الشاعر الكبير عريان السيد خلف
ولد الشاعر عريان في قلعة سكر من توابع محافظة ذي قار العراقية وقد بدأ نشر قصائده في مطلع الستينات وقد عمل في الصحافة العراقية والاذاعة والتلفزيون ويكتب الشعر باللهجة الشعبية والفصحى ويعد من الشعراء المخضرمين في العراق، له عدة دواوين نذكر منها ( الكمر والديرة- قبل ليلة- صياد الهموم- اوراق ومواسم- تل الورد- شفاعات الوجد).
قرأة في قصيدة يا وطني الموشوم بالقنابل
الشاعر يتألم، يتعذب،يموت،توجعه ذاته، ومحيطه يدخله في اتون الظلمة، يدمى، وتثقب قديمه الاشواك، وتهجره الاطياف، وينسى طعم الراحة، ويسجن خلف قضبان لاتهد، يرى الموت ينكسب حوله من كل صوب،ينام على صوت الرصاص ، ويستيقظ على صوت المدافع،فيعرف طعم البؤس حتى يرفض البؤس،ويعرف ضراوة التعذيب حتى يرهص بالسلم،وفي نفس الوقت يميت حجيرات جلده حتى اذا الهبته السياط يظل فقط يصوغ الكلمة الشعرية دون ان ينشغل بتحسس الاوجاع ،وهكذا تاتي كلمته مضيئة، خارقة، وهذا ما نلامسه في حروف وكلمات شاعرنا عريان السيد خلف،حيث اوجاعه التي تتسرب الى اعماقه من خلال اوجاع الوطن جعلته برغم حجمها وفضاعتها، ان يرسم الحرف باصرار عجيب، حتى بدا لنا بان الوطن صار فيه ومنه ما لم يصر غيره ولعل العنوان يظهر لنا ما قلته انفا كون الوشم علامة لاتفارق الانسان فكيف بوشم شاعر صنعته القنابل في صدره، ولننظر معا الى ترنيمته التي بدأ بها قصيدته هذه:
يا وطني الموشوم بالقنابل
يا وطن الاشجار و الانهار و الجداول
يا وطن الاديان و الايمان و التساهل
يا وطن الاشعار و الاصرار و التفاؤل
يا وطن الايتام و الارامل
يا وطني المقتول و القاتل!
من خلال نظرة سريعة منه للوطن وتاريخيته يظهر لنا جليا بان وطنه هو ليس بوطن عادي انما هو وطن يحوي تحت كنفه كل ما قد يفكر به المرء، الاشجار والانهار والجداول،حيث الطبيعة التي تجذب القلوب والانظار، وفي دلالة واضحة على الوطن الذي لايتجزأ من شمال ووسط وجنوب،يبدأ العريان قصيدته، ومن ثن لينقلنا بصورة سريعة، الى الوطن الذي فيه القيم، والقيم التي هي موجودة اصلا من اجل الانسان، حيث القيمة العليا في الوجود،فبعد رحلة سريعة بين احضان الطبيعة واظنه بدأ بها ليجذبنا الى مغارات النص الاخرى،نجده يوضح لنا بصورة جلية ملامح هذا الوطن ، كونه وطن فيه تجلت الشرائع ومنه انبعث صور الايمان والتسامح، وكذلك هو الوطن الذي فيه الانسان مارس منذ البدء التعبير عن مكنونات ذاته من خلال الشعر، ووطن اصر على البقاء بالرغم من ان التاريخ يوضح لنا منذ عصور بدء التاريخ كيف انه كان محل صراعات دموية، وكيف اصر الوطن ان يبقى ويتماسك، ويغرس التفاؤل( مع اني لست مؤمنا بالتفاؤل هنا)، والسبب بدا لي واضحا لانه وطن فيه الانسان لايخلف الا ايتاما واراملا، وطن فيه القاتل والمقتول سيان، لانهما معا يخسران رونق وبهاء هذا الوطن، وكأن كل ماقلنا وذكرنا لايعد الا وشما على صدر الانسان قبل الوطن، وشم عملته السيوف في البدء والقنابل الان.
إنزف صبر يا وطن ... بيّة الك ميّة جرح
كلما يهيد الألم ... بجروحي أذرّ الملح
أفديك يا وطني لو مية مرّة أنذبح
و أشرب نخب هيبتك ... من المسا للصبح
مثلك محب ما إلي ... و مثلك جرح ما يصح
يا رمح بضمايري لا خطة و لا صابني
گلبي على وطني
گلبي على وطني وي رشفة الفنجان
و بكل تحية صبح من حايط الجيران
لو ما انت يا حيرتي ... ما كان كل ما كان
من غير أرض و أهل ما قيمة الانسان؟
بس يا خسارة الاهل
من حط رحالة الجمل ...
