المشاركة الأصلية كتبت بواسطة جيهان عبد العزيز
بأقل قدر من الضجيج
[B][SIZE="4"][COLOR="Black"]عائدة من المدرسة ، كالمعتاد الزحام الشديد عند الباب ، الصخب والجري والوجوه الصغيرة المتعبة ، العيون المتسعة لتحتوي العالم كله في لحظة ، عبرت بصعوبة بين جموع السائرين والراكضين ، متجنبة أي صدمات فجائية أو غير مقصودة من مرفق صبي يجري أو حقيبة مدرسية مندفعة في الهواء ، تصيح عاليا لتتمكن صديقاتها من سماع صوتها بينما يتردد النشيد من الحناجر " مروحين مروحين على بيوت الفلاحين "
تنتبه بسعادة إلى ان اليوم هو الخميس _ آخر أيام الدوام الأسبوعي _ وغدا الجمعة يوم العطلة السعيد . ستصحو من نومها في الثامنة أو التاسعة على أقصى تقدير ، تعطيها أمها النقود لشراء ( الفول والبليلة ) من عند "عم حسين" الذي يقف بعربته الصغيرة وصوته الصادح ينادي على الفول ويحيي الصغار بأسمائهم التي يعرفها جميعا ، يتوصى بالفول في الطبق ويزينه بحبات البليلة الساخنة .
كم تعشق تلك الرحلة الأسبوعية صباح الجمعة الهادئ الخالي من جموع العاملين والدارسين ، في طريقها لعم حسين تنزل درجات السلم مسرعة تستقبل الشمس الهادئة ونسمات الصبح بقلب مشرق ، تخرج من بين صفي البيوت إلى الشارع الواسع حيث تشرع في الدندنة
" واحد اتنين يا دنيا وجود مورنينج بنجور ردي علينا يا دنيا وقولي صباح النور "
لا تكف عن الغناء حتى تعود بالفول والبليلة والخبز الأسمر والفلافل الساخنة و
- إلى اللقاء يوم السبت .
- إلى اللقاء.
وصلت آخر رفيقة لها إلى منزلها ، لذا ستكمل وحدها الآن ، والطريق ليس طويلا على أية حال ، وهي لن تشعر به حتما ، فمازالت تفكر في طبق الفول اللذيذ وفي "عم حسين " كم هو جميل لأنه يعد أطعم فول وأشهى بليلة ،لأنه يحب الجميع ، لأن الابتسامة لا تفارق شفتيه ، و لأن ....
تنتبه لولدين يمسكان بثالث أصغر منهما كثيرا ، يهددانه، يحاولان سلبه ما معه ربما من حلوى أو من قروش قليلة ، ربما لا يريدان منه شيئا سوى رؤية الفزع وعدم الفهم في عينيه ، تتوقف لحظة ، ترتعش شفتاها لتنطق بكلام ما ، لكن النظرة المهددة من عيني أحدهما تدفعها للإشاحة بوجهها ومواصلة طريقها في صمت ، سرعان ما تلين ملامحها ثانية حين تلمح رجلا يتجه نحوهما فيفلتا الصغير بسرعة وينسحبا خائبين .
تطرد ما حدث من ذهنها سريعا وهي تعاود التفكير في الغد ، سيتزامن إعداد مائدة الإفطار مع بداية " سينما الأطفال " فتتناول الطعام وهي غائبة في "بلاد العجائب" أو في طريقها "للساحر أوز " .
هاهي بداية شارعها تلوح عند المنعطف التالي مباشرة ، خطوات قليلة بعد وتصل إليها ، و............................................... تمتد قدم أمامها تزيح خطوتها التالية عن الأرض فيطير جسدها في الهواء للحظة قبل أن يتهاوى ، تصدم مؤخرة رأسها بحافة الرصيف الصلبة ، للحظات يظلم كل شيء أمام عينيها بينما تدوي بأذنيها ضحكات عالية شامتة ، مبتعدة عنها ، استغرقت لحظات أخرى لتستوعب الألم الشديد في أعضائها ، ذلك الألم الذي تجمع كدقات شديدة على الرأس ، حاولت استعادة توازنها ، وبالكاد حاولت فهم ما حدث ، كان ولدا يقاربها عمرا ذلك القادم أمامها ،ذلك الذي مد قدمه امامها لتسقط - لم تكن تعرفه قبلا ، ولم يكن الرصيف مزدحما ، في الواقع كان الشارع كله خاليا فجأة إلا منهما حاولت النهوض عن الأرض ، شعرت برأسها الصغير
قراءة مختصرة في قصة:
بأقل قدر من الضجيج
للقاصة : جيهان عبد العزيز
بداية ؛ يجب التركيز على أن هذه القصة تعبر عن كاتبة تعرف حدود الطريق ، صاحبة فلسفة عميقة في الحياة ، لها قانونها الذي تحكم به الأشياء .
العنوان : بأقل قدر من الضجيج ،
حقيقة تناولت هذا العنوان على عدة أوجه ، في كل مرة أجده يؤدي نفس الدور من أول القصة وحتى
نهايتها ، بل إن العنوان يمثل الدخول إلى القصة ، ويمثل محور الارتكاز القصي ، والنهاية .
