أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: السخرية والعبث في قصص(بقايـــــــــا) لعبد السلام المودني

  1. #1
    الصورة الرمزية عبدالسلام المودني أديب
    تاريخ التسجيل : Jun 2006
    المشاركات : 162
    المواضيع : 36
    الردود : 162
    المعدل اليومي : 0.02

    افتراضي السخرية والعبث في قصص(بقايـــــــــا) لعبد السلام المودني

    تمهيد:
    يعتبر عبد السلام المودني من أهم الكتاب المغاربة الشباب الذين عشقوا فن السرد والكتابة القصصية والإبداع الروائي. وتتسم كتاباته القصصية بالتجريد
    والانزياح والانطلاق من الفلسفة الوجودية لإدانة الواقع الفظيع و رسم سوداوية الإنسان المعاصر الذي تنهشه الغربة والوحدة والسأم والملل والضياع. وتحضر في مجموعته القصصية" بقايا" السخرية العابثة لتنسج أكفانا لبقايا الإنسان العربي التائه في ظلمة الضلال والانسحاق السريالي من خلال المزاوجة بين كتابة سردية تجريبية تجريدية وكتابة تراثية أصيلة تعيدنا إلى نفحات السرد العربي القديم الذي يطفح بعبق التراث وأسلوبه السامي الرائع.

    وسنتوقف هنا عند هذا الحد من هذا التقديم التقريضي الذي أشدنا فيه بالكاتب القاص لأطلب من القارئ العزيز أن يرافقنا عبر سطور هذا المقال لنقترب معا أكثر من عالم عبد السلام المودني المليء بغرابة الأشباح والكائنات غير المنجزة التي تحولت إلى أباريق مهمشة وحالات ممسوخة باليأس والانتظار.

    1- المستــــوى المناصــــي:
    عبد السلام المودني كاتب مغربي شاب من مواليد مدينة الرباط في 05 يونيو 1976 م، كتب الرواية والقصة القصيرة، وله اهتمامات أخرى تتعلق بالفن والثقافة. ومن إصداراته: روايته " الدخلاء" التي طبعها بفاس سنة 2003م ، و رواية "أتون التيه" التي صدرت بسلا سنة 2004م، وكتاب " أفكار وكلمات شفاء الآهات" الذي نشره بفرنسا سنة 2006م، وله أعمال أخرى قيد الإنجاز كمجموعته القصصية" كوابيس جنوبية" وروايته" أسفار الرجوع".

    أما مجموعته القصصية " بقايا" فقد تولت دار المعارف الجديدة بطبعها عن دار الآمان سنة 2007م بالرباط. وتقع هذه المجموعة القصصية في سبعين صفحة من الحجم المتوسط، وتضم عشر قصص متفاوتة من حيث الطول وسعة النفس.

    ويرفق الكتاب بلوحة تشكيلية للرسام السريالي سالفادور دالي الفنان المبدع الإسباني المعروف وهي بعنوان" ثبات الذاكرة" التي رسمها سنة 1931م. أما علاقة اللوحة بالعمل فواضحة المقاصد والدلالات، إذ تنقر قصص عبد السلام المودني على تيمة الذاكرة المثقوبة ، وتتحول قصصه إلى هلوسات جنونية وأوهام غريبة تتسم بالسريالية التي تنزاح عن الواقع المتردي لترسم عالما يتقاطع فيه الحلم واللاوعي و التذكر والنسيان والشعور واللاشعور. كما تثير قصصه الاستفزاز والإزعاج الناتجين عن التجريد والإضمار والتغريب الفني والمنطقي.

    وتؤشر كلمة (قصص) على طبيعة العمل وهوية إبداعه الذي هو عبارة عن قصص قصيرة. ويمكن إدراج قصة " قلق " ضمن القصة القصيرة جدا على الرغم من تجاوزها لنطاق حجم هذا النوع السردي الجديد بخاصياتها المقلقة التي تتمظهر بجلاء في الإدهاش والتغريب والحذف والتكثيف.

    هذا، ويتأرجح الإهداء بين الخاصية الفنية الإبداعية التي تفلسف الكتابة" فاصلة، غيارى الراوي.... سماء بللت أرضي، وريح حملت روحا ألقتها في رحم أوراقي، وقالت لها، كونين فكانت."، والخاصية الشخصية المبنية على ميثاق الأخوة والصداقة كما يحيل على ذلك قوله" وأخرى تتبعها نقطة: سيف الدين... رجل أحبه كابني تماما".

