أذرع الكآبة
في تلك الساعة في بلدي، وقد جفت الضروع، وصرخت الأطفال،وبكت الأمهات ،وقهرت الشيوخ، وكبل الشباب، أطل يثرثر بفجر في وسائل الإعلام، واعداً بالنماء والخير والازدهار ، فوقعت الشاء كعادتها في سكرة الآمال ،واستعذبت الوعود ، فكان أن طربت الثعالب والذئاب وتناكحت ، فقد وقعت الفريسة في الفخ بسهولة، وكانت الظنون تظن أن في الأمر بعض صعوبة هذه المرة .
******عم صابر الذي كنت أعطف عليه من وقت لآخر، لم تنطلي عليه الوعود ، حين لمحني مستاءً وقد هممت أن أصرخ وألعن ، اقترب مني في عجالة وهمس في أذني : " وراك مخبر أمن دولة" فسكت وخرست ولم أنبس، بعد عام استوقفني ذاك المخبر وقال لي دون مقدمات : يا أستاذ عبده " عم صابر هو الآخر مرشد لأمن الدولة"، ثم تركني وانصرف.
واجهت عم صابر بالخبر قال وقد بدت نواجذه لغير تبسم :" يا أستاذ عبده أنا بحبك متخلنيش أقلب عليك "
**********كانت أذرع الكآبة قد التفت حول عنقي وتشابكت، ولم أعد قادراً على التنفس ، فنصحني صديقي أن اذهب لطبيب نفسي ، وقال ضاحكا :ً " إما المعتقل أو المصحة ولا ثالث لهما "، فضحكت حتى ظننت بنفسي الجنون .
*******أنصت لي الطبيب متمعناً في شكواي، وعلى وجهه ابتسامة نقاء، من آن لآخر يومئ برأسه أن أكمل ، وحين فرغت من حديثي قال بود : الآن إلى غرفة " تفريغ الكبت" ، اصطحبني إلى غرفة واسعة رحبة، مقسمة إلى قسمين ، يفصلهما حاجز زجاجي غير قابل للكسر ، يتخلله فتحات دائرية ، أمام كل فتحة من الفتحات كرسي ورف ممتد ، عليه عدد لا يحصى من الكؤوس ، والأكواب الزجاجية، ذات الألوان المبهجة، قال وقد لاحظ ما على وجهي من علامات التعجب: إن البركان الذي في أعماقك سيحرقك ، أطلق الحمم الثائرة من صدرك ، انفجر ، حطم ما شئت من هذه الأكواب، اقذفها بقوة من تلك الفتحات التي أمامك ، تلفظ بما شئت من الشتائم واللعنات ، صب جام غضبك على من شئت، لا تلتفت فلن يتتبعك أحد، وحين تشعر بالراحة العميقة تملأ صدرك، غادر العيادة من هذا الباب دون أن تلتفت لأحد ،لم يعطني فرصة للتعليق، وغادر الغرفة، لا أذكر على وجه الدقة كم كأس كسر؟، و كم لعنة حلت؟كم من الوقت استغرقت ؟ لكني حين فتحت الباب لأغادر باغتني عم صابر وزميله وقالا: اركب والزم الصمت ،فركبت ولزمت الصمت .