نص وقراءة : بقلم : د. مصطفى عطية جمعة
الذات الشاعرة تحتوي الكون في أعماقها
قراءة في قصيدة " أعلى قليلا من الصمت الطري "
للشاعر / عبد ربه محمد سالم اسليم
إننا أمام نص ينبئ عن شاعر مميز ، نص فيه الكثير من الاستفزاز والتوهج ، يبدأ الاستفزاز من العنوان : أعلى قليلا من الصمت الطري ، حيث يحيلنا العنوان إلى حالة من الهلامية النفسية والصوتية والمادية الرخوة ، ليكون التساؤل عن ماهية العلو ، الذي سيكتشف بعدئذ في النص بأنه حالة الكتابة الشعرية ، بكل ما فيها من تعقد نفسي وفكري ومادي .
هذه الحالة الإبداعية أو الأدق : صنع الإبداع ، تتجلى في ارتحالك الكوني ، عبر الليل ، والشمس ، والريح والشجر ، فكأنه يستعد للإبداع من خلال تحاور الكونيات في أعماقه ، ومن ثم صهرها في نصه ،
ولنقرأ النص معا ، ومن ثم يكون النقاش
النص : ( منشور في منتدى أنساق الإلكتروني )
" أعلى قليلا من الصمت الطري "
( 1 )
منذ رآني الصمت والليل ينعس في صدري ...
يستمهل قوس قزح
ليجلس على ركبة الناي ...
يغزل جنيات الانتظار ...
يقرأ غرق الريح في أظافري ...
هكذا يتقافز التعب نكهة صدأ ،
ويمعن في كسب جولات الابتسامة أمام الشجر ،
ويتغلغل في نقوش الغياب ...
( 2 )
دخلت حليب الطفولة لأكون أطول من الحداثة ،
وأعمق من ما بعد الحداثة ...
كانت الريح تنتظرني ،
وتهب ضحكة عذرية ...
تداعبني مثل وردة بيضاء ،
وهي تغزل الخيول من شهيق الرخام !!! ...
( 3 )
فتحت الكتابة بريشة جناح هدهد ،
وانطلقت مع العشب الأخضر ...
أزأر مثل عجز التعب ، وأكبر من الروح ...
أمعن في اكتساب الله ،
وصولات من الهذيان أقيمها في محراب القلب !!! ...
أحرق التعب عصافير مشوية ،
وقطرات هيولي
كي أغزل صيامي ابتهالات لزيت الزيتون ،
وفرح سنين ضوئية تبحث لها عن فسحة من خمر وكثيرا من الزكاة !!! ...
( 4 )
خطواتي تشبه شجرة الكينيا ، وأنا أطعن البحر بالرمح الأبيض
لأخترق شرفات الهيولي ...
( 5 )
عشق يمرغ الغيوم في حضن حنجرتي !!! ...
ما أقرب جسدي إلى السماء ،
وما أبعده عن الغربة !!! ...
وفوضى اللغة !!! ...
يتمحور النص حول : تلك الحالة الملتبسة التي لا تزال غامضة في أعماق الشاعر ، حالة التجلي للشاعرية ، حينما تنطلق لآفاق رحبة ، وتمسك اليد القلم لتعبر عن هذه الآفاق . هذه الحالة التي حيرت الباحثين والنقاد والشعراء ، والجميع يدور في فلكها ، أملا في سبر أغوار كنهها ولكن هيهات ، فهي حالة من الشيطنة كما يراها الشاعر الجاهلي قديما أو التوتر النفسي كما يراها باحثو علم النفس المعاصرين ، أو الإلهام كما يراها الشعراء أنفسهم ، أو الفيض كما يراها الصوفيون ، والجميع يتفقون أنها حالة تجمع ما بين الجسدي / الدنيوي ، والسماوي / التحليق النفسي وفي هذا النص ، يوضح " عبد ربه " كيف أنها حالة كونية ، في تجل جديد ، كونية تلتبس الذات الشاعرة ، فيخطو الشاعر في النهاية إلى الأرض خطوات بمساحة الأشجار ، ويتعارك مع البحار .
فيقول :
منذ رآني الصمت والليل ينعس في صدري ...
يستمهل قوس قزح
ليجلس على ركبة الناي ...
يغزل جنيات الانتظار ...
يقرأ غرق الريح في أظافري ...
هكذا يتقافز التعب نكهة صدأ ،
ويمعن في كسب جولات الابتسامة أمام الشجر ،
ويتغلغل في نقوش الغياب ...
