اللهم لك الحمد أن اصطفيت محمدا صلى الله عليه وسلم نبيا اخترته من بين سائر ولد آدم، وبعثته إلى الأمة جمعاء بأكمل الأديان وأسدها وأصلحها للخلق في دينهم ودنياهم، واخترت له من الأصحاب أكمل الناس عقولا وأقومهم أرواحا وأغزرهم علوما وأشجعهم قلوبا، ومن التابعين لهم وتابع التابعين بإحسان إلى يوم الدين؛ قوما جاهدوا في الله حق جهاده، فأقام الله بهم الدين وأظهرهم على جميع العالمين، فكان لهم خير الجهاد والدعوة إلى الله عز وجل ومؤازرة جهاد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالمال والنفس والولد. وقد قاموا بالخلافة بعد نبيهم خير قيام، فحافظوا على الدين والملة، وحكموا الأمة بالعدل والحكمة، فكانت خلافتهم أفضل خلافة في الدنيا على مر العصور الماضية والأزمنة الحالية..
فيما يلي قراءات صغيرة لبعض المواقف الخالدة لهؤلاء الصحابة والصحابيات رضي الله عنهم وأرضاهم وكذا التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.. نسأل الله غفران الزلل في فهم ما تركوه لنا من أعمال تشهد بالحق في كل وقت وحين..
أبو بكر الصديق رضي الله عنه :
السيرة النبوية الشريفة تشهد أنه استقبل الإسلام مصدقا لما جاءت به تلك الرسالة السماوية بروحه أولا، ليظهر بعد ذلك نبل عزيمة القلب وثباته في خدمة ما يؤمن به بكل ما يملكه من غال ونفيس، تاركا لمولاه عز وجل أمر التكفل بأمور عائلته الدنيوية.. وقد أصابه من العذاب والألم في نصرته للنبي صلى الله عليه وسلم ما لا تطيقه نفس اعتادت على العيش الكريم وعلى المكانة الكبيرة بين تجار القوم وسادتهم، لكنه احتمل كل شيء في سبيل إعلاء كلمة الحق ولا شيء غير الحق..
ورغم أنه قد بلغ من أمر ملازمته للنبي وحظيه باسم "الصدّيق" إلى أن قال صلى الله عليه وسلم في حقه: (لو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر ولكن أخوّة الإسلام ومودته)، إلا أن هذه المنزلة العظيمة لم تنسه أمر الاستمرار في خدمة ما يؤمن به أكثر فأكثر، مضحيا في سبيل الله بكل ما من شأنه خدمة هذا الدين العظيم وإعلاء كلمة الحق فوق كل رأس باطل..
وقد كان رضي الله عنه لين القلب ورقيقه برفاقه وأصحابه، حيث روى البخاري عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : "كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل أبو بكر آخذا بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (أما صاحبكم فقد غامر وقال : إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء ، فأسرعت إليه ثم ندمت فسألته أن يغفر لي فأبى عليّ ، فأقبلت إليك. فقال : (يغفر الله لك يا أبا بكر- ثلاثا). ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر فسأل : "أثَـمّ أبو بكر ؟" فقالوا : "لا"، فأتى إلى النبي فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعّر ، حتى أشفق أبو بكر فجثا على ركبتيه فقال : "يا رسول الله والله أنا كنت أظلم" -مرتين. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (إن الله بعثني إليكم فقلتم : كذبت ، وقال أبو بكر : صَدَق ، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي – مرتين)، فما أوذي بعدها".
كما أنه رضي الله عنه كان أثبت الصحابة وأحزمهم قوة في مجابهة النوازل والكوارث التي مرت بذلك العصر الصادق في الدعوة إلى الله والجهر بالحق في كل موضع..
كما كان رضي الله عنه أعلم الناس بمدلول وفحوى كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث عجب الناس من بكائه يوم خطب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في آخر حياته وقال: (إن عبدا خيّره الله بين الدنيا وبين ما عنده فأختار ما عند الله)، حيث فهم رضي الله عنه أن المخيّر هو رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فعلى صوته بالبكاء وقال : "فديناك بأموالنا، فديناك بأبائنا، فديناك بأمهاتنا"، فنظر إليه الناس شجراً، فقال لهم الرسول : (أيها الناس : دعوا أبا بكر فوالله ما من أحد كانت له يد إلا كافأناه بها إلا أبا بكر لم أستطع مكافأته فتركت مكافأته لله عز وجل).
ومما يدل أكثر على قوة أبي بكر رضي الله عنه عند الشدائد وثباته عند القلق موقفه يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، حين اندهش المسلمون يوم فقدهم لرسول الله وأظلم حولهم كل مكان من المدينة، يومها خرج إلى الناس وصعد إلى المنبر وخطب فيهم بقلب ثابت وقال كلمته العظيمة: "ألا من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت".
