جَدّي وحَلْوى الْأَطفالِ*
تَصَدَّعَتْ جُدْرانُ الصّبْرِ ، وأنْتَ ماثِلٌ أمامي أَعُدُّ تَجاعيدَ وَجْهِكَ التّي حَفرَها العُثْمانيونُ والفِرنْسيونَ وحَصادُ القَمْحِ، فقدْ عارَكْتَ الاِنْتظارَ مائةَ عامٍ ونيّفٍ(1) ... اخْتُصِرَتْ بِشَهْقَةٍ ، تَمُرُّ الثّواني وأنا أُحاوِلُ تَهْجِئَةَ أعْوامِكَ تِلكَ في دفْتَرِ الْغيابِ ، فَكَمْ نَبْضَةً نَبَضَها قلبُكَ في مائة عامٍ ونَيّفٍ ... يا رَجلاً أورَقَتْ في روحِهِ أزْهارُ الْيَقينِ...
عَقَدَ الْحُزْنُ عَزْمَهُ ،وشارَكَتِ الْعَيْنُ الْقَلْبَ بُكاءً خاشِعًا ... فَقَدْ شاءَتِ الْأَقْدارُ أنْ تَصْطَفِيَ هذه اللّيْلَةَ لِتَكونَ مَوعِدًا لِوداعٍ عَظيمٍ ...فَقَدْ تَناهى إلى مَسْمَعِ الْوَقْتِ رَحيلُكَ ، في هدوءٍ مِنْ عَقارِبِ السّاعَةِ، حينَ تَوقّفتْ عِنْدَ مَشْهَدِ الْوَداعِ ... نعم، إنّهُ مَوعِدُ الْعَوْدةِ إلى أسْئِلةٍ مَسْبوكَةٍ مِنْ وَجَعٍ .
ثمارُ شَجَرَةِ الْفَقْدِ دانِيةٌ يا جَدّاهُ ، والْحُزْنُ كما شَجرَةٌ عُمْرُها بِعُمْرِكَ ، عَميقَةٌ في الْأَرْضِ تَحْكي قِصّةَ وَفاءٍ دامَ مائةَ عامِ ونَيّفٍ...
كمْ هيَ قاسِيةٌ تِلكَ السّواعدُ الّتي تَحْمِلُ نَعْشَكَ ... بلْ كمْ هيَ قَويّةٌ ...كَيْفَ تُذيقُنا مَرارةَ غِيابِكَ، ونَحْنُ الذينَ بعثرنا أَعْمارَنا في أزْمِنَةِ الذّبولِ...
لا أَحَدَ سَيَحْمِلُ نَبَراتِ صَوْتِكَ ... ولا مَلامِحَ صَمْتِكَ ... ولا كِبْرِياءَ دَمْعِكَ ... ولا أَحَدَ سَيقْرأُ في عَيْنيكَ الرّاحِلَتينِ مُخطَّطَ ثَلاثةِ قُرونٍ مِنْ مُعاناةٍ لَطالمَا رَأَيْتُكَ فيها مُدْهِشًا ، وَرَأَيْتُ اِخْضِرارَ نَفْسِكَ مَعَ حَبّاتِ الْمَطَرِ ، وَوَشْوَشاتِ الصَّباحِ حينَ تَمْضي إلى الْحَصادِ، وتُدْهِشُكَ هَرولاتُ الغْسَقِ الهارِبِ مِنْ غَزوِ الْمَطَرِ ...
أُحِسُّ يا جَدّي أنّني صُمْتُ طَويلاً عَنِ الْحِبْرِ ؛ لأفْصِحَ عَنْكَ ، ولِتَتوهجَ أوراقي بِحُضورِكَ رَغمَ الغِيابِ، حُبُّكَ لا يُجَمِّلُهُ الْبَياضُ ؛ لإنّه الْأَعْظَمُ ؛ ولِأَنَّكَ عَظيمٌ عِشْتَ عُمْرَكَ تُحْصي نُدوبَ الضّيْمِ، وتَرْثي مَجْدَنا النّائِمَ الذّي لمْ تُوْقِظْهُ أصْواتُ الْجيلِ الْجَديدِ، بَعْدَ أنْ كانَ زمَنُكَ مُدجّجًا بالْحُبِّ، وزَمَنُنا مُدَجّجٌ بالأحْقادِ.
