في سيمياء العنوان " مولاة قلبي " للدكتور عمر جلال الدّين هزاع
قد تمرّ العينُ أحيانا على عنوان أيّ أثر أدبي دون كبير اعتناء ، بل قد يذهب بي الظنّ – وبعضه إثم – إلى أنّ بعض المبدعين لا يعيرون اعتناء كبيرا للعنوان ، ولو أن طه حسين قد روي عنه ذلك الشغف المدهش بالعناوين ، و لا يسلم الدارسون أحيانا من إهمال للعناوين أو المرور عليها سريعا كمن يفتح بابا ليدخل إلى الأثر ولو سألته بعد الدخول عن لون ذلك الباب ورسومه وأشكاله وزخرفه يوجز القول ولا يفصل بل قد يكون نسي من الباب الكثير ... على كلّ حال قرأت " مولاة قلبي " للشاعر الفذ " د. عمر جلال الدين هزاع " فبقيت نقوشه ودلالته تقض راحة الذوق لما وجدت فيه من دلالات تدفع النفس إلى البحث في تفاصيلها وزخرفها وأشكالها قدرما يسع الجهد ويبين الفهم ..
1 – يلاحظ المتمعّن في هذا العنوان " مولاة قلبي " أنّه تركيب جزئي بالإضافة المركبة ، فمولاة مضافة إلى " قلب " و" قلب " مضافة بدورها إلى ياء المتكلم . وبما أنّي من القائلين بأنّ في الشعر لكل استخدام لغوي دلالة أو هالة من الدلالات تحيط باللفظة كما يحيط بياض الضياء بقلب الإنارة في القمر .، فإني أرى أن الإضافة رابط تركيبي متين بين المضاف والمضاف إليه ، لذلك يشتدّ هذا الرابط بين " المولاة " والقلب كأن لا فكاك بينهما ، ثمّ إن الإضافة ضرب من التعريف فهذه " المولاة " ليست أي سلطة وإنما سلطانة على هذا القلب وربما فيه . فهي إذن تكتسب هويتها من كونها ذات سلطان ويد طولى على هذا القلب أو فيه . هذا من يمين الإضافة ، أما عن يسارها فنجد أن هوية هذه القلب تمدّ جذورها في ياء المتكلم ، ومن أعاجيب الشعر ، أو بدقة وتدقيق ، من أعاجيب العناوين في الشعر ، أن نجد هذا الاعتزاز بأن تضاف " المولاة " علامة السلطة والجبروت إلى قلب ياء المتكلم ! كأن الشاعر يعتزّ بأن قلبه عبد بين يدي هذه السلطة القاهرة ولية النعمة والأمر والنهي . أضف إلى ذلك دلالة إضافة جبروت السلطة إلى رقة القلب ، وهل تجد في هذه الدنيا المتيبسة أفضل من طلاوة القلب ورقة شغافه حريرا يلفّ هذه المولاة التي قد لا تبالي كثيرا بما يلقاه هذا القلب من سلطانها .
بقي أن أشير إلى أنّ ياء المتكلم المضاف إليها نحوا هي في الحقيقة ضرب من " الإعلان " والإشهار لهذه العلