الدولة الإسلامية ... الراشدة
المجتمع العربي لم يعرف معنى الأمة إلا بالإسلام الذي أخرجه من الصحراء وأسكنه المدن وجعله يغادر منطق القوة وآليات الصراع وإجراءات الاستئصال ومن أجل ذلك ظلت معرفته بمضمون الأمة منقوصة سرعان ما تشوشت رؤيته في اللحظة التي غادرنا فيها رسولنا الرحيم محمد عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى .
ولأول مرة ظهر مفهوم ( السلطة ) على غير ما عهده الناس فيس دولة الفطرة ( المحمدية )
، هاهم كبار الصحابة يجتمعون في سقيفة بني ساعدة لينهوا حوارا ً من ثلاث آراء فمن مطالب بعودة الأمر إلى ما كان عليه قبل أن يصل الرسول مهاجرا ً ليثرب مدينة (الدولة ) من مكة مدينة (الدعوة) ومن قائل أن الأنصار وزراء للأمراء من المهاجرين إلى قائل بفرضية وجوب أن يكون للدولة أميران احدهم من الأنصار والآخر من المهاجرين .
ثم تنبه المتحاورون إلى وجاهة الرأي الملزم بأحقية أبو بكر الصديق في رئاسة الدولة
التي لم يصبها العطب الإجرائي في إتمام متطلبات السير على هدى وروح دولة الفطرة المحمدية.
ولم تعط الثقافةُ أية مشروعية للنكوص العقدي عن مقررات دولة الفطرة المحمدية ولم نشاهد
مظاهر القوة والغلبة من جهة خليفة رسول الله ولم نشاهد سوى مظاهر الانقياد والطاعة من جهة المجتمع الناشئ الراشد .
وما كانت حروب الردة إلا دالاً على ما أقول كون المجتمع آزر رئيس دولته لمعاقبة الخارجين عن سلطة الدولة ومعلوم أن الطغاة لا يقضى عليهم بقتلهم بل بعدم طاعتهم..
لم نشاهد أنبياء الديانات الثلاثة الكبرى ( موسى وعيسى ومحمد ) يتزعمون الناس كما يتزعمهم اليوم الملوك والرؤساء والأمراء ، بل وأكثر من هذا فلم نشاهد موسى وعيسى عليهما السلام يؤسسان لدولة كما فعل ذلك الرسول محمد عليه الصلاة والسلام في دولة الفطرة .
في اليهودية نبهنا الله تعالى أن نبيه موسى أجاب قومه بأنه غير مكلف بإنشاء دولة بل المهم عنده استخلاف اليهود وحكمهم أنفسهم بأنفسهم من دون مظالم قال تعالى : {قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ }سورةالأعراف129
وفي المسيحية الأمر أكثر شهرة من أن نورد له الأدلة .
من جانب آخر فإن الرسول محمد عليه الصلاة والسلام كان متنبها ً لأنواع حكم الدول من حوله فهذه فارس تجعل كسرى وسدنة معبده إلها ً وهذه الروم تجعل من القيصر الآمر الناهي يعاضده القسس الناطقين بلسان الله وهذه الصين تعبد الأسلاف وتظن في حاكمها أن دمه من دماء الآلهة وانه الآله على الأرض .
ونقل المجتمعات من مرحلة الوثنية إلى التوحيد يستلزم قيام سلطة تحمي هذا التحول وقد حصل بعد مئات السنين من رفع عيسى إلى الله بينما نجحت دولة الرسول بعد بضع سنوات من دعوة رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام وبيده هو لا بيد أتباعه كما في المسيحية.
وهنا تأتي أهمية النقلة الحضارية الإسلامية التي نجحت في حشد عرب مكة ويثرب للانصياع تحت إمرة دولة محمدية الرسول فيها هو الناقل والمبشر والهادي لمراد الله من أفراد تلك الدولة فهو – أي الرسول – لا يزعم انه الحاكم بل الله هو الحاكم ولأنه الوسيط بين المرسِل والمرسَل إليه فانه في دولة الفطرة منح كل إنسان فيها المسؤولية فقال للمسلمين ( كلكم راع ٍ وكلكم مسؤول عن رعيته )وهذا هو الرد العملي على صيغ الحكم في فارس والروم وهما يخدعان الناس بمفهوم (الراعي والرعية) .
لقد أوضح القرآن ما نقوله هنا : قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ }النساء59
انظر إلى الدقة القرآنية في مصطلح ( الطاعة ) فالفرد ومن وراءه المجتمع مكلف بطاعة الله ، وكيف تتم هذه الطاعة سوى عن طريق ما أخبرنا عنه سيدنا رسول الله ( فطاعة الرسول من طاعة الله ) وانظر يا رعاك الله إلى الدقة في مصطلح ( طاعة البشر من أهل الأمر والنهي فينا ) ، يقول القرآن : أطيعوا أولي الأمر ( منا ) ولم يقل ( فينا ) كما تنبه لهذه الجزئية عبد الرحمن الكواكبي في كتابه ( طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد )
المهم الآن أن نفرق بين ثلاث مستويات للطاعة :
1\ طاعة رسول الله والتي تؤدي بنا بداهة ً إلى طاعة مراد الله
وهي تجربة فريدة نحاول هنا في هذا البحث استقراء نموذجها لنحاول الفصل بين الانجاز البشري والانجاز السماوي في دولة الفطرة المحمدية .
