الجوع
رمضان جاء يعلمنا فلسفة الجوع ... وكيف نحارب الجوع بقهر الجوع
قيل أن مشكلات الحيوان تبدأ عندما يجوع وأما مشكلات الإنسان فتبدأ عندما يشبع ، والفرق واضح بين الجوع وبين الفقر ، فليس كل فقير جائع ولا كل غني شبعان ، فإذا كان الفقر اليوم هو ألوف من ملايين البشر فان الجوع هو البشر أجمعهم فمن جائع بطنه إلى جائعة جمجمته إلى جياع الغاية والمصير فوق هذه الأرض .وأخطر أشكال الفقر ليس فقر الجيب أو المعدة بل فقر العقل فلو سلبني الله تعالى كل النعم وأبقى لي العقل لا أملك طعاماً ولا مسكناً ولا قدرة للحلم والأمل فسيعينني عقلي بعد ذلك على تجاوز كل تلك المحن ويساعدني على التوثب والانطلاق نحو التخمة من كل ما حرمت منه لأنه سيمنع عني اليأس والإحباط والغضب . وفي القرآن تنبيه لخطر اجتماعي جسيم حين لا يكون الإنسان بخيلا ً فحسب بل إنه يأمر غيره بالبخل وهنا سنشاهد مجتمعا ً بخيلا ً وفقيرا ً من الفضل والنعم قال تعالى :{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ }النساء37أما الحديث الشريف الذي وصف أحب خلق الله لله تعالى وهم الفقراء الكرماء فيحفزنا لنكون فقراء ، وأن نكون شرفاء في زمن تتغير فيه معايير الشرف حتى لتكاد تصبح عقوبة لحاملها .ومخطئ هو نابليون حين قال: إن الشعوب كالأفاعي تزحف على معدتها لأنه يفترض أن ما يهم الشعوب الجوع لا الحرية والحقيقة أنها تصبر على الجوع ولا تصبر على الظلم . والله تكفل برزق كل جائع في كونه المدهش {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }هود6ولكنه ينتظر من المستعبدين التغيير فلم يولد الإنسان ليكون جائعا بل حرا ً قال تعالى : {ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }الأنفال53 وهكذا فإن معالجة الجوع لا تبدأ من عند الله اللهم إلا أن ننصت لأمر الله وهو يقول :{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ }الملك15ومخطئ من يربط هذه الأيام بين الجوع والإرهاب يقول أنيس منصور : { وإذا كان كارل ماركس قد قال: كما تأكل تكون، فإنني أقول: كما لا تجد تكون. فمن الممكن أن يأكل الفقير وأن يعيش ولكن مشكلة الفقير ليس ما يجده أمامه وإنما ذلك الذي يتكدس أمام الأغنياء وما زاد عنهم يرمونه للكلاب! }
وقرن القرآن بين الجوع والخوف في آيتين جليلتين ليخبرنا عن مثلث: (العدل ـ الأمن ـ الحريات) قال تعالى : {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ }النحل112
وقال تعالى :{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ }البقرة155
والكفر بنعم الله هي إغفال حمد الله وشكره على نعمه فيبدأ الإنسان بظلم لنفسه حينما يمنحه الله النعم ثم يشكر وهو يعبد غيره – جل في علاه – ويتبع هذا الظلم إغفال شكر الناس بعضهم بعضا ً واستبدال التسخير بالظلم فيبيع الإنسان دنياه بدنيا غيره أو الأفجع أن يبيع الإنسان آخرته بدنيا غيره فيكون عبدا ً له من دون الله ينفذ له مراده
واختصر القرآن المسألة في آية على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلام الذي أوتي الحجة حين خاطب المشركين : {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ }الأنعام82 فهاهو الظلم ولـّـد الخوف ووحده العدل من يمنحنا الأمن الاجتماعي ومعيار ذلك نستطيع قياسه عبر تفشي الجوع .
وقديما ً سألني أحد الأحبة عن مهنة المثقف فقلت له : إشباع الجياع .ورغم أن المثقفين لا تتاح لهم في الغالب مخاطبة الناس إلا بلسان الناس وهم يقتفون آثر الأنبياء لأنهم ورثتهم قال تعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ }إبراهيم4 ولسان المثقف اليوم لا ينطق في نادي الجماهير مع وسائل الإعلام النافذة والرسمية فهم معزولون عن المتلقين الجادين ، وأما باقي عامة الناس فقد شغلتهم ( الصورة ) الإعلامية والمثقف قد يفشل في إشباع جياع الفكر حين يندمجون مع السلطة السياسية فيشاركونها الظلم بل ويحاربون يريدون استمرار الأوضاع . ومن المثقفين من رفض رفضاً قاطعاً انصياعه للسلطة، بل وتربَّص بـها يرجوا زوالها ، لكنه لا يملك رؤية بديلة سوى شعارات وعنتريات لا تغني من جوع ولا تؤمن من خوف . إن استمرا تدفق الجياع الفكريين يدفع الأوطان اليوم إلى مزيد من تبديد الطاقة وإهدار الجهد وتمديد أمد العجز والتخلف...
وحين نام عمر تحت شجرة ورأسه على صخرة بدون حراسة؛ فبسبب العدل؛ واستحق على ذلك لقب الفاروق.. ويحكى أن رجلاً ذهب إلى عمر بن الخطاب فقال له: يا عمر الخير جزيت الجنة ..اكس بنياتي وأمهن وكن لنا من الزمان جنة .. اقسم بالله لتفعلنَ.. فقال له عمر: وإذا لم أفعل يكون ماذا؟ فأجابه: تكون عن حالي لتسألن يوم تكون الأعطيات هنة وموقف المسؤول بينهن إما إلى نار وإما جنة! من أجل ذلك كان عمر يحمل هما ً على مستوى هموم جماهيره وعاش الناس في زمنه لا يعرفون طعما ً للجوع .
والله تعالى إمتنّ على قبيلة قريش وذكر خبرها في قرآنه المجيد كونه قد أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف في حين خاطب الفرد المسلم ونهاه عن قتل أولاده بإفقاره قال تعالى : {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءاً كَبِيراً }الإسراء31ورغم أني أرى في هذه الآية إشارة إلى قادة دول الأمة الإسلامية الذين يأمرهم الله بعدم قتل شعوبهم بإرهاقهم والمبالغة بأخذ الضرائب منهم ، وهنا فإن الله تعالى يقرن ذاته العلية بنا نحن البشر في مسؤولية إشباع الراعي لرعيته أيا ً كان رئيسا ً للدولة أو ربا ً للأسرة فقال نحن نرزقهم وإياكم .
ومخطئ من ظن أن القرآن ذكر آيات تمدح الفقر قال تعالى:وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ }النساء6
كما يظن البعض أن صورة الرسول وهو يربط الحجر والحجرين هي صورته الغالبة والحقيقة أنه عليه الصلاة والسلام مر بظروف كما يمر أغلبنا كان الجوع رفيقه ولكن الأغلب الأعم أنه كان يأكل أطيب الطعام وأنه يحب من الشاة زندها فلا يدعو إلا إلى ترك ظاهرتي البخل والإسراف في آن واحد وهم يخطئون في تفسير حديث الرسول عليه الصلاة والسلام حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا سليمان بن داود أنبأنا سعيد عن الجريري قال سمعت أبا نضرة يحدث عن شتير بن نهار عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال -يدخل فقراء أمتي الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم قال وتلا وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون. والحقيقة أن الرسول وصف الفقراء الذين تحروا العفاف وطلبوا كامل جهدهم في التخلص من الفقر فما وجدوا غيره فصبروا على فروضه وقسوته .