    ويمتاز الإهداء بالشاعرية الرمزية والإدهاش الإيحائي والتشخيص المجازي.

    وتذيل المجموعة القصصية كذلك بقراءة نقدية موجزة لسعيد بوكرامي تعاملها على أنها أسماك سردية طازجة تحتاج إلى القراءة والتأويل. وهذه القراءة تتحول بدورها إلى كلمات يزين بها الغلاف الخلفي الخارجي في تماثل مع صورة المبدع عبد السلام المودني الذي يتأمل العالم بابتسامته العريضة الساخرة ناسجا أخيلته بأدخنة غليونه الإفرنجي وإيقاعات قيثارته الشجية.

    2- المستوى الدلالي:
    تحوي" بقايا" عبد السلام المودني مجموعة من القصص التي تصور صراع الإنسان المعاصر المتأزم ذهنيا ووجدانيا مع ذاته المحبطة وواقعه المتهاوي في الرذيلة والدنس الأخلاقي. كما تجسد هذه الشظايا القصصية عبثية الإنسان وفلسفة السقوط والانتظار. ففي قصته" بقايا" نلتقي مع شخصية تعاني من مرارة الفراغ واللاجدوى والاغتراب الذاتي والمكاني. وهذه الشخصية قاتلت في سبيل الوطن من أجل استكمال الوحدة الترابية بضم صحراء الجنوب إلى البلاد، ولكنه لما عاد إلى الوطن لم يجد الوطن الذي كان يناضل من أجله، ألفاه قد تغير وصار عدما وفراغا مميتا، حتى أحلامه تلوثت بالذاكرة المثقوبة والهذيان والتآكل الذاتي والذوبان في هوس اللاوجود والضياع الأبدي. ولم يعد يسترجع من ذاكرته سوى الأشباح والمقاتلين الأموات وحفر القبور والموت الدفين. يتلذذ بسمفيونية الحزن والموسيقا العسكرية المقيتة والبكاء على الأصدقاء الذين ارتحلوا والعلم الذي تغيرت ملامحه وأهدابه.

    ومن هنا تطفح قصة " بقايا" بالسوداوية المأساوية والانهيار التراجيدي والعبث السديمي والفراغ المكاني . وتصبح الشخصية المقاتلة هنا دالا فارغا بلا معنى تقتات بالوحدة والكآبة والغربة وميسما بلا دلالة ولاوجود إنساني حقيقي.

    ويعزف الكاتب في قصته" سقط سهوا" على نبرات الغياب والوحدة والغربة الذاتية والمكانية. ويصور فيها موظفا بسيطا بمصلحة الأرشيف بوزارة التخطيط تتغير به الظروف والأزمنة ويصبح شيخا هرما بعد أن عاش شبابه في الطيش وملازمة الأصدقاء والمقاهي والسهر مع النساء الغربيات. ولما ركب عقله وتزوج من للاالبتول نزولا عند رغبة والديه وضعت له الزوجة ذرية طيبة تتكون من أمينة وسكينة وحمزة، بيد أن الأولاد تركوه وهجروه وتركوه وحيدا وحتى الزوجة يخالها ضمن لائحة الأشخاص الذين تركوه وحيدا مع دخانه الذي لم يستطع التخلص منه حتى في نهار رمضان. وأضحى في بيته إنسانا يقتات بالعدم والفراغ والوحدة التي تنهش عظامه المهترئة . لقد تغير كل شيء في نظره : البشر والمكان والزمان، ولم يستطع التكيف مع ذاكرته المكلومة و أحس بغدر الجميع وانقضاء الوفاء.

    وتبلغ المأساة مداها في قصته" فات القطار" التي تؤشر على عبثية الحياة وطغيان القيم الزائفة وتردي المكان وتقهقر الإنسان المعاصر. يصبح الإنسان في هذه القصة علامة للفراغ والعبث والاغتراب. يهرب من المدينة الحزينة نحو مكان لا يعرف عنه الراغب في الارتحال شيئا. يتسلح بالانتظار والسأم ، يتحين فرصة الرحيل ولكنه لن يفلح في ذلك وتتعطل به الحياة، ويخونه الحظ ويجد نفسه أنه أخطأ القطار الحقيقي، وأن الفتاة التي كان يحملق فيها ويرسمها في مخيلته، والعجوز والولد الذين كان يرصدهما عبر ذاكرته وعاطفته من تقاسيم الزمن العابث والحياة التي تسرع برتابة قاتلة لا ترحم أحدا ولا تعطف على أحد.