2\ طاعة من يخلف رسول الله ونحن ندرك أنها موصولة بطاعة الرسول الموصولة لطاعة الله
كما حصل في دولة الرشد عند الصحابي أبو بكر الصديق ودولة المجد عند الصحابي عمر بن الخطاب ودولة التمكين عند الصحابي عثمان بن عفان ودولة الوجد عند الصحابي علي بن أبي طالب .
3\طاعة من يخلف رسول الله ونحن لا ندرك أنها مشوشة في طاعتها لرسول الله الموصولة لطاعة الله ، كما حصل في بعض فترات الحكم التوارثي
إن سوء تطبيق الأسس التي وضعها الرسول في الحكم ومن ثم التقصير في أداءها بل والخطأ في تمثيلها لا يلغي (المبدأ الصحيح) فالعبرة هنا في قنص الأخطاء التي وقع فيها حكامنا هؤلاء لا بغرض نقد النظرية الإسلامية في السياسة الشرعية بل لنقد ذوات الحكام الرجال وفترتهم التاريخية كلا ً حسب نوعية التشوه الحاصل على يديه .
وهذا مبدأ إنساني عام ، أنظر إلى سوء تطبيق الديمقراطية على يد هتلر مثلا ً فهل كان يعني ذلك مسوغاً للمطالبة بإلغاء مبدأ الديمقراطية نفسه .
والآن :
ما هو سر نجاح دولة الفطرة دولة الرسول عليه الصلاة والسلام :
يقول عالم الاجتماع العراقي ( علي الوردي ) في كتابه ( لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث ) ص 8 : (يمكن تشبيه المجتمع الناجح في العصر الحديث بالجيش الذي يدخل معركة حاسمة إذ هو يجب أن تتوازن فيه حكمة القائد مع حماس الجنود فالجيش لا يستطيع أن ينتصر في المعركة إذا كان جنوده لا يتحمسون عند القتال وكذلك لا يستطيع أن ينتصر إذا كانت القيادة فيه يسيطر على أحكامها الحماس.إن القائد المتحمس قد يدفع جنوده نحو الهزيمة المحتومة وهو يحسب أنه سائر بهم نحو النصر الأكيد ) انتهى كلامه
ومجتمع مسلمي يثرب الناجح لم يبدأ من لحظة مؤاخاة المهاجرين مع إخوانهم الأنصار بل قبل هذا بكثير فقبل أن يهاجر رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى يثرب سبقته كتيبتان مع رجال ونساء الدولة في بيعة العقبة الأولى والثانية الذين أدركوا الخصائص وأطر دولتهم الناشئة في ثلاث ميزات انقلبت من خلالها بوصلتهم الاجتماعية وهم يلحقون صحابة الرسول الذين تدربوا عنده في مكة على آليات التحرر من الانصياع لغير وجه الله تعالى
1\التحرر من شفاعة القبيلة ففي دولة الفطرة المحمدية انهار متن اجتماعي سارت ولا تزال تيسر عليه مجتمعاتنا فنجح أهل بيعة العقبة في التخلص من قيد ( أنا وأخي على بن عمي وأنا وأبن عمي على الغريب )
وآمنوا انه يتوجب على الجميع الوقوف مع الحق أياً كان متبنيه سواء كانوا الآباء أو العشيرة والجميع ضد الباطل أيا ً كان متبنيه ، فغادروا عقلية التشفع بالقبيلة أو مؤازرتها على الباطل وصار المسلم يرفض جرم الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة إذا عارضوا كل هؤلاء مراد الله اقرأ إن شئت قول الله تعالى :( قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ )سورة التوبة24
قد يصعب فهم أهمية هذه الجزئية عند مسلمي اليوم الذين لم يستطيعوا التخلص من هذا القيد المعيق لتجديد نهضتهم فهاهم يستسهلون أمر الوساطات والشفاعات منذ ساعات حياة المسلم الأولى وحتى يصل قبره .