ويبدو ذلك واضحًا جليًا من سياق الحدث حيث يتسم بالهدوء ، وبأقل قدر من الضجيج الذي لا نلمحه في مسارات القصة ، فلا نلمح الأصوات العالية ، أو الصراخ ، مع أن الأحداث كانت تقتضي ذلك في بعض اللقطات ؛ إلا أن القاصة ، وبذكاء استطاعت أن تسيطر على الجو العام للقصة .
بأقل قدر من الضجيج ، عنوان لعب الكثير من الأدوار في القصة ، هذه القصة التي جاء الحكي فيها عنصرًا بارزًا ، ولكنه حكي في عمق القص ، حيث لم نلمح خلال القصة ما يجعلنا نمل الحكي ، أو السرد ، حيث كانت لغة السرد قوية متينة تعبر عن كاتبة متمكنة من لغتها ، تعرف كيف يكون كل لفظة موظفة توظيفًا فاعلاً في موضعها ، وكيف تستغل ذلك في التشويق المرحلي ؛ فلم نكن أمام قصة تشوقنا إلى النهاية بل تشوقنا إلى مرحلة هي المخل لمرحلة فوقها .
في هذه القصة وجدت أن الكاتبة تسرد حالة واقعية ، لم تعمد القاصة إلى التخييل إلا لخدمة الحدث ، فنحن أمام قصة واقعية ، لا ترتكز على ثيمة بعينها ، وإنما نجدها تقوم على عدة ثيمات : اجتماعية ، وسياسية ، واقتصادية . هذا الحشد غير المعلن من الثيمات ، جعل القصة تأتي في نسيج قوي محكم كحالة بادية للعيان ؛ فأول ما نلمح في القصة هذه الحياة الريفية ، وبيوت الفلاحين في إشارة إلى الأصالة ( هذه الأصالة التي ستتعرض للتهميش والتزييف فيما بعد ) كما نلمح الأجواء الاقتصادية بالحديث عن العودة إلى القرية وبائع الفول ، والطريق ، أما السياسية ، فالكاتبة تلعب عليها وترًا خفيًا تتأثر به كل الأدوار .
في هذه القصة ، الكاتبة استخدمت المراحل في نقلات موفقة جدًا جدًا حيث لم تشعرنا بأي وقفة في الانتقال ، فقد استخدمت الحوار الرائع كوسيلة انتقال حين يسألها : وبعد ، وتجيب : لم يعد بعد ، لنجدنا أمام امرأة مكتملة ، وقصة مكتوبة ، لنقع في الدهشة ، لكن بعد قليل نكتشف مرة أخرى أنها البطلة في مراحلها الأولى ، وأنها المكتوبة قصتها هي أيضًا ، وقد اتضح ذلك عندما وضع يده على البروز الناجم عن الجرح القديم ، إلا أنني توقفت أمام هذا البروز وكنت أتمنى لو أنه كان ندبة في الجبين ، بما يتناسب وحالة الوقوع الناتج عن ( العنقلة ) حيث إن الصبي وضع رجله في طريق الفتاة ، ولم تكن تركض ، وإنما كانت تمشي ، والوقوع في هذه الحالة يكون إلى الأمام لتكون أكثر الأماكن إصابة من الوجه الذقن ، الأنف ، وفي حالة اعتراض للرصيف يصاب الجبين ) لن نتوقف هنا كثيرًا حيث وظفت القاصة هذه الأدات توظيفًا مميزًا .
نصل إلى التصعيد ، حيث نتبين أننا أمام امرأة ليست بريئة ( هكذا وضعتها القاصة ) لنتساءل ما الوضع الاجتماعي ، والأخلاقي الذان يربط بينها وبين الرجل الذي معها ، حيث تشير إلى أنها ستنصرف في كل الأحوال ، وتعتذر لما وقع من مخلفات السيجارة ، إننا أمام امرأة لديها من المشاكل الاجتماعية والأخلاقية ، ما يجعلنا نعيد القراءة لنتفحص تاريخها ، في حين لم تلمح القاصة إلى أي مشكلات اجتماعية في أسرتها ، فهل يمكن للسقطة المادية أن تؤدي إلى هذه السياقات وهذا الانفلات من القانون الأخلاقي ؟! لابد من وجود سقطة أكبر ، هنا تفتح القاصة أمامنا عدة قضايا ، ربما الظروف الاقتصادية والاجتماعية والزواج العرفي ، ربما التحرر والانفلات من الأخلاق والأعراف ، ربما ... حالات ونوافذ كثيرة تفتحها القاصة أمام القارئ ، إلا أنها لم تؤثر أبدًا على بناء القصة ولم تصبها بالترهل أو التمييع ، بل إنها مما يستحضره العقل أثناء القراءة .
إجمالاً ، نحن أمام عملٍ قصي متميز يحتاج التوقف معه لأكثر من مرة ، هذا العمل لقاصة تجيد استخدام أدواتها وتتعامل مع القص بحميمية تساعدها على تحقيق ما تهدفه للقصة التي تكتبها .
القاصة : جيهان عبد العزيز
مرحبًا بكِ بيننا في دار القصة ، ونتمنى أن تسعدينا دائمًا بإبداعتك .
تقديري واحترامي
مأمون