    وتضيع الذاكرة في قصة " وجه في مرآة" وتطفو الحيرة أمام مرأى الشخصية النامية المحورية التي فقدت الإحساس بالمعنى والتركيز المنطقي في فهم الأشياء وتفسير الظواهر.

    يقرر حسن بطل القصة أن يسافر يعيدا عن المدينة؛ لذلك يقصد المحطة كل ليلة ويقف حائرا بين باب المحطة وشباك التذاكر ينتظر مالا يمكن تفسيره وتوضيحه حتى وجد نفسه محاصرا بامرأة تدعي أنها تعرفه وتعرف كل ما في بيته والشيء الكثير عن ماضيه الذي نسيه بسبب ذاكرته المفقودة في رأيها، و كان لا يستطيع الحسم في الأمور ولا تريد أن تتركه يرحل عن المدينة ويتركها وحيدة بلا أنيس أو رفيق في دروب هذه الحياة الشائكة. ولقد اندهش حسن لهذه الصدفة الغريبة ولهذه المرأة التي حيرته كثيرا؛ لأنه وجدها تعرف اسمه ومسار حياته وتحمل في حقيبتها صوره وأرقامه وتعرف جيدا كل غرف شقته والعمارة التي يسكنها وتؤويه. وأمام حيرته الساكنة الدفينة، خرجت المرأة غاضبة في عصبية شديدة، وبدأ حسن يتفرس الحقيبة ولم يجد ما رآه من صور وأرقام، ولم يجد غير مرآة لتلك المرأة الحاضرة بتقاسيم وجهها البارز، بيد أنه لم يجد وجهه وذاته.

    وهنا تحضر الغرابة الفانطيستيكية والتحول اللامفهوم في تشخيص العبث وضياع الإنسان وانهيار المعنى وانحطاط القيم الإنسانية واختلاط الذاكرة بالجد والهزل والارتماء في أحضان الرذيلة التي أفقدت كل معنى للحياة الإنسانية، وجعلت الإنسان بدون هوية ولا دلالة وجودية حقيقية وأصيلة.

    وتبلغ السخرية في قصة" محاكمة" مبلغها من الفكاهة والباروديا عندما تصبح محاكمة الإنسان البريء لعبة في يد القضاء والعدالة المزيفة . و من ثم، تختلط الذاكرة بالحيرة ، والجد بالهزل، ويتداخل الحق بالظلم ، ويصبح الإنسان المدان لعبة في سوق المزاد والسمسرة الزائفة، وتقسو الأحكام ويعلو الظلم ويتجبر، وتنساب الأحكام بارتجال وعفوية لتضع حدا للسفاهة والإجرام ولو في حدود الاتهام والبراءة، وتضيع الردود البريئة الضعيفة، وتقوى الإدانات والاتهامات الصارخة، لتنتهي المحاكمة بمقصلة الإعدام والموت والانتحار.

    وتدين قصة" محاكمة" عبثية الحياة وتضاؤل الإنسان وتجبر الأقوياء كما تسخر القصة من سفه العدالة وميزانها الأعوج برجحان كفة الأسياد وبطش المتسلطين ذوي الجاه والنفوذ.

    وتقترب قصة " قلق" من القصة القصيرة جدا في طريقة التحبيك والتكثيف والإدهاش والتغريب والإيجاز في سرد الأحداث وتلغيزها واستعمال تقنية الحذف والإضمار. و تصور القصة معاناة كاتب قلق يهرب من نكد زوجته وشقاوة أولاده ويختار مكانا قصيا ليجلس في مقهى هادئ بيد أنه يفاجأ بشخص يقلقه بصمته الغريب وتفكيره المسترسل في التأمل وترقب الأشياء و تحفيز الذاكرة على التخييل والإبداع . ولكنه لم يستطع أن يكتب شيئا وأصبح القلم بين أنامل يديه عاجزا عن الإفصاح والتعبير. وهذا القلق الحائر هو الذي دفعه لمراقبة ذلك الشخص الذي كان يجلس قبالة طاولته ويحدسه بعمق ويتتبع حركاته وأنفاسه راغبا في معرفة هويته وحقيقته.