وياك علو الجبل
و لارخص علج اجنبي تتخضّع و تنحني
في رثائية واضحة نجد الشاعر هنا ينوح على ما آل اليه الوطن جراء حروب بدأت منذ عهود قديمة واستمرت لعهود معاصرة وباقية في ظنه وظننا لعهود آتية، ومشاعرالشاعر هنا تبدو جياشة وكأنه يستمد عزيمته من التاريخ نفسه فيلجأ للصبر ويطالب الوطن بالصبر حتى اذا تكاثفت عليه الجراح واوهنته الالام، وهنا نرى الشاعر يلجا الى وصف بليغ وجميل، بقوله بجروحي أذر الملح، حيث الوجع الذي يخلفه ذر الملح على الجرح صار هنا مطلبا في اظهار مدى صعوبة الامر بالنسبة له ولنا،لذا ليس له الا ان يناجي الوطن وويعلن ولاءه التام له حتى لو تطلب الامر ان يفتدي هو بنفسه، ليبقى الوطن بهيبته وعلوه وكأن الوطن هو حبيته الاولى والاخيرة، ومثلما يحافظ العاشق على محبوبته هياما وحبا وعشقا واراحة للضمير وللوجدان، نجد العريان يستحضر الوطن في جلسات القهوة الصباحية، وفي جدران الجيران، ومعها يستحضر قيمة الانسان التي تدنت بفعل الانسان نفسه جراء تخاذله عن وطنه، فيؤكد بان الانسان هنا لاشيء اذا لم ينتمي الى ارض ووطن وكأن قيمة الانسان تتوقف على الارض، ومنافيها من خلال رؤيتي الشخصية لاتي تقول بان الانسان قيمته تكمن في انسانيته لا في وطنه، لكن بلاشك هذه الرؤية للشاعر دلالة على مدى تعمق الوطن في ذاته بحيث اصبح لديه الوطن الانسان الانسان الوطن، اذن فهو يراه شموخا ان يحب الانسان وظنه، ويرى بان مجرد السماح للاجنبي بالتدخل في امور انحناء ورضوخ وكأن الجبل بنفسه ينحني امام العدو وبرخص.
گلبي على وطني
گلبي على وطني وي كل سحابة تفوت
و عن كل بطل ما بخل فوك التراب يموت
و عن كل دمع من يشع عالخد يكع بسكوت
و عن كل گمر لو ظهر ... و بحزن روحي انتحر
و الطير فوگ الشجر
ينشد بأعذب صوت
الماي من ينغلي من لوعتة يغني:
آنه أنچوي ابطيبتي و كل حي طلع مني
گلبي على وطني
أهواك يا وطني لو جنتك ناري!!
و انزفلك الدم شعر و اهديلك اشعاري
هذه الرثائية تستمر هنا وتصل الى مرحلة اكثر تهيجا،وهذا التهيج الوجداني يبرر ما يراه الشاعر من خلال رؤيته للارض والوطن والانسان، حيث نراه يتوجع على الوطن بصورة درامية ملفتة للنظر،حيث يرى وجعه في كل ما حوله من سحاب وتراب والمدع والقمر والشجر..وليس هو وحده من يتألم بعذا الوطن هذا، انما الالم يتسرب الى كل ما حوله من اشياء، فالذي يفدي وطنه ويريق دمه على ترابه اكيد انه ينقل الالم هذا الى التراب نفسه، وهذا الراحل يخلف وراءه الادمع التي تسال عليه فيصبح الالم عنوان من يذرفها وعنوان الدمع نفسه،حتى القمر يظهر حزينا، والطير ايضا فتصبح الحانه حزينة، والماء نفسه يصبح هائجا،وهكذا يتحد كل شيء في الانسان من اجل الانسان والوطن،فتصبح نيران وموت ودمار الطون جنة في نظره، وكان الشاعر يريد اقناعنا بصورة مثالية على ضرورة الصبر ذاك الهدف الذي بدا به القصية.
كل يوم نگعد سوة و احچيلك اسراري
تفگدني من ابتعد و تزورني بداري
و أبچيلك بلا دمع و اشرحلك الجاري
معذور من سرني
و معذور من لامني
هنا نلامس تحولا سريعا في مسار القصيدة بحيث يصبح الوطن لدى الشاعر الرفيق والصديق الذي يسر اليه اسراره ويعاوده في داره فيكشف له الشاعر اعماقه ويحاول بحضرته وهيبته وعلوه ان يخفض الجفن ويمنع الدمع حتى يجنبه الاذى جراء دمعه، ويتحدث اليه عن ما يحدث فيه وعليه، ولايخفي على رفيقه هنا ان الانسان ليس كله يحمل الرؤية ذاتها لذا فهو يعذر الاخرين على رؤاهم.