كُنْتَ الشّاهِدَ على زَمَنِ الْمَحبَّةِ ، وعلى زَمَنِ قَتْلِ الْمَحبَّةِ ، وعلى الصّيْحاتِ الْمَْطْعونَةِ بالذُّلِّ .
أتَذَكَّرُ يا جدّي حينَ كُنْتُ أَحْشُرُ مَلامِحَ فُضولي في تَجاعيدِ وَجْهِكَ ، وأنْتَ تَشْعُرُ بالنُّعاسِ كُلّما آنسْتَ هُدوءًا ، وكأنّكَ تُغْمِضَ عَينيكَ على ماضٍ لنْ يَعودَ؟!!
كنْتُ أراكَ شبابَةَ لِحنينٍ، بلْ كُنتَ السّائِحَ الْمُقيمَ في عالَمٍ لَيسَ بِعالَمِكَ ... لَمْ تُغْوِكَ فيهِ سُرْعَةُ الاخْتِراعاتِ، ولا الألوانُ الْمُسْتَنْسَخةُ للوجوهِ الْجَديدةِ الْعابِرَةِ في عالمَِكَ ، وكُنْتَ تَتناسَلُ منْ زَمَنٍ جميلٍ... لَمْ تَكُنْ تَمْقُتُ الّلقْمَةَ الناشِفَةَ،ولا خُبْزَ الشَّعيرِ، فقدْ لَقَّنَتْكَ الْحَياةُ حِكْمَةَ الْجُوعِ ، وكنْتُ أراكَ غَريبًا كَمَنْ يَبْحَثُ عَنْ شيىءٍ لمْ يَفْقِدْهُ ؛ أحاديثُكَ مختصرةٌ ، ونظراتُكُ حادّةٌ ، وكأنّها تُحَدِّثُنا بِسُؤالٍ يُلحُّ في أعْماقِكَ : ماذا يَحْدُثُ في الْعالَمِ؟
جدّي يا سِنديانَةً لمْ يَهرَمِ الدّهْرُ في جُذوعِها .
ماذا أخَذَ الْمَوتُ مَعَكَ ؟ أخذَ أحْلامَ أجيالٍ مُتعاقِبَةٍ ، ولكنّ فُصولَكَ باقياتٌ يَعِزُّ عليها هَجْرَ الأرضِ التي عَددتَ ذرّاتِ تُرابِها ، وَحَفرَتْ في وَجْهِكَ أخاديدَ تؤذِنُ بِزَمَنٍ مُضْنٍ .
عِنْدما أتذكَّرُ كَلِماتِكَ وذِكْرياتِكَ عنْ زمانِكَ الجميلِ... أتَخَيلُكَ عابِدًا مَلّ صَخْرِيّةَ الأيّامِ التّي عاشَها في زَمانٍ لَيْسَ زمانهُ ، وقَدْ حَمَلْتَ مَعَكَ في رِحْلَتِكَ الطويلَةِ زوّادَةً للمسافاتِ التّي أرادَكَ اللهُ أن تَقطَعَها..
مائةُ عامٍ ونيّفٍ جَعَلَتْكَ تَهْشِمُ ضِفافَ التاسعَ عَشرَ مِنها ، وَتَسْتَحِمُ في سَبْعٍ من الحادي والعِشرينَ ، وأمّا العِشرونَ فَقَدْ عِشْتَهُ بالرّفْضِ لا بالْخُضوعِ ، بَحْثًا عنْ مَجْدِنا الْمَخلوعِ مِنْ أعْماقِنا .
