عندما قررنا تفجير الصخرة
قبض مختارنا على لحيته شدها بقوة – وكانت هذه عادته حين يداهمه هم عظيم- ولسانه يردد:
- لا بد من حل.
حين عرض عليه الشيخ عوض فكرته ،رمقه المختار نظرة أرجفتنا في أرضنا ، ولكن الشيخ عوض أصر على فكرته قائلا:
- لا حل ثالث..
انتفض مختارنا غاضبا ، وكاد يرفس المجمر النحاسي الذي يتوسط (أوضته) وامسك بأنف الشيخ عوض – وهذه عادته إن غضب من احد ما - وقال:
- شيخ عوض..لو غارت مياه لعالم فلن اطلب منهم قطرة واحدة.
كأن قبضة المختار أمسكت أنوفنا جميعا ،فأحسسنا بألم شديد لم نقدرأن نعبر عنه إلا بتنكيس رؤوسنا،مفكرين:"لولا إصراره، وعناده لتمكنا من حل المشكلة ، ولكنه يأبى ولو هلكنا جميعا.."
الحقيقة ، سنموت جميعا ولن نخرج عن طاعته فهو كبيرنا وسيدنا ..وها صديق عمره الشيخ عوض ،الوحيد القادر على طرح أرائه ،.وصاحب الفضل في مبايعة المخترة بعد جده الراحل.. ها هو يقف صامتا،خاضعا للفرمان..
سدت علينا جميع المنافذ .وامتد المجلس المنعقد بعد صلاة العشاء حتى منتصف الليل ،ولكننا لم نهتدي إلى حل .فأخر الآبار قد جف منذ أسبوع..ولم يبقى لدينا سوى بئر المسجد والذي بمعجزة إلهية يجود علينا بمائه العذب..فتهرول نساؤنا وأطفالنا لأخذ كمية كبيرة من الماء حتى مختارنا تغاضى عن تلك الفوضى في جر المياه ..ولإحساسنا بان الماء سينفد ..بدأنا نستجر أضعاف ما نستهلكه ..ولم تبقى في منازلنا أوعية يمكن أن تستوعب الماء الذي نجلبه.وربما فكر الباقون مثلي بحفر حفرة في ارض المنزل وتكليسها لتخزين الماء فيها...
انتشلنا المختار من بحر أفكارنا ..وسمعناه يقول:
- سنحفر بئرا أخر.
مرة أخرى تجرأ الشيخ عوض وقال:
- لكننا حفرنا أربعة أبار هذا الشهر، وبعمق عشرون ذراعا ،ولم نحصل على قطرة واحدة.
خيل إلينا بان المختار سيقتلع انف الشيخ عوض مثلما نقتلع نبتة الحليان الضارة بالقمح ، ولكنه خذلنا إذ تطلع في وجه صديق عمره وابتسم - وهذه عادته حين يصر على أمر ما - :
- سنحفر ..سنحفر ..حتى تمل الأرض من حفرنا.
-
.قطع مختارنا حديثه ، وانتصب واقفا. كأنه يستقبل ضيفا .. ثم جلس صامتا منكسا رأسه و هذه- عادته حين يأذن بالانصراف-..انفض المجلس ..وعدنا إلى بيوتنا ..ومشكلة الماء تسبح في عقولنا فتطوف الأفكار ..كان لدنيا ستة آبار جميعها تطفح في الربيع ولم يخطر على بال أحد بأن الماء سيكون مشكلتنا الكبرى إلا هذه السنة فقد حدث أمر غريب ..بدأت الآبار تجف واحدة تلو الأخرى ..كأن الأرض ثقبت من طرفها الأخر، فتسرب الماء ولم يبقى سوى بئر المسجد..وهذا ما جعلنا نفكر بتفسير الدرويش صحن. خادم جامع القرية .حين اسر بان نفر من الجن مروا بالقرية فشربوا من آبارها ورحلوا..ولنساؤنا دور رئيسي في نشر وتطوير المبررات ،حتى كان أخرها بان مختار القرية المعادية استأجر احد العرافين الكبار ممن يتعامل مع الجن فسخر أعوانه لجلب مياه الآبار وصبها في نبعهم ،الذي تحول إلى بحيرة. ستروها خوفا من العين. وابقوا على ثقب صغير يدر الماء بلا توقف .ولن تحل المشكلة إلا برضوخ المختار لتزويج ابنته الوحيدة إلى ابن المختار المعادي وهو ما يرفضه مختارنا لان ذلك يعني تسليم القرية لهم .
