شجر الدر بين عرش الحكم ... وعرش القلب.
( بقلم محمد نديم)
شجر الدر .... القاتلة المقتولة ... هل قتلها حب الحكم ؟ أم حكم الحب؟
بين عرشين كانت وبين عرشين تألقت ... وبين عرشين ذابت ... عرش الحكم ... وعرش الحب .
شجر الدر ... وحكاية أغرب من قصص الجان وأساطير الخيال ... لأمرأة ... عز عليها قلبها قبل أن يعز عليها عرشها.
هي( أم خليل ) التي يتوارد بين الناس أن اسمها شجرة الدر ... غير أن اسمها الحقيقي هو ( شجر الدر ) بدون التاء المربوطة ..
وهي جارية من سبي الحروب ...من أصل تركي أو أرمني أعتقها الملك الصالح أيوب وتزوجها. وتميزت بالجمال الأخاذ و رجاحة العقل وقوة الشكيمة والقدرة على القيادة .. وكتمان الأسرار والقدرة على تحمل أعتى المسئوليات. إضافة إلى نزوعها لمساعدة الضعفاء والعجزة والمعوزين والتي أرى أنها نزعة سلطوية أرادت أن تتحلى بها كملكة ... أكثر منها نزعة حب للخير لوجه الخير.
يحبها معظم نساء العالم الإسلامي لقوتها ويتمنين أن يلعبن أدوارها.
وشجر الدر رغم قوتها وجبروتها .... فإنها في النهاية ذهبت ضحية قلبها وغيرتها العمياء كامرأة ... تحب وتكره وتنتقم.
ودخلت بها الأمة في صراع بين جيوشها ورجالها كان مزيجا من الصراع السياسي والعاطفي في آن واحد. في فترة من أخصب وأبهى فترات تاريخ مصر بقدر ما فيها من زهو النصر وبريق المجد فيها أيضا من أخطاء الحاكم ونزواته واندفاعه وراء مشاعره .... فما بالك لو كان هذا الحاكم امرأة بجمال ودهاء وقوة ... شجر الدر؟ ..
... التي لم تحزن أن سلب منها السلطان عز الدين أيبك خاتم الملك ( بناء على رفض الخليفة العباسي أن تتولى امرأة عرش مصر بعد وفاة الملك الصالح ثم مقتل توران شاه ) قدر حزنها على قلبها الذي تمزق ... فقتلته انتقاما منه لأن كسر قلبها لا لأنه استولى على عرشها. أيبك الذي لولا أن انتزع قلبها بعودته إلى أم ولده ( أم علي) ما كانت لتمس منه شعرة لأنها أيضا كانت تحبه.
أضطرت أن تتزوج من عز الدين أيبك ( أتابك الجند ) قائد الجيش الذي رأت أنه أكثر طيبة في نظرها من الثعلب أقطاي ... وأحست بدهاء المرأة أنها يمكنها أن تتحكم في أيبك دون غيره ممن يحيطونا ... فتوسد أيبك عرش مصر وعرش قلب شجر الدر ... فمنعته من زوجته وابنه .... وحاصرته في القلعة لها وحدها ... ولسان حالها يقول له لو أردت عرش مصر خالصا ... فعليك أن تكون خالصا لعرش قلبي أيضا.
واطمأن عز الدين إلى أن مقاليد الحكم بيديه ... وخيوط اللعبة بين أصابعه ... بعد أن استقرت له شئون العرش ... وتخلص من كل أعدائه ... وامتطى الكرسي .... وراح يشيح بوجهه بعيدا عن وسادتها الملكية الناعمة . والتفت إلى امرأته الأثيرة لديه وولده الصغير.ربما أحس أن تحت الوسادة الحريرية قد يكمن خنجر مسموم.
الآن أدركت بحس المرأة القوية المخدوعة أن عز الدين صار في نظرها رجلا ككل الرجال ... يكذب كي يحصل على ما يريد من أنثاه ... فإذا قضى منها وطره ألقى بها عظاما نخرة ... وارتمى بين ذراعي أمرأة أخرى ...هكذا أحست منه الغدر وقرأت في عينيه أنه سيتخلص منها لا محالة ... وزاد من بلة طين الشك بقلبها أنه هجرها إلى زوجته الأولى وأم ولده (علي ) .... فأكلت الغيرة كبدها وأصرت على استرجاعه .... ولعلها في ذلك تسترجع عرشين في آن واحد عرش مصر ... وعرش القلب.
استدرجت زوجها أيبك الذي عشقته وأتمنته على قلبها قبل عرشها _ جاءت به إلى القصر بعد أن غضبا من بعضهما البعض وتركها إلى زوجته الأولى .. فأكلت نار الغيرة قلبها فكان أن استدعته متلطفة ... متشوقة ... متدللة كأنثى .. بل كأفعى وجاء بقدميه إلى خدرها مرة أخرى ... نعم بقدميه وبكامل إرادته .... ووعدته بليلة حب خيالية .فصدقها .. وبين عطور رائعة وشموع متلألئة ورياش وسندس وطعام لذيذ .. هم أن يأخذها من شوقه بين ذراعيه .. ... لكنها أبعدته عنها بلطف ... وبدلال أشارت عليه أن يأخذ حمامه أولا من وعثاء السفر , فدخل إلى المسبح .. ولم يخرج منه إلى الأبد ... إذ قـُتل هناك غيلة ويقال ضربا بالقباقيب.ولما أن رددت دهاليز القلعة صرخة القتيل المغدور ( أدركيني يا شجرة الدر ) , ربما كانت في ذات اللحظة تصحح من وضح خصلتها فوق جبينها أمام مرآتها , وترش تحت أذنيها شيئا من عطرها الملكي الفاخر , وعلى وجهها القوي والجميل الملامح توهجت ابتسامة المنتصر.
لكن امرأته أم علي انتقمت منها – أرسلت لها جواريها فتكتلن عليها وقتلنها ضربا بالقباقيب , ثم احتفلت بهذه المناسبة بتوزيع الحلوى بين الناس وهي حلوى مصرية مملوكية ما زالت تعرف باسم( أم علي ) حتى الآن.
بين حبها للتحكم والحكم وحبها لقائد الأتابك عز الدين أيبك ... وغيرتها من زوجته ذاقت مصر حلاوة النصر في المنصورة وهي التي قادت معاركها بخاتم زوجها السلطان المحتضر ... وهي التي شهدت أسر لويس التاسع .... ومعها ذاقت مصر أيضا مرارة التقاتل بين جيوشها وعناصر الحكم فيها ... وذاقت أيضا حلوى أم علي التي لم تكن مجرد حلوى نسائية بقدر ما فيها من نعومة الصنع وحلاوة السكر ....بل كانت رسالة تحمل أيضا مرارة الحب وقسوة الغدر و نار الغيرة ولهيب الانتقام.
شجر الدر ... الملكة العاشقة .... والسلطانة القاتلة المقتولة .
أحببت كل حرف في سيرتك المنتصرة ... وغفر الله لك ما فيها من دماء ومؤامرات.
نسأل الله لك الرحمة ... ولنساء مثلك أيضا.
محمد نديم