يانجية القمر... هاأنا أترك الدنيا بماحوتْ في شرود شارد،وهروب حالم ،أقف أمام قرصه المستدير ،وهالته الناعسة ،وبريقه اليقظ،تردني إليه ذكريات الصبا اللاهية العابثة ،وتلقي بي في محضن نوره هواجس الإلهام المستفزة،لقد حلا القمر الليلة فما أشبعتُ من حلاه نهمي ،وتكور في ناظري يحاكي وجه محبوبتي مرسلا قسمات الحياة واحدة تلو الأخرى...استدار فعاتب ،واستدار ثانية فرحم من وقع العتاب ولذعه ،واستدار ثالثة فأخذني أخذة سماوية عليا فوق مس القدم ،وحبو الأشباح ..
يانجية القمر ..أبى الليل إلا أن يخلق من سواده نهار المحاسن الساطع في بدره العالي،فأراني كل مامضى ،واحتواني في خباء الحاضر ،وكاد يخترق بي الحجب إلى عالم الآتي..ومال إلى الماضي بي ليريني كم هي الذكرى أصيلة متينة الجذر لا تغيبها العوارض مهما داهمت سكونها الأبدي التليد..الليلة أراني- يا نجية القمر- ذلك الطفل الصغير النحيل العابث بالدنيا قبل أوان عبثها به،الهائم في مساحات لا أُطُرَ لها إلا تلك الأسوار التي يبنيها الأطفال حال لعبهم ثم يميلون عليها بعوامل الهدم دون ما اكتراث للوم أو مساءلة ..ألا ما أغربها من دنيا لا تستحق منا إلا معاملة الأطفال السائرة بين بناء وهدم..
إيه يا سراج الملكوت الليلي ،ما أبين مابين الحياتين ،حياة نقلتني إليها وأخرى نقلتك أنا إليها رغم إبائك وعزتك ...بربك هل بدّلت الصروف إهابها؟أم هل غيرت الطارئات ملامحها ؟ كلا فما هي بالعرض السريع ،ولا الغشاء الواهن الخفيف ،وإنما هي أصلي وطفولتي ،ومربى أحلامي الصغيرة ..
عجبا لحالي معك وأنت مَنْ نظر إليَّ ساعة لعبي نظرة من قَرَّتْ عينه ، وابتهجتْ أساريرُه، وأرسل على تورُّد الشفتين ابتسامةً قمريةً علاها وشْيٌ من رضا ،ورسمة من إقرار،ولمحة من حب ،ووخزة من تخوف...أما وشي الرضا فقرأته من محياك سطرا يعادل براءة طفولتي حينها،إنه بحجمها ،ومن جنسها ،ينزل من عليائك –أيها القمر-إلى حيث أنا فوق بساط من ثرى ،وحصباء..وأما رسمة الإقرار فأبديتها رسالةَ موافقةٍ جعلتْ من عبثي نظاما ،ومن لعبي ومرحي شريعة معتدلة سيرا وقواما ..وأما لمحة الحب فأرسلتها لي رسولا قلبيا يداعب شغافه لتعلمني أني ورغم صغري ذلك السر الدفين والمعلم الأكيد لحقيقة الحياة.