بسم الله الرحمن الرحيم
( حتى هو..أمي..وضع الليل في جيبي و غطاني بستائر الجرح ....ظننتُ أنني سأجد الوردةَ نائمة بعمق على كتفـه يهدهدها وينفض عن قلبها الصغير كل الرماد.. يحكي لها كعادته عن حكايا العشاق الذين مروا من هنا وبأيديهم جِرارُ الماء...لكنني قبل أن أدير ظهري لأستقبل الربيع القادم على حصانه الأبيـض ، وجدتُ الوردة قد ماتتْ..!! )
لقطة صغيرة من زاوية أصغر يستطيع القارئ أن يدرك – و سريعاً - أين يتجه الأدب بأسماء أو أين هي تتجه بالأدب .. اختر أيهما شئت ؛ ففي أي خيار تجد شيئاً ماتعاً يبهرك .
و كأن العدوى أصابتني من كثرة ملازمة أحرفها ؛ فرأيت نفسي أجمع مفردات أدبها نرجساً أو ياسميناً و أرتبه في سلال الذائقة الأدبية كأحلى ما يكون الجمع و الضم في طاقات .. هذا هو أدب أسماء كما رأيته ؛ أدب ملك الطبيعة بين السطور ، و صبغ الوريقات البيض بأزهى ما يكون زاهي النوّار و تباشير اللوز و الليمون .
إذا نجد الطبيعة ماثلة أمام العيون في " هطول " و في " شتاء " و في " ابتمسي " و في كل نص سكبت فيه الأديبة بعض معاني ذاتها ، و أدرك إدراك اليقين أنها توحدت مع تلك الطبيعة أنفاساً و لساناً صادقاً ترجمانه الحبر هنا !
قـلْ لي إذاً !! يا مَـنْ سكنَ معي النجمـاتِ والغيماتِ وأغاريـدَ قوس قزح، يـا مَـنْ وزّعَ معي قناديـلَ النجوم على ليالي المعذّبيـن ؟؟ يا مَـنْ زرعَ معي شتلاتِ الحلـمِ قبـلَ أنْ تنبتَ على مهَـلٍ بقلبيْنـا .. كيفَ لكَ أنْ تحبّنـي أكثـرَ، والحياةُ اختُزِلَـتْ فيـك ؟؟؟!
فهي تسكن النجمات مع حِبها و تفرش الغيمات و تصعد تلال قوس قزح .. بل النجوم قناديل تعلقها متى أدلج الليل و الحلم نبت يسقيه الحب في قلبها !
لكن الطبيعة لا تكتفي أن تقف عند بابها آنية للزينة .. بل نرى تشخيصها بلغ حداً عظيماً قلما نجد له مثيلاً ؛ فالشوق و الحنين و حتى الشتاء أرواح تتحدث و تتنقل و تعذب و تقبل و تدبر !
لِمَ يا شتاءُ ؟ ! لِم تستمرّ في التوغّل حتّى بينَ حرفي وشهيقه، وتصرّ رغمَ انفلاتي من ساعاتكَ الطويلة أنْ تحطّمَ ساعاتي، أن تُطفِئَ أنفاسَها، أنْ تمسخَها وحشةً ؟! وكلّما داويتُ معصمَ الأمنياتِ من بعض الجراح، تقفُ حائلاً بينه وبينَ الشفاء، بلْ وبكفّكَ القاسية تطرد الألوانَ عن ثغري وثغره، وتملأ مدفأةَ الذكريات بالبرد !
و الشوق !
هاقدْ بدّدَ الشوقُ مدّخراتِ القلب كلّها، بعدَ أن كنتُ أجمعهـا على مهلٍ مِن حدائق عينيْــه، فأصنعُ منها عِقداً، أحمرَ كأحلامي المؤجّلـة، أبيضَ كقلبِ حبيبي، ورديّاً كرحيق الأمنيات، لازوردياً كقسماتِ البحر، وهي ترتّبُ أماكنَهـا، أخضرَ كصباحاتٍ ماتزالُ ترمقني بشزرِ، مصبوغة بألوان قوس قزح، وهي تحتفلُ بقلبٍ يعودُ للأنقاض !
