أكتبُ لكِ في هذه اللحظات والقلمُ في يدي ضائع شارد ،لقد اختلطتْ في عينه الجهاتُ فلم تعد ستاً وإنما زادتْ فخرجتْ عن حصر العد ،وذاك لا لشيء إلا لأنَّ قَدَرَك في حياتي خارجٌ عن نطاق المحدود والمعلوم والمرسوم،فالجهات كثُرَتْ واتَّسعتْ لاتّساع هيمنتك فوق ساحة عمري ..ولم تكن مبالغةً مني أنْ أصفَها كذلك بل هي قدرةٌ مني يكْمُن تفوُّقها في إمكانية وصفها ،والحديث عنها.ووصفُ المشاعر فوقَ رسْم الحروف ،ورُتَبِ الأفكار ،وما سألت عاشقا مرة عن مقدار ووزن وطول وعرض وكمية وعدد ما يجد ويُكِنُّ لمحبوبة إلا ردَّ علي قائلا: لا أرى المقادير قد وُجِدتْ إلا بعد وجود حبِّ مَنْ أهوى في حياتي ،وما ا لمقاديرُ إلا نِسَبٌ لمحدودٍ ،وحبي لحبيبي فوق حدّ المحدود.
أكتبُ لك –يا ظلوم- ما قلتُه لكِ سابقا ،وأكتب لك ما أنت به عالمةٌ سلَفَا ،وأكتب لك ما يَجمعُ الأزمنةَ في زمان واحد وهو الجديد المعاش ،فأنتِ أنتِ لم يَحْمِلك الماضي في طيَّاته العتيقة ،واعتَذرَ عنك الآتي في جديده المغيَّب ،لأحملك حاضراً ملازما لي لا ينفكُّ عني حتى أنفكَّ عنه مفارقا ميتا..فأنت وإن كنتِ الماضي والحاضر والآتي ، إلا أنَّ استطعامَ حبِّك في فمي ، وجريانه في عروقي جَمعَ الأزمنةَ في الواقع المعاش.وكأنكِ بذلك تحجُبين بواقع قدَرِكِ في حياتي كلَّ زمان أتى أو لم يأت ،يا حاضرا في ثلاثة ،وثلاثة في حاضر واحد.
وما سأكتبُه لكِ اليوم يجْنحُ بي في عواصف المتناقضات ،فإذا بي كالقابض على الماء وليس بقابضٍ ،وكالغادي بين جنة ونار لا يستغني عن إحداهما ،وكالريشة تحلق في الفضاء وليس ثمةَ أرضٌ لها ولاسماءٌ...فأنتِ –ياظلوم-أجملُ من رأيتُ ،وأظلم من عاملتُ،وأقسى من لاطفتُ،ومع كل ذلك أنت أحبُّ من عرفتُ ،بل أعرف من أحببت...ويحك! كيف لي بحرية التنقل بين هاتيك التعرُّجات !!وأي وصف سأستقر عليه ومباعدة أوصافك ضاربةٌ في عمق الزمن ،أصغرُ مسافة بين الواحدة والأخرى كأكبرِ مسافة بين النفي والإثبات،فالله الله فيمن ابتُلي بما ليس من وجوده بدٌّ ،وليس عنْ محيطه مهرب.
حبيبةَ روحي أيتها الظالمة..أنا ههنا على عهدي الأول ،وحبي الأول.. قُدِّرَ لي أنْ ألزمَ بابا مغلقا ،والمفتاح ضائعٌ في عرض صحراء واسعةٍ ،ألقتْ به يدُك هناك ،ثم ألقتْ بي وراءَه لأبحثَ عنكِ ،فالبحث عنك نشوةُ عقلك ،وراحةُ أساريرك، ناسيةً متجاهلةً عرضَ الصحراءِ وطولَها ،وكأنك بذلك الأمر تغسلين يدي من آخر لمسة رجاءٍ فيك ،وكانت الصحراءُ اختياراً موفقا لك ،مهما كان معذِّبا لي.. لعلمك أن الصحراءَ موطنُ السراب العارض ..ولو قلتُ لك إنَّ المنال مفقودٌ بلا رجعةٍ لما أصغيتِ البتةَ إلا لرجْع ضحكاتك على أشلاء قلبي ..ويحك ! لا ترحمي قلبي بل ارحمي وجودَك الماثلَ فيه، وارحمي حبك من تمزيق سكينك فهاهو باسطٌ فيه جسماً راكزُ فيه علَما ..قلبٌ أحبك فداوى جراحَك فيه بك ،وليت شعري أيُّ فرقٍ بين الداء والدواء ! إذا كان داؤك أخفَّ بكثير من دوائك.وبُعْدك أحنى علي من قربك ،وقربُك أحنى من بُعْدِك، والقدَرُ الذي غيّبك أتى بك مسلطّةً على ماتبقَّّى من رفاتي ..فهل أهنئكِ وأبارك لك ؟ أم هل أتقلب كلَّ يوم أمام عينيك لتقرئي قبيل نومك قصة معذَّبِك ؟وتُديري أنغامَ معزوفة على صوت التمزق في خلَدي.
وكفاكِ ظلما –"يا أعدل الناس إلا في معاملتي"- أنْ تريْ فيّ أكبرَ الخصومِ لك ،وأنت موقنة أنني أغرق الخلق في محيط حبك ، وما رأيتِني كذلك إلا لعلمك أن طريق الظلم لا يكْمُل إلا بإيقاع الظلم مني عليك زورا وهو من مستحيلات الأقدار .. ولو صُدِّقَ قولُك مهما صُدِّق لكذَّبَه وَجِيبُ قلبي الذي سمعتِه يوما وهو يُصَبُّ في أذنيك صباً ، ولكذَّبتْه دموعي الصائرة ُ على مجرى سَحِّها قربةً ضاع وكاؤها ،ولكذَّبه شُحوبُ جسمي من شدة الشوق ووطأة الضنى ،ولكذبتْه الليالي تلك التي تقضّتْ ذاهبةً راجعةً بين نظرة في أثرٍ ،وأنَّةٍ في ولَهٍ،وتقليبٍ في صفحة نُقشَ فيها اسمُك الغالي .لله كم أنتِ في قسوةٍ معاذ الله نعهَدُها في شيء ولو كان صخرا أصم صلدا ،ولله كم أحبُّك حبا لا يسعه لجبروته إلا مجاهيل ظلمك ،يا مَنْ أُحِبُّكِ بقدْر ظلمك ،فلا الحب يفنى ولا الظلم يزول.
والآنَ- وبعدَ مضيِّ قدرٍ،ورغم عذابي في هواك المستمتعة به تفكُّها وتلذُّذاً-أقول لك :إنَّ مبلغ ماتبقَّى لي من كينونة ذاتٍ حملني اليوم على هجرِك وأنا يكاد الشوق يفتك بي،وعلى تجنُّبك وحبك يسري في مفاصلي كسيل العرم ..فاذهبي ،واحذري إرسال نظرة إليَّ ،وتلك هي رسائلي وأشعاري أشعلي بها ليل ظُلْمك وظلامك،ولا تكرميها بلحظة تأمل فما كان فيها تسرّبَ في ضلوعي ،ثم تسرّبَ من ضلوعك .