    وفي الأخير، سيجد الكاتب أن الذي كان يجلس أمامه لم يكتب إلا جملة واحدة استهل بها مقاله وهي أنه لاحظ أن هناك تغييرا يحدث وأنه يلاحظ شيئا جديدا. وعلى الرغم من علامات الحذف والإضمار فإن القصة توحي بالفراغ والوحدة والعبث واللاجدوى و تغير المكان والإنسان في تماثل مع التغير الإيقاعي لوتيرة الحياة .

    ويلتقط الكاتب في قصة "اللوحة" شخصا يعيش على إيقاع البحث في المزابل والنفايات لعله يعثر على شيء ذي قيمة يبيعه لتجار التحف والأنتيكات فوجد إسطرلابا ولوحة فنية رائعة مذهبة الإطار. وكانت حياة هذا الشاب تتأرجح بين العبث الشبقي والتنقيب عن الأشياء ذات القيمة العالية للمتاجرة فيها قصد إنفاقها على حياة اللهو والتسلية بالأجساد الفاتنة. وبالتالي، تجسد القصة حياة العبث وانهيار القيم الكيفية الأصيلة وعدم الإحساس بالزمن. ولكن هذا الشاب سرعان ما يحس بقيمة الحياة عندما تسلح بأدوات الرسم والتشكيل ليستكمل رسم اللوحة المعروضة أمامه ويبدأ حياة جديدة أساسها الفن والإحساس بالجمال.

    وترسم قصة " الزبون الوحيد" صورة ساخرة للواقع العربي الزائف الذي يعيش في تناقضات مفارقة تنم عن تردي القيم الإنسانية وتضعضع الأخلاق وانسحاق الإنسان العربي أمام العنتريات الكاذبة والمغامرات الحربية الدونكبشوتية التافهة في إطار صراع الشمال والجنوب ، كما تتقطر القصة بالصراخ الضاحك والكذب الماكر وتزييف الحقائق وتشويه الواقع الحقيقي.

    وفي قصة" العقيدة الجديدة" يحاكي الكاتب واقع الدجالين ومدعي القداسة ويسخر من ترهاتهم وخزعبلات أدعيائهم الذين يسخرون من الشعب ويستغلون سذاجة الأميين البسطاء وغفلة الضعفاء من أجل قضاء مآربهم وتحقيق مصالحهم . وتستند القصة إلى انتقاد عالم الخرافة والأسطورة في المجتمعات المتخلفة الجاهلة التي تنأى كثيرا عن رقي دول الشمال وتقدمها الزاهر المبني على العلم و العقل والمنطق وخدمة المصلحة العامة .

    وفي المقابل، نجد في بلدان التخريف وانتشار الجهل و سيادة التخلف الإيمان القوي بأصحاب الكرامات الخارقة والعمل الدؤوب على تقديس الرجال وتأليه العباد والضحك على البشر وإغراقهم في سراديب الأوهام الضائعة و أحلام السراب الزائفة. وغالبا ما تكون نهاية هؤلاء البشر الطائشين المضلين العقاب الرباني والعذاب الطوفاني الذي لا يترك حرثا ولا نسلا.

    وتبلغ الغرابة مداها في التجريد والعبث والسخرية في قصة" المتنازع عليه" لتنقل لنا نزاعا ساخرا بين مجموعة من الأطراف تتصارع فيما بينها حول شخص لايعرف شيئا عن مجريات الأحداث، كان جائعا يتيه في المدينة يبحث عما يسد رمقه، فتلتقي به عجوز تدعي أنه ولده، ثم تدخل امرأة بأولادها حلبة الصراع والنزاع لتدعي أنه زوجها، ليدخل شيخ فيدعي أنه يعرف هذا الشخص الممسوخ الذي أعيد إلى الحياة بعد موته، ليتدخل رجال الشرطة في الأخير ليقيدوه ويتهموه بجريمة القتل.

    هذا، ويدين الكاتب في هذه القصة غرابة الإنسان وتفاهته وضياعه بين الادعاء والنفاق وتضليل الآخرين واتهام الآخرين.