و تظل الأديبة تحدث الشوق و يحدثها ، و تناجي الحنين و يناجيها ليكون موضوعها الأكثر بروزاً ، و الأعظم تعلقاً بأهداب الحبر المهرق على صفحاتها ، و لتثبت لنا أنها جمعت في أدبها كافة سمات مدرسة أدبية أفل نجمها عن ساحة الأدب إلا قليلاً ليسطع نوره بين يدي قلم أسماء من جديد .
حرة: يا أغنيةَ الزنبـق،
كنتُ جالسةً إلى الشوق، كما تعرفين، أحدّثُه عن أحبابٍ لي رحلوا، فما ارتضى عني رحيلاً ..ارتعشتْ أناملي وهي ترتعد بوحاً، تهفو إلى أن تنحتَ على جدرانِ الأوراق حروفاً، أو شكلاً لا يشبه وجهَ الشوق، ولكن الشوقَ كان أنانيا، أبى أن يحرّر شواطئي، أراد أن يحتلّ قائمة الزمن، فانهملتْ كل المسافاتِ بين يديّ مغمىً عليها، وأصبحَ القريبُ بعيداً والبعيدُ أبعدَ...
و القارئ لأدب هذه الأدبية الرائعة يدرك تماماً مقدرتها على الحفاظ على تلك الموسيقى العذبة الرقيقة و التي تشي دوماً بنهجها الممتد من سويداء قلبها إلى العيون ثم القلوب ؛ فلا أثر لتلك الموسيقى النحاسية الجرس ، و لا الصاخبة الصوت ؛ فلا نداء عالياً و لا هتافاً مجلجلاً .. بل همس يعتمد على استعمال اللغة استعمالاً جديداً في دلالات و صور غاية في الرقة مع كبير إبهار : " عُشَّ سنابل ، باقات الملح المزروعة بالأصداف ، يصنعُ للشمسِ تاجـاً من الحروف ، حمامةَ البوح ، شفة الربيع ، قناديـلَ النجوم و أغاريد قوس قزح ...
"
يدفعني أدب أسماء – بكل خلاله – إلى صورة واحدة لا أرى غيرها يمثله تمثيلاً فريداً و دقيقاً و غاية في الكمال ؛ صورة المدرسة الأدبية الرومانسية الحديثة .
فما من أديب أو أديبة رأيت يتوحد مع الطبيعة و الجمال قدر حرفها ، و مع ميل كبير إلى التشخيص و التجسيد في الصور و تحقيق وحدة عضوية عن تجاربها الذاتية ، مع جرس حرفها الناعم المتوافق مع أنين الحنين و الشوق .
و مما يزيد الأمر تمكيناً في نفسي أنها من أبناء المغرب العربي و الذين انطّبعوا تأثراً بالأدب الفرنسي الرومانسي السمت .
غير أن سمة واحدة من سمات تلك المدرسة نفضتها الأديبة عن ثوب أدبها بكل فخر و اعتزاز ؛ أنها تحسن الظن بربها فلا مجال لتشاؤم و لا استسلام للآلام و الأحزان ، فها هي رغم كل الأوجاع تقرّ أنها بألف خير من الله :
" أمي..يا حبّة القلب..تغيرت أمور كثيرة لو تدرين ! ..لكني أشفقتُ على الدمعة الملقاة هنا من أن ترويها عيون المزن فتصبح وريدا من أوردة الصمت.. لا تقلقي عليّ..كل شيء بخير والحمد لله...إنني الآن أزركش قلب البحر بأغنية المساء..أغنّيها و أغنّيك..لا تنسي أن البحر أهداني قلبه قبل أن يعود إلى هنا..قلبا نصفه ياسمين و نصفه أنا ."
أقرأ أسماء عائدة بأدب المدرسة الرومانسية عودة قوية ، و باعثة لموات كثير من سماتها ، و ممثلة لها خير تمثيل يكون في هذه الحقبة .