا عن تشوهات الارجل والكاميرا ولم يحدثنا عن تشوهات المشاعر
بل نقلنا الى زاوية حرجة في القصة ، كون ارجل البطل لابد وان تعالج وان عدسة الكاميرا يمكن اصلاحها وقد ركز على الثمن المضاعف اضعافا ً كثيرة ، وانا ادرك ان القاص اراد في اشارة ذكية الى ربوية هذا الزمن الذي يأكل أكتافنا ومعلوم ان الربا يجعلنا اليوم ندفع ثمن تقهقرنا اضعافا ً مضاعفة ، ولكن النص لايساعد المتلقي على التقاط هذه الاشارة البالغة الذكاء وكان بوسع القاص أن يعين القارىء ببعض التوضيح على ذلك ليخرج النص عن بعض غموضه.
5\
الاجادة في التصوير كان تختص بالاشياء على حساب الافكار ولو أن القاص ارتفع بالقارىء الى فضاء أعلى وجعل القصة تأخذ منحى انساني يخترق حدود (المكان والزمان) كأنه مثلا ً يسقط ماحصل لبطله على واقعنا الآن ببعض الاشارات الخفية ، ألسنا ونحن نحيا فوق أرصفة الحزن تبتلعنا نار القسوة ويكبلنا أنين الابرياء الذين تلتهمهم فراعنة حروب الالفية الثالثية وقراصنة الطغيان وحلمنا يشبه حلم البطل في الخروج من كل هذه العتمة .
وان الجليد في القصة على جلال جماليته فانه يشبه دموعنا التي جمدت في مآقينا
6\
فاذا لاحظنا ان القاص جعل بطله لاينتمي الى مجتمع يشاركه الحلم فاننا سندرك ان البطل يحكي لنا قصة كل الذين لازالوا يدفعون ثمن انتمائهم لمبادئهم والغربة هي القاسم المشترك بينهم ، انه انتماء الانسان الى انسانيته والاصرار على رفض المخاصمة مع بهاء الكون وجمال ماخلق الله تعالى لنا ، ذلك ان البطل هو الرافض لكل من يحاول كسر ارجلنا ويفقأ عيوننا
البطل هنا هو خليفة الله على ارضه
هو المسلم الامل لكل الانسانية بل وحتى للطبيعة من تشويهات قراصنة وفراعنة الالفية الثالثة .
اخيرا ً
اود ان التفت انتباه السادة القراء الى ان محور القصة واللقطة التي ادهشتني ، لاحظ انه جعل الكسر في العدسة ( وهي رمز لحضارة التملك للأشياء ) في العدسة وبنفس السقوط جعل الكسر في أرجل بطل القصة
وكأنه يقول لنا ان ارجلنا المتعثرة منها والمتكسرة لن تتدخل في آلية التبصر والتفكر عندنافعيوننا سليمة رغم السقوط وفوق هذا فاننا لم نزل نمتلك القدرة على التبصرة
وكأن القاص هنا يحذر ان يشتمل التدهور عيوننا فلايهم ان تفقأ عين حاجياتنا بل المهم سلامة منظورنا لواقعنا ولعلاقتنا الانسانية
في الغرب المهم هو علاقة الانسان بالاشياء
وفي الشرق الاهم من علاقة الانسان بالانسان هو علاقة الانسان بخالقه وموجده
شكرا ً دكتور سمير ... لانك قصصت علينا حكايتنا