لا يمكن أن نتعامل مع هذا المقطع وغيره من المقاطع من كونه صورا مركبة ، وإنما هو مقطع شعري متكامل ، ينقل حالة التجلي الكونية عند الإبداع ، ورغم تعقد الصورة من خلال الإضافة في : ركبة الناي ، ونقوش الغياب ، إلا أنها تنقل لنا حالة التجلي ، عبر التمعن والتغلغل اللذين يسبحان في الذات الشاعرة .
ويأتي المقطع الشعري الثاني معبرا عن جوهر الإبداع من خلال هذه الحالة الشعرية ، حالة صنع الكتابة ، أو بالأدق الوقوف عند عتبة الإبداع، وهي حالة حار فيها الكثير من الشعراء ، وهنا تنقلب على السابقين ، من خلال الكونية التي جمعها في أعماقه ، وبانت في تأمله الذي يريد احتواء الشمس والريح .
* * *
ثم يعرج في المقطع الثاني إلى الأرضية ، فيقول :
فتحت الكتابة بريشة جناح هدهد ،
وانطلقت مع العشب الأخضر ...
أزأر مثل عجز التعب ، وأكبر من الروح ...
أمعن في اكتساب الله ،
وصولات من الهذيان أقيمها في محراب القلب !!! ...
ما أروع احتواء الأرضية عبر : مكونات وجزئيات الأرض : جناح هدهد ، عشب أخضر ، ومن ثم الهذيان الإبداعي في القلب ، وقد يتحفظ البعض على " اكتساب الله " ، ولكن أراه تعبيرا موظفا في النص بدلالة إيمانية سامقة ، أكدها تعبير :وصولات من الهذيان أقيمها في محراب القلب !!! ... ، فاكتساب الإيمان الإلهي أساس لصلاة من أعماق القلب .
أحرق التعب عصافير مشوية ،
وقطرات هيولي
كي أغزل صيامي ابتهالات لزيت الزيتون ،
وفرح سنين ضوئية تبحث لها عن فسحة من خمر وكثيرا من الزكاة !!!
التعب : ناتج عن محاولات الكتابة ، تعب الذات المبدعة ، وهي تتأمل السماء والأرض ، وتغوص في القلب ، وهي تسعى للظفر بسنين ضوئية دلالة على الانطلاق الإبداعي في أعماق نشوة الخمر ، والخمر ليست إدانة لكونها خمر ، وإنما رمز لحالة النشوة التي تعتري الشاعر عند فوزه بالنص . وهنا نسجل للشاعر كيف أن الألفاظ اكتسبت دلالات جديدة تجاوزت الدلالات التقليدية لها ، فالخمر : نشوة التجربة الشعرية في اكتمالها ، والزكاة : هذا الفيض الذي تغرقنا به الذات الشاعرة عندما تتعملق الكون ، وتريد نشر الخيرات لكل البشر .
يقول :
خطواتي تشبه شجرة الكينيا ، وأنا أطعن البحر بالرمح الأبيض
لأخترق شرفات الهيولي ...
هذا المقطع ناتج العناء والتعب ، فقد امتلكت الذات الشاعرة السماء والأرض ( الكونية المطلقة ) ، مع إيمان بالله العظيم . فكانت الخطوات عالية الوقع : حيث صارت الخطوة في مساحة شجرة الكينيا ، وصار الشاعر طاعنا البحر ، ولنتخيل هذا التعبير الكنائي ( من الكناية ) ، لنعرف إي مدى وصلت الذات المبدعة بعدما غرفت الكونية في أعماقها.
يقول :
عشق يمرغ الغيوم في حضن حنجرتي !!! ...
ما أقرب جسدي إلى السماء ،
وما أبعده عن الغربة !!! ...
وفوضى اللغة !!! ...
العشق : رمز لقطوف الذات المبدعة ثمرات القصيدة ، وقد دلت " حضن حنجرتي " على أن القطف إنما هو قطف شعري ، وشاعري ، وتأكد في هذا المقطع كيف أن الشاعر صار كونيا " ما أقرب جسدي إلى السماء " ، وكيف صار منتميا للشعر ، وللإيمان الرباني ، وقد برهن على ذلك بقوله:
" وما أبعده عن الغربة !!! ...
وفوضى اللغة !!! ... "
* * *
هذا نص ليس سهلا ، لا يسلس قياده بسهولة ، ولكن إن تعمقناه سندهش من كيفية استيعاب الذات الشعرية للسماء والأرض ، بكل جزئياتهما ، وتفصيلاتهما .
نص يتحدى ، والتحدي حافز للعقل ، والفؤاد .