    3- مستوى الاستكشاف والتأويل:
    يرسم عبد السلام المودني عالما سرياليا دادائيا ينبني على تحطيم الواقع وإدانته بشدة والثورة على أوضاعه المتناقضة ومفارقاته الجدلية الغريبة التي تثير الاشمئزاز والتقزز مع ضياع الإنسان وتهاوي مروءته وانهيار القيم الإنسانية الأصيلة في هذا العالم المنحط الذي سيجته المادة بالقيم الكمية التبادلية في ظل عالم الرأسمال والعولمة الموحشة التي تقزم فيها الإنسان وأصبح رقما من الأرقام التي لا قيمة لها ولا معنى. وتتمثل سريالية قصص المودني في استحضار الذاكرة المهشمة المثقوبة بالكوابيس والأشباح المنسية وذوبان الإنسان في ذاته وماضيه وحاضره المتآكل. كما ترسم هذه القصص عالما مشوبا بالأحلام والأوهام وانشطار الشخصية بين الواقع واللاواقع . وهنا تتوسط الذاكرة الحلمية هذين العالمين المتناقضين عبر التخييل والاسترسال للمشاعر وتدفق الأحاسيس لتجسد عالم الغرابة والتحول الفانطاستيكي الذي يسمه العبث والسخرية القاتمة. وتصبح كثير من القصص هلوسات جنونية وأحداثا فاقدة لنسيج الحبكة السردية وغير خاضعة للاتساق المنطقي والانسجام الكلاسيكي الذي عاهدناه في كثير من الأعمال السردية المغربية والعربية على حد سواء.

    وينطلق الكاتب أيضا من تصورات الفلسفة الوجودية التي تدافع عن الوجود الحقيقي للإنسان وحريته في ممارسة وجوده الطبيعي وتغيير الواقع لصالحه. وتملأ القصص بكثير من مباىء هذه الفلسفة كالسأم والعبث والانتظار والقلق والملل ورتابة الحياة ولا جدوى الحياة.

    ويستند الكاتب في تقديم عمله القصصي هذا إلى توظيف شخصيات بدون هوية و غير منجزة بالمفهوم الباختيني، تفشل في إنجاز برامجها السردية، وتقف عاجزة أمام متاريس الواقع وتتحول إلى شخصية مهمشة بلا ذاكرة كما في قصة " محاكمة" و" وجه في مرآة" أو رقم من الأرقام المستلبة بلا معنى ولا هدف كما في" بقايا" و" الزبون الوحيد" أو تصبح كائنا ممسوخا بين الحياة والموت كما في "المتنازع عليه" أو شخصية ساخرة تدعي النبل والقداسة كما في قصة" العقيدة الجديدة". ويلاحظ كذلك أنها شخصيات منهزمة يائسة يسيطر عليها الانتظار والعبث وتنساق وراء الحياة الشبقية بملذاتها الإيروسية.

    وإذا كانت الشخصيات ضائعة في عالم عبد السلام المودني، فالأمكنة كذلك لها ملامح باهتة في علاقة مع الزمن القصصي. وتتكئ هذه الأمكنة والفضاءات على الذاكرة الاسترجاعية الحلمية المهشمة بالسراب الزائف والأوهام الضائعة ، وتسبح في عتمة الظلمة التائهة وتحمل أبعادا وجودية قاتمة تعج بالعبثية وفلسفة اللاجدوى واللامعنى وانعدام الفضيلة الهادفة.

    ويستعين الكاتب بتقنية الوصف في تجسيد ملامح الشخصية المحورية فزبولوجيا ونفسيا وأخلاقيا ووظيفيا من خلال استقراء خارج الشخصية وداخلها لتبيان قزميتها وضآلتها في هذا العالم الذي حوله الإنسان بأطماعه إلى عالم شبقي منحل ومنحط تسوده قيم الشر والعبث والانحلال وتفسخ القيم الإنسانية. ويمتاز الوصف لدى الكاتب بالإيجاز والتكثيف والإغراب والإدهاش والتلميح قصد بناء عالم تخييلي يتسم بالإيحاء الدلالي والترميز السيميائي. ومن نماذج الوصف الموجز نستحضر هذا المثال الذي يصور لنا عبثية الشخصية وذوبانها في ذاتها المتآكلة:" يمشي، لا لم يكن يمشي. كان يتعلم المشي. يكاد يتعثر في الصور التي تخطو إليها عيناه. رجلاه تحملان جسدا غريبا عنه يكتشفه هو أيضا كما الأشياء الأخرى المحيطة به، كما روحه التي علقت بسجن جسد لم تختره.". (ص: 28).