أَتعلَمُ يا جدّي : كنْتُ دائِمًا أُحَدِثُ نَفْسي بأنّنا نَصْحو معَ الشّمْسِ كُهولًا ، وتَصْحو مَعكَ الشّمْسُ كَهْلَةً تَمْنَحُها شَبابَكَ ..
زَمَنُنا يا جدّي عاقِرٌ أدمَنَ الصّمْتَ اِرْتَدَّ بعدَ اخْتِصارِ الصّهيلِ ، تاركًا مخالبَ الْحُزْنِ تَخْمِشُ أصْواتَنا ، ونَحْنُ نَقْتَرِفُ ذُعْرَ الطُّقوسِ الْمُهيبةِ ، وكنْتُمْ تَحْمِلونَ مناجِلَكُمْ لِتَحْصدوا الْقَمْحَ ، وعُيونُكمْ مُسمّرةٌ بالْوَطنِ .. نعم، إنّه الْوَطنُ الذّي يَسْري في عُروقِكُم ْ، وإذا أجْهَضَ الْقَحْطُ زُغْبَ الْعَصافيرِ ، واسْتحصدَ القمحُ في قريتِنا الفقيرَةِ انْتَظرْتُمْ غَيْمةً تَمُرُّ في تَمّوزَ ... وكنْتُ أتذكَّرُكَ وأنا صَغيرٌ كَيْفَ تأكُلُ صَبْرَكَ، وترفضُ مِنّةَ الأغْنِياءِ الذّينَ حَفَروا في أخاديدِ وُجوهِكُم هياكِلَ مِنْ ظُلْمٍ لا يُحَدُّ...
كنّا نُحِبُّ الْجُلوسَ إليكُمْ حَوْلَ مَوْقِدِ الشّتاءِ كنَاياتِ الْحَنانِ الْعَذْبِ ، لِنَسْمَعَ أجْراسَ هِجْرَتِكُمْ، ونَرى زَمانًا جَفّتْ فيهِ بُيوتُ الطّينِ ، ووجوهًا جُبِلَتْ بالعُشْبِ والْكِبْريتِ ، وكُنْتُ أُحِسُّكَ وأنْتَ تَرفو بالْحنينِ قَميصَ غُصّاتِكَ ، وَكأنَّكَ تَقولُ لَنا : لَنْ يُثْمِرَ الزّيتونُ حباتٍ ألذّ منَ الصّبْرِ .
أتَعلَمُ يا جدّاهُ كنتُ أودُّ أنْ تَرحلَ والتفاؤلُ رفيقُكَ ، ولكِنَّ زَمانَنا يَسْهَرُ تَحْتَ نَحيبِ الْهَجْرِ والبُؤْسِ والْعُمْرِ اليابِسِ ... كُنْتُ أتَمنّى أنْ نُمَجِدَ بينَ يديك َالحبُّ الطقسُ ، وأنْ نُعيدَ الفرحَةَ إلى أوطانٍ يائِسةٍ ، وأنْ نَرْفَعَ عنكُمْ غُصّاتِ التّعَبِ المرّةَ، ونُعيدكُمْ إلى زَمَنٍ يَبْعَث ُ في الأحْجارِ النّخْوةَ العَربيةَ ، ويشْربُ نَخْبَ نِساءٍ شارَكْنَ الرِّجالَ طُقوسَ الألَمِ ، تَحْتَ رُطوبَةِ جُدرانِ الطّينِ، وأبوابٍ بائِسَةٍ مُنْفَرِجَةِ الشّفاهِ ، لا يقيهُنَ عُيونَ الْمُتلصصينَ ، وَبَرْدَ الشِّتاءِ الْقارِسِ!! وفَيضَ عُصورٍ غارَتْ ، وَكُنْتُم فيها تَنْقشونَ أحْزانَكُمْ على أشْجارِ الزّيْتونِ ، وعلى سَنابِلِ الْقَمْحِ ، أو حيطانِ أفْرانِ الْخُبْزِ اللّذيذِ .