-إلى متى سنصمد؟! .
ذلك هو السؤال.. القرية المعادية تتمتع بالماء الوفير ..خصها الله ببركته ، فتفجر من أرضها نبعا اغرق جميع القرى ..ومنها قريتنا ، ولكن حين نشب الخلاف .. وحدث ما حدث.. قطعوا الخط الذي يمدنا بالماء ..صحيح بأننا منعناهم عن طاحونتنا ، ولكن ما النتيجة... هم استطاعوا بناء طاحونتين ونحن فشلنا في الحصول على قطرة واحدة..
قبل الدخول إلى بيتي، لمحت شبحا يعرج إلى الاوضة , وتفأجت بالدرويش أمامي:
- انه كبير الشياطين الله يستر ويسلم البلد ..
وقبل إن اسأله تركني ولسانه يردد :
-نم يابني حتى لاتتأخر عن صلاة الفجر.
لما أذن الدرويش لصلاة الفجر ..سمعنا صوت خادم المختار ينادي..الاجتماع ..الاجتماع..فهرولنا إلى الأوضة وكلنا أمل بأنه اقتنع أخيرا بفكرة الشيخ عوض المسالمة.دخلنا عليه .فوجدناه كما فارقناه ..قابض على لحيته، منكسا رأسه ، وكأن الساعات التي مرت دقيقة واحدة ..مع فارق رهيب بالرائحة وكان الآلاف الأشخاص باتوا هنا.. وربما كان الدرويش على حق .. إبليس كان هنا ..
أشار علينا بالجلوس ..أمر خادمه فادر علينا القهوة نطرد ما تبقى من نعاسنا .. منتظرين الشيخ عوض الذي وصل متأخرا، فأتخذ مجلسه بالقرب من المختار وسأل:
- خير إن شاء الله.
وضع مختارنا راحته على كتف الشيخ – وهذه عادته حين يود احد ما – وقال:
- لقد خطرت لي فكرة ...
.تتطلع بوجهنا فلمحنا بريقا غريبا في عينيه وكأنها ليست عينيه ..نهض على غير عادته ، ومشى وقد حنى ظهره.. كحمال عجوز يحمل كيس الطحين فوق ظهره ..نظر إلى القرية المعادية من الشباك الغربي للمضافة:
- سنحفر نفقا يوصلنا إلى نبعهم.
وكالسهم رأينا وميضا يقفز فوق المختار يضربه ..عرفناه من صوته الجاهر:
- اخرج يا ملعون اخرج
واجتمعنا لنفرق الدرويش عن المختار الذي ابتسم وقال:
- لا صلاة هذا اليوم ..استعدوا انه يوم طويل ..
مع بزوغ الضوء كنا خلف المختار. نحمل الفؤوس والمعاول.سرنا باتجاه نقطة البدء أسفل الوادي..ورفع مختارنا الفأس . ليعلن ساعة البدء.. وضرب الأرض.. فهجم شبابنا يحفرون بسرعة الخلد.. وجلس مختارنا يلف سيجارة قدمها إلى الشيخ عوض ،الذي مد يده المرتجفة وتقبلها يبطئ ,وقبل أن يدسها في فمه.. صفعه الدرويش الذي هبط علينا فجأة وصرخ:
- انه ليس صديقك ..