    ويسرد الكاتب في" الزبون الوحيد" مجموعة من الأوصاف التي يسبغها على الكابرال باقلال:" مستند بكوعه على المشرب الخشبي. وجهه متغضن، عضلاته متقلصة وطرفه ذاهل في نقطة بعيدة مخترقا حدود المكان والزمان. تململ بدون مقدمات، فأحدث ذلك قطيعة مع صمت طويل لم يجرؤ أحدهما على قتله، ثم قال بصوت متهدل، كأنه يحتاج لمدة طويلة ولدربة قاسية كيما ينفض عنه الغبار، كاشفا عن فضلات أسنان لبقايا فم لشظايا وجه لذكرى رجل عاش في شبه زمن."(ص: 54).

    ويرتكز المنظور السردي في هذا العمل القصصي على الرؤية من الخلف أو التبئير الصفري باعتماد الضمير الغائب والراوي العارف بكل شيء الذي يعرف أكثر من شخصياته ويتغلغل في نفسيات شخصياته المهزومة الضائعة ويصورها من الخارج ليستقرىء دواخلها .

    أما زمن السرد فيتسم بالتعاقبية وتسلسل الأحداث ودورانه في بعض الأحيان كما في قصة" قلق" التي تنتهي بخاتمة تشكل بداية القصة ومقدمة انطلاقها. وبما أن القصص قصيرة في هذا العمل فمن الطبيعي ستكون الهيمنة للإيقاع السريع عبر تقنيتي الحذف والتلخيص. بيد أننا نلفي بعض الوقفات الوصفية والمشهدية التي تقوم بتعطيل الإيقاع الزمني وخاصة في قصة " المتنازع عليه".

    ويهيمن السرد أو الأسلوب غير المباشر على نسيج العمل السردي. بيد أننا نجد الحوار والأسلوب المباشر إلى جانب المناجاة والحوار الداخلي. كما يحضر الأسلوب غير المباشر الحر بكثرة حيث لا نعرف من يتكلم في القصة هل الكاتب أم الشخصية كما في هذه الفقرة:" أيكون عاشقا معذبا في هذا العمر لمراهقة نزقة، طالبة عنده في الصف مثلا، فلجأ حيث يستوحي من منظر عشاق المقهى كلمات يخاطب بها عشيقته المفترضة عن طريق خطاب غرام بثها أشواقه وعذاباته؟".(ص: 25).

    وتمتاز لغة الكاتب في هذه المجموعة القصصية بسموها ونقاوتها وصفائها، إذ يستعمل الكاتب الفصحى المهجنة بالدارجة والعامية المحلية والفرنسية المولدة بالطريقة المغربية. كما يوظف الكاتب اللغة التراثية الحبلى بالمستنسخات الصوفية والتاريخية والفانطاستيكية واستعمال التعابير المسكوكة القديمة للإحالة على عالم المفارقة وجدلية الماضي والحاضر في علاقة مع ثنائية الأصالة والمعاصرة كما في قصة "العقيدة الجديدة" التي أعتبرها أحسن قصة في عمل عبد السلام المودني، وأتمنى في المستقبل أن يوسع هذه القصة لتتحول إلى رواية تراثية سيكون لها وقع رائع على المتلقي العربي بصفة عامة والمغربي بصفة خاصة ، كما أن الفكر المناقبي في حاجة إلى تخييل جمالي وإبداع فني واستكشاف فكري وتأويل سياقي يأخذ بتلابيب التخييل والتوثيق على حد سواء.