وأتذكّرُ في أواخِرِ أيامِكَ كَيْفَ كُنْتَ تَحْمِلُ في جيوبِكَ حَبّاتِ الْحَلْوى لِتُوزِعَها على الْأطْفالِ، وأنتَ في طَريقِكَ إلى الْمَسْجِدِ ...
كَثيراً ما كُنْتُ أفَكِّرُ : لِمَ يَفْعَلُ الجدُّ ذلكَ ؟ وأحيانًا كُنْتُ أتمنّى أنْ تَمْنَحَني بَعْضَ حبّاتٍ مِنْ حَلواكَ الشَّهيَّةِ ، وَبَعدَ مَوتِك عَرَفْتُ السِّرَّ...
لقد رأيْتَ الْكِبارَ وقَدْ عاشوا في منافي الْوَهْمِ ، وتَرجو بِحَلْواكَ مُسْتَقبلًا أجْملَ لِجيلٍ قادِمٍ ، يَصْنعُ منْ فَرْحَةِ الأطْفالِ عالمًا مِنْ سَلامٍ ...كُنْتُ أظُنُّ أنّ حَبّاتِ الْحَلْوى كخاتَمِ ( اللُّبَيْك) تَصْحبُ أطفالَنا في هَودَجِ التَّطْوافِ في عالَمٍ قادِمٍ غيرِ عالَمِنا، وأمّا الْكِبارُ فَسيلْبَِسونَ عمَامَةً تَحْجِبُ عنْهُم الْفَهْمَ ، وجُعبًا مملوءًة بالصَّومِ عن النّخوَةِ ،وزَمانُهُم يَميسُ كَفاجِرَةٍ أفْعَمتْها الشَّماتَةُ، وفي أطْفالِنا وَعْدٌ بالْخُصوبَةِ .
جدّاهُ يا راحِلا بِصَمْتٍ يوحي بأسْئِلةٍ حُبلى بالْخَصْبِ : ماذا سَتَفعلونَ يا نواطيرَ هذا الزّمانِ المأفونِ؟ ومَنْ سَيُقاضيكُم أمامَ أبْناءِ جيلِكُمْ ؟
جدّي أيّها الرّاحِلُ النّقيُّ :كُنْتُ أتَمنّى أنْ أكونَ آيةً خَبّأتّها تَحْتَ وسادَتِكَ ، أو خِنْجَرًا في حِزامِكَ، أو سُبْحَةً رافقَتْكَ أيامُكَ ، ولكنّهمْ أسْلموكَ للتُرابِ ، وكان الْمساءُ خانِقًا يَتنفَسُ من رئاتٍ كَظيمَةٍ ، وأمّا الأطْفالُ فَسَيمرّونَ مِنْ طَريقِ الْمسْجِدِ اِنْتِظارًا لِحَلْواكَ الشّّهيّةِ ...
سَأُسائِلُ عَنْكَ سَجاياكَ على أرْضِ ذاكَ الطَّريقِ ، وفي حَواكيرِ الْقَرْيةِ ، وفي بَسَماتِ الْأَطفالِ ، سَأُسائِلُ عَنْكَ دَرْبًا غَرْغَرَ بالْحُزْنِ بَعْدَ أنْ باتَ مُمْحِلًا أَمْرَدَ الْعُشْبِ ،وسَأُسائِلُ عَنْكَ دُموعَ عَمّاتي حِينَ كنْتَ تَمْنحهُنَ طُقوسَ ضِيافَتِكَ بالْبَسماتِ الْعِذابِ.
جَدّي أيُّها الرّاحِلُ الْحَبيبُ : اغْرُزْني إِبْرةً في نَسيجِ الرَّحيلِ الْكئيبِ ، ودَعْني أَلْتَحِفِ الْبُكاءَ!!
___________
* كتبت في رثاء المرحوم جدي ، تغمده الله بواسع رحمته وغفرانه.
(1) عاش الجد المرحوم بإذن الله تعالى 112 سنة .