گلبي على وطني
گلبي على وطني الكل عمري چان الاهم
أسگي بمي دمعتي و يسگيني كاس الندم
انطيتة حلم العمر و انطاني جنّة وهم
و آني مثل ها البشر .. هم روح دم و لحم
و ما ضعف حبي الة
و لا غيرت مسكني
هنا نرى القصيدة تتخذ مسارا اخرا تماما فمن لاشكوى له ومجالسته، اصبح العتاب يظهر جليا،فالشاعر بالرغم كون الوطن لديه الاهم بلا منازع، الا انه اصبح مدركا بان الوطن ذاته لم يعد يبادله الشعور نفسه، لا لان الوطن يرفضه او يمنعه من محبته، انما لكون الوطن اصبح لايقدم له الامان والحب الذي يبغيه، فهو يناجيه ويقول له بانه انسان من لحم ودم لذا فهو يتالم اذا لم يجد الحض الدافئ الذي يحضنه، والوطن حبيبته الاولى والاهم لم يعد يسع حضنه له لانه صار مقبرة علنية لكل طفل وام ورجل وشيخ وكل جميل،لذا فهو عتاب مشروع ومبرر بلاشك، لانه نابع من الحب نفسه، وهذا ما جعل شاعرنا يعود ويوضح صورة عتابه حتى لايدخل الشك في قلوب الاخرين والوطن نفسه، فيقول على عكس البعض ان حبه ازلي وباقي للوطن، وانه بالرغم من الموت الذي اصبح في كل مكان في الوطن لن يغادره لن يتركه ، لن يخذله، انما هو باقي فيه لانه مأواه ومسكنه.
گلبي على وطني
بالحرب شلتك نبض من ساتر لساتر
و شربتك بخوذتي من حبك الطاهر
تغفى على سبّابتي و يبقى الگلب ساهر
و من ضاگ بية الوكت انطيتك اخواني
كلما تذبّل گمر ... تطلب گمر ثاني!!
لا جيت عزيتني ... و لا شاركت حزني
اشكيك يا منيتي لو تشتكي مني؟
گلبي على وطني
گلبي على وطني گلما تدگ صافرة
و كلما قذيفة غدر تنطلق من طائرة
و عن كل طفل منذهل و عن نظرتة الحايرة
و كل قنبلة لو اجت و بارضك تفجرت
اتفجّر لحالتي و بچفوفك اتناثر
احزانّة صوغتك و أيامنة إمكابر
و بس الحزن و الالم من شجرتك ينجني
گلبي على وطني
گلبي على وطني و باچر يرشني الفرح
تحت السما الحالمة و اضحك بكل المرح
انسة الجرح و الالم و احرگ اوراق الندم
و معذور ذاك الوكت لو بي ضحك سني
وها قد بلغت الرؤى نهايتها واوصلته الى الجهر باوضاع الوطن الحالية بل التي عاش عليها منذ امد طويل، الحرب التي لاتنتهي ابدا، وصور الموت والمدار التي تلاحق ذهن الشاعر، والمآسي التي تلاحقه اينما ذهب واينما ادار بوجهه، وهو مع هذه الصور ثابت بل ومضحي ايضا، فهو يسهر في صومعته من اجل الدعاء له، وعندما تطلب الامر اكثر من الدعء قدم اخوانه قرابين له،وهو يردد في نفسه فقط ابقى سالما شامخا ياوطن ولااريد منك حتى العزاء، بل وتعدى هذا التوحد بالوطن الا كون بالرغم من فقده لكل شيء لايريد ان يشكو لاحد ومستعد لان يستمع لشكوى وطنه، وبعده يعود مباشرة الى اظهر الصور المكثفة لظروف الوطن وماآلت اليه الامور جراء الاحتلال، وكذلك ظاهرة القتل التي تفشت في الوطن، وصوت القذائف والانفجارات التي علت اصوات الانسانية المكبوتة داخل اقفاص مكبلة،وكل هذا لايخلف وراءه الا حزنا عميقا في نفسه بحيث لم يعد الحزن منه مجرد حون انما اصبح يتالم باشياء منها الحزن، لكنه لم يكن سوداويا في رؤيته للنهاية، بل نهايته اتت كما هي متوفعة نهاية تبشر بانكسار القيد، ذات يوم قريب، باشراقة شمي وانجلاء الليل، بانهاء حقبة الموت المنظم والمستمر فيه والغير مبرر،فها هو في النهاية يبشر بالفرح القادم في الايام القادمة، وحينها ينسى كل الامه واوجاعه وعذابه، وحتى لحظات الندم التي داهمته ينساها، لكنه يختم القصيدة ببيت جميل وكأني به يقول بان الومن لاينتظر احدا ليرى فرحه تاما، لانه حين اذا ما طال الامد ولم يات يالفرح، واتى في وقت بعيد اخر فان يطلب من لاوقت نفسه العذر اذا ما كان عمره حينها لم ينتظر، فاصبح هرما لايقدر ان يظهر فرحه بالصورة التي تليق بالوطن والوقت.
محبتي لكم
جوتيار