وبعد توليه أمر الأمة من بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ارتدّ من ارتدّ من العرب ومنعوا الزكاة، فعزم قتالهم فراجعه من راجعه من الصحابة في ذلك، لكنه لم يزدد إلا تصميما على قتالهم وقال : "والله لو منعوني عقالا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لقاتلهم على ذلك".
وأثبت شدة الحزم أيضا في أمر جيش أسامة، حيث لم يتراجع عن إتمام ما ابتدأه النبي صلى الله وسلم قائلا للصحابة الذين نصحوه بعدم تسيير الجيش لحاجتهم به لقتال أهل الردة: "والله لا أحلّ راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كانت الطيور تتخطفنا".
وقد وصفه علي ابن أبي طالب رضي الله عنه فقال: "كنت أول القوم إسلاما، وأخلصهم إيمانا، وأحسنهم صحبة، وأشبههم برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم هديا وسمتا وأكرمهم عليه. خلفته في دينه أحسن خلافة حين ارتدوا، ولزمت منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم، كنت كالجبل لا تحركه العواصف، ولا تزيله القواصف، متواضعا في نفسك عظيما عند الله، أقرب الناس عندك أطوعهم لله وأتقاهم".
وقد بارك الله سبحانه وتعالى في مدة خلافته ولو على قلتها، حيث سار في الناس سيرة حميدة، ومن بركتها على أمة الإسلام أن خلّف رضي الله عنه على المسلمين بالنص القاطع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه..
من أقواله رضي الله عنه :
"أما بعد، فإني وليت هذا الأمر وأنا له كاره. والله لوددت أن بعضكم كفانيه..
ألا وإنكم إن كلفتموني أن أعمل فيكم مثل عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أقم به. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدا أكرمه الله بالوحي وعصمه به، وإنما أنا بشر ولست بخير من أحد منكم فراعوني. فإذا رأيتموني استقمت فاتبعوني، وإذا رأيتموني زغت فقوموني، واعلموا أن لي شيطانا يعتريني، فإذا رأيتموني غضبت فاجتنبوني لا أوثر في أشعاركم وأبشاركم".
خطبة توليه الخلافة رضي الله عنه
"أين الوضاء الحسنة وجوههم المعجبون بشأنهم ...؟
أين الملوك الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحيطان ...؟
أين الذين كانوا يعطون الغلبة في مواطن الحرب...؟
قد تضعضع بهم الدهر, فأصبحوا في ظلمات القبور ألوحا ألواحا...
النجاء النجاء.
أما بعد فإني أوصيكم بتقوى الله وان تثنوا عليه بما هو أهله وان تخلطوا الرغبة بالرهبة وتجمعوا الألحاف بالمسالة إن الله أثنى على زكريا وأهل بيته فقال (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين).
اعلموا عباد الله أن الله قد ارتهن بحقه أنفسكم وأخذ على ذلك مواثيقكم واشترى منكم القليل الفاني بالكثير الباقي. وهذا كتاب الله فيكم لا تفنى عجائبه ولا يطفأ نوره فصدقوا قوله وانتصحوا كتابه واستضيئوا منه ليوم القيامة.
وإنما خلقكم لعبادته ووكل بكم الكرام الكاتبين يعلمون ما تفعلون...
ثم اعلموا عباد الله أنكم تغدون وتروحون في اجل قد غيب عنكم علمه, فان استطعتم أن تنقضي الآجال وأنتم في عمل الله فافعلوا..
ولن تستطيعوا ذلك إلا بالله فسابقوا في مهل آجالكم قبل أن تنقضي آجالكم فتردكم إلى سوء أعمالكم, فإن أقواما جعلوا آجالهم لغيرهم ونسوا أنفسهم. فأنهاكم أن تكونوا أمثالهم ألوحا ألوحا، النجاء النجاء إن وراءكم طالبا حثيثا أمره سريع".
من خطبه رضي الله عنه :
"اتق الله يا عمر، واعلم أن لله عملا بالنهار لا يقبله بالليل، وعملا بالليل لا يقبله بالنهار، وانه لا يقبل نافلة حتى تؤدي فريضته، وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق في دار الدنيا وثقله عليهم، حق لميزان يوضع فيه الحق غدا أن يكون ثقيلا، وإنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة بأتباعهم الباطل في الدنيا وخفته عليهم، وحق لميزان يوضع فيه الباطل غدا أن يكون خفيفا، وان الله تعالى ذكر أهل الجنة فذكرهم بأحسن أعمالهم وتجاوز عن سيّئه، فإذا ذكرتهم قلت: إني لأخاف أن لا ألحق بهم وإن الله تعالى ذكر أهل النار فذكرهم بأسوأ أعمالهم ورد عليهم أحسنه فإذا ذكرتهم قالت إني لأرجو أن لا أكون مع هؤلاء ليكون العبد راغبا راهبا، لا يتمنى على الله، ولا يقنط من رحمة الله. فإن أنت حفظت وصيتي فلا يك غائب أحب إليك من الموت وهو آتيك، وإن أنت ضيعت وصيتي فلا يك غائب أبغض إليك من الموت، ولست تعجزه".