2\
التحرر من إلزام الثارات :
عندما يقول الدكتور خالص جلبي إن التحديات الثلاث التي تواجه المسلمين في الوقت الراهن هي (العنف، وبناء العقل النقدي، ودخول المعاصرة من بوابة الأفكار) فإنني أؤكد أنها مشاكل تراكمية فالأولى أورثتنا الثانية وكليهما يعدان علة للثالثة ، ومعضلة العنف باشر الرسول عليه الصلاة والسلام تفكيكها اجتماعيا ً فحدثنا عن الثارات التي هي وقود لمعضلة استشراء العنف بين المجتمعات ، فلم يكتفي عليه الصلاة والسلام بالمواعظ لجعلهم يكفون عن العنف بل ذهب إلى جذر المسألة وعلمنا أن نستبدل إلزام أخذنا لثاراتنا بالمساحة الاختيارية التي سماها القرآن ( حياة ) لنا ، ولا غرابة فالإسلام هو الدين الذي يسعى لإيجاد الآخر ولا يسعى لإلغاؤه وعندما يخبرنا القرآن أن الله عز وجل يحب أصنافا ً فانه بالمقابل لا يخبرنا انه يكره آخرين بل انه يعلمنا انه جل في علاه لا يحبهم ، والفارق بين الكره واللا حب فرق عظيم ، وثقافة الكراهية المنتشرة اليوم بين البشر تجعلهم لا يفطنون إلى هذه اللفتة السماوية بل إنهم لازالوا لا يتدبرون القرآن المجيد وهو يعلن انقضاء ثقافة الثأر واستبدالها بثقافة القصاص حتى إن القرآن سمى القصاص حياة {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }البقرة179
ومن بداهة نجاح رسالة الرحيم محمد عليه الصلاة والسلام انه عامل مخالفيه بمنظوره الأخلاقي هو ولم يعاملهم برؤيتهم الخلقية ، لقد رفض أن يعطي أوامره للملائكة الذي أرسلهم الله ليطبقوا الأخشبين على ظالمي رسولنا الرحيم ، قال بأبي هو وأمي : ( لعل الله يخرج من أصلابهم من يصدح بلا اله إلا الله) . وهو في هذا يعلمنا كيف نستغل لصالح قضيتنا جهد الجميع حتى الأعداء والظالمين لنا ، وهنا علينا أن نفرق بين الحمية لصالح ديننا والحمية لصالح شخوصنا وأنت أدرى اليوم بالكثير من المسلمين وهو يقاوم الأشرار ظنا ً منه أنه يدافع عن الإسلام والحقيقة انه يدافع عن مصالحه هو فيخلط مابين الأفكار والأشخاص ويخلط بين ما هو سماوي مقدس وبين ما هو أرضي غير معصوم . ثم انه لا يفرق بين عدو مهادن لنا وبين عدو يعتدي علينا ونحن مكلفون أن نسالم الأول ونبادل الثاني العدوان بالعدوان قال تعالى : { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ }البقرة194
3\ التحرر من إلزام التسخير
قال الله تعالى : {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً }الزخرف32 ويقول جل في علاه :{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ }آل عمران14 ومع أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان بالفعل رئيس الجماعة الإسلامية وقائدها ومرشدها فلقد رفض رفضاً باتاً متكرراً أن يسمى ملكاً. لقد كان يعتبر نفسه ويعتبره المسلمون نبياً رسولا كما وصفه القرآن.
ندد القرآن بالاستبداد والاستكبار وأثنى على الشورى والإحسان والعدل... إلخ، ولكنه لم ينص لا على أن أمة الإسلام يجب أن يتطابق معها "ملك" أو "دولة"، ولا على ضرورة أن يكون هناك بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام من يخلفه، لا على مستوى ما هو ديني محض ولا على مستوى ما هو سياسي وعسكري، بل ترك المسألة للمسلمين .
كل ما أراده الرسول من صحابته أن يعتمدوا على مبدأ ( تآزر المتنافر ) فالقوي يناصر الضعيف والغني يؤازر الفقير والعالم فيهم يحتوي الجاهل وهكذا ، وفي دولة الرسول صنفان : { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ }آل عمران152.
إن الفرد ينصاع لمراد الحكومة والسلطة التي باشرها الرسول لأن هذا الفرد أدرك أن ليس ثمة فارق بين مصلحته ومصلحة المجتمع في كل الامتيازات فالفرد ينمو في رفاهيته كلما ازداد نمو المجتمع رفاهية ً .
ولأن مبدأ التعاون بين الحاكم والمحكوم لم يقم على الإرغام والتسلط القسري ولا على تباين الفوارق بين الطبقات فإننا لاحظنا أن شبكة العلاقات الاجتماعية كلما تطورت فازدادت ( الفردية ) فيها استقلالاً .
لقد كانت مهمة الخليفة أبو بكر وهو يرث دولة الفطرة جعل المجتمع الإسلامي مستمرا ً في الاعتقاد أن وجود سلطة الدولة هو من أجل منفعة أفراد المجتمع على عكس الدول الهرقلية الشائعة آنذاك والتي جعلت وجود الأفراد من أجل منفعة الدولة ، والرسول عليه الصلاة والسلام عندما وصف المجتمع بأنه كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى
فان الجسد الذي تولى فيه الخليفة الراشد أبو بكر كان جسدا ً معافى لم يشتك أي من أعضاءه .