كانت قدماه تلتهم عتبات السلم نزولاً حين ألقى عليهما بنظرة خاطفة لكنها من النوع الذي يشفر العقل باتجاه معين في لحظة واحدة ، كان الأمر في عقله أشبه ما يكون باندفاع تيار كهربائي بشدة عشرة آلاف أمبير إلى مصباح صغير لايتحمل أكثر من 10 أمبير، فكر في أن يلتفت إليهما مرة أخرى ليتأكد مما رآه، لكن نظرته اللامبالية مضافاً إليها كبريائه الطاغي أبتا عليه الالتفات للوراء، تلك النظرة اللامبالية كانت تخفي وراءها أطنانا من الرغبة وخطواته الثابتة جدا على خط مستقيم والتي توحي للوهلة الأولى بالتماسك والسيطرة على الموقف جعلت من المستحيل عليه الالتفات لأي سبب.
توقف على بعد خطوات وأرخى الحقيبة جانباً لتمتد يده بسرعة إلى نظارته كي يمسح عنها الضباب المتجمع بفعل الرطوبة ، لم يكن مدركا على وجه الدقة ما إذا كان يريد أن يمسح الضباب من عليها أم أنه يحاول مسح ما رآه للتو من ذاكرته.. أتراها تكون هي ! خطر بباله: " يا الله! كم هو مؤلمُ أن يثق أحدنا بنظاراته أكثر مما يثق بعينيه!! مؤلم حقاً، والأشد إيلاماً أن يثق بعينيه أكثر من ثقته بقلبه وحدسه."
مرت لحظات عدة وهو يتشاغل بتنظيف عدسات نظاراته فيما فكره منهمك بالكامل في عرض تفاصيل المشهد..لينقض عليه السؤال من جديد؟! أكانت هي؟.. كأنها هي , لا فالمكان مظلم ومرتفع وهي كانت تخاف الظلام وتحب أن تبقى قريبة من الأرض ..كانت دائما تهزأ من خوفها من المرتفعات بالقول ضاحكة: " اتق شر من اقترب من الأرض" وكان يتساءل أي شر يمكن أن يضمره قلبها الصغير!!
ثم إن هذا الذي معها لم يكن أبدا من النوع الذي يمكن أن تفضله في يوم من الأيام، فأمارات الغباء تبدو شديدة الوضوح على ملامحه بحيث لا تخفى إلا على من هو أشد غباءَ منه..وعيناه جامدتان لا اشتعال فيهما، تماما كمنفضة سجائر يمكن أن تطفيء فيهما عشر "سيجارات" كل يوم دون أن يساورك أدنى شعور بتأنيب الضمير، حتى ابتساماته التي كان يوزعها بسخاء في كل اتجاه كمن يعلن انتصاره العظيم في معركة لم يكن فيها سواه، تلك الابتسامات كانت تنم عن بلاهة وعتهٍ شديدين!! .. ترى أي تغير اعتراها جعلها تقدم على هكذا حماقة باختيار هذا الرجل بالذات! قفزت إلى ذاكرته جملة كان يرددها على مسامعها كثيراً: " الناس تتغير والأذواق تتغير...لاشيء لا يتغير، التغيير هو الثابت الوحيد كما يقول هيجل" وتذكر كيف أنها لم تكن تعرف من هو هذا الهيجل تماما كما لاتعرف كيف تتغير، حسناً هاهو يقف الآن أمام اللحظة التي ينقلب فيها السحر على الساحر، ربما أخطا هيجل هذه المرة ولكنه لم يتخيل يوماً أن يتغير ذوقها إلى هذه الدرجة أقنع نفسه على مضض بأن ذوقها لم يتغير بل اختفى بالكلية!! ومع ذلك فقد فشل في أن يقنع نفسه بأنها قد تغيرت فهي ليست ككل الناس تلك الطفلة التي عرفها يوماً صارت مسخاً دميماً لا يخاف الظلام ولا يهتم كثيرا بالابتعاد عن الأرض، فقط لايمكنه تخيل ذلك.. قفز السؤال إلى مقدمة رأسه مجدداً " أتراها كانت هي!! ماذا لو ألتفت للوراء قليلاً!" أستطيع أن أتظاهر بأنني نسيت مفاتيح سيارتي وبأنني عائد لآخذها لكنه تراجع عندما تذكر ذكاءها الحاد! حسنا استطيع أن أقف مكاني هنا لأتبادل مع حارس البناية أحاديث فارغة في السياسة والأدب ريثما يعودان،هذه الفكرة أيضا تبدو غبية كسابقتها.
" الأمر كله متعلق بالالتفات قليلاً إلى الوراء بكل بساطة نظرة واحدة إلى الوراء وينتهي كل شيء هذا.. لكن يبدو بأنني نسيت فعلا كيف يكون الالتفات إلى الوراء" لاحظ بأنه استغرق وقتاً طويلاً في دعك عدستي نظارته فتوقف فورا وأعادها لأنفه على أمل أن تعيد له شيئاً من توازنه المفقود. ثم مضى إلى الأمام جداً وبنفس الخطى المستقيمة جداً.. فهي لم تعد هي