وخطف معول من احد الشبان وهم بضرب المختار صارخا:
- اخرج يا ملعون اخرج..
مرة أخرى منعنا الدرويش ولكن المختار أمر بطرده من القرية وأهدر دمه..فخرج الدرويش باكيا ورافعا رأسه إلى السماء معاتبا:
- الهي الم توعدني بضيافتك ... الم يحن الوقت بعد.. لا اقدر على تحمل الجيف ..لا اقدر..
وفجأة قطع صمته وانتشل حجرة وقذفها فشجت رأس المختار وهرب ..شغلنا وقوع المختار عن الدرويش وأسرعنا إلى ضماد رأسه الدامي وصوته يحث على متابعة الحفر وكان ريحا كريهة خرجت من انفه وكدنا نمسك بالدرويش لولا صراخ احد الحفارين :
- صخرة كبيرة لا يمكن حفرها ..
أسرعنا نحو الصخرة فاجفلتنا شكلها. وحطت من عزمنا. نظرنا إلى الشيخ عوض. فرأيناه يبلع دخانه بصمت ..التفتنا إلى صوت المختار، الذي تغير فجأة .كأنه مختارنا الذي نعرفه مراقبا الصخرة..
- ما الذي تفعلونه
- نحفر النفق كما أمرت.. أجاب الشيخ عوض
- أي نفق ؟
- النفق الذي سيوصلنا إلى نبعهم
امسك المختار مكان الفج
- ومن فجني ؟
- الدرويش صحن الذي طردته..
وكأن المختار في غير عالم وكأن امرأتي تقول:
- ارايت انه عمل العراف ..
والتفتت المختار إلى الشيخ عوض مبتسما:
- يبدو لا حل إلا حلك.
- فتت الصخرة ..فتتها
أذهلنا يعقوب بحضوره متى وكيف وصل وأدهشنا بحله وتابع مقتربا من المختار
- كنت اعرف بأنك ستستمع إلى مشورتي وستحفر النفق وعرفت بأنه ستكون صخور لذا أحضرت لكم أصابع ديناميت ستفجر الصخرة ستفتتها ..
كساحر سحرنا يعقوب التاجر الذي يزورنا كل شهر.. وساعدناه في وضع الأصابع حول الصخرة وطفقنا نستمع إلى تعليماته
- أعدت ثانية يا ملعون.
كمن أيقظنا من حلمنا التفتنا إلى صوت الدرويش . صرخ يعقوب:
- اقبضوا على ضارب المختار .
لكننا كنا نخاف الدرويش أكثر من المختار. ولكن لا نصغي إليه.وكذلك مختارنا الذي أمر يعقوب بالتنفيذ .
- من يتطوع . هتف يعقوب
- أنا ..كنا نتوقع ذلك انه احمد ..بطل قريتنا وفارسها.
-
ابتعدنا ألف فرسخ عن المكان، وبقي يعقوب واحمد يتلقى التعليمات ..ثم لمحنا يعقوب يبتعد الى الجهة المقابلة.. وسمعنا المختار يردد قول يعقوب سيحدث زلزال كبير علينا أن نحمي أنفسنا.. فتمددنا على الأرض، نترقب بنفاد صبر..وما أن وصلت الشمس إلى كبد السماء حتى دوى انفجار كبير رجت الأرض من تحتنا ولمحنا حجارة تتطاير من مكان الحفرة ..وحين هدأ الصوت أسرعنا نحو الحفرة فلمحنا احمد دون رأس وبلا ذراع ..
وقبل أن نفيق من الصدمة سمعنا راعي القرية يصرخ:
- يا مختار يا مختار لقد نهب أعداؤنا الخرفان..لقد نهبوا القطعان ..
والتفت الشيخ عوض يسأل :
- أين يعقوب؟
أجاب الراعي وقد اذهلته الجثة:
- شاهدته باتجاه القرية المعادية.
نيسان