    استنتاج عام:
    يظهر من خلال قراءتنا للمجموعة القصصية " بقايا" لعبد السلام المودني أن صاحبها متمكن جدا من أدوات التخييل السردي و فلسفات الإنسان المعاصر، مادام قد اختار التعبير عن موضوعة الاغتراب الذاتي والمكاني والنبش في رصد الذاكرة الإنسانية المثقوبة بالأحلام الضائعة والسراب الزائف والعبث الساخر في إطار رؤية وجودية من حيث التصور، والتشكيل السريالي على مستوى التجريد والتشخيص البصري للذاكرة . كما ينتقل عبد السلام المودني في عمله القصصي بين قالبين سرديين: قالب سردي تجريبي يعتمد فيه الكاتب على التقنيات السردية الغربية ولاسيما الحداثية منها، والقالب التراثي الذي من خلاله يستوحي المبدع الكتابة السردية القديمة في ثوب تشكيلي جديد و على ضوء رؤية فنية معاصرة رائعة. وأتمنى من الكاتب أن ينهج هذا الطريق الأصيل مع الانفتاح على السرد الغربي من أجل التميز وخلق حداثة العمل الأدبي والحفاظ على الخصوصية الإبداعية وفرادة الصوت القصصي أوالروائي.

    د. جميل حمداوي

  2. #2
    الصورة الرمزية د. محمد حسن السمان شاعر وناقد
    تاريخ التسجيل : Aug 2005
    المشاركات : 4,319
    المواضيع : 59
    الردود : 4319
    المعدل اليومي : 0.63

    افتراضي

    سلام الـلـه عليكم
    الأخ الفاضل الأديب عبد السلام المودني

    كم أنا سعيد بهذه الدراسة التي قدمها الناقد الدكتور جميل حمداوي , في قصص بقايا "
    للأديب القاص عبد السلام المودني " وقد قرأت الدراسة من النواحي الفنية وانضباط
    الأداء , في حين فاتني الاطلاع على النصوص " قصص بقايا " , ليكون تذوقي
    وتفاعلي مع الدراسة بحجم هذه الدراسة الراقية , ومهما يكن من أمر لابد لي أن اشكر
    لك ايها الأديب , على النقل الكريم لهذه الدراسة ونشرها .

    أخوكم
    د. محمد حسن السمان

  3. #3
    الصورة الرمزية عبدالسلام المودني أديب
    تاريخ التسجيل : Jun 2006
    المشاركات : 162
    المواضيع : 36
    الردود : 162
    المعدل اليومي : 0.02

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة د. محمد حسن السمان مشاهدة المشاركة
    سلام الـلـه عليكم
    الأخ الفاضل الأديب عبد السلام المودني
    كم أنا سعيد بهذه الدراسة التي قدمها الناقد الدكتور جميل حمداوي , في قصص بقايا "
    للأديب القاص عبد السلام المودني " وقد قرأت الدراسة من النواحي الفنية وانضباط
    الأداء , في حين فاتني الاطلاع على النصوص " قصص بقايا " , ليكون تذوقي
    وتفاعلي مع الدراسة بحجم هذه الدراسة الراقية , ومهما يكن من أمر لابد لي أن اشكر
    لك ايها الأديب , على النقل الكريم لهذه الدراسة ونشرها .
    أخوكم
    د. محمد حسن السمان
    العزيز د. محمد حسن السمان
    شكراً لك سيدي وجودك هنا أيضاً.
    بقايا تضم عشرة نصوص جلها، إن لم تكن كلها، هنا بالواحة.
    محبتي الصافية..
    عبدالسلام المودني.

المواضيع المتشابهه

  1. البعث والعبث
    بواسطة اشرف نبوي في المنتدى الحِوَارُ السِّيَاسِيُّ العَرَبِيُّ
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 09-05-2011, 12:27 PM
  2. أدب السخرية في العراق القديم ..
    بواسطة بهجت عبدالغني في المنتدى الأَدَبُ السَّاخِرُ
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 26-12-2008, 08:00 PM
  3. "بقايــــــــــــــــــا" آخر إصدارات المودني
    بواسطة عبدالسلام المودني في المنتدى أَنْشِطَةُ وَإِصْدَارَاتُ الأَعْضَاءِ
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 27-03-2007, 12:02 PM
  4. حِوار مع الروائي و القاص المغربي : عبدالسلام المودني
    بواسطة جليلة ماجد في المنتدى أَنْشِطَةُ وَإِصْدَارَاتُ الأَعْضَاءِ
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 21-12-2006, 08:10 PM
  5. رحبوا معي بالأديب عبد السلام المودني
    بواسطة سمر سليم الزريعي في المنتدى الروَاقُ
    مشاركات: 7
    آخر مشاركة: 13-06-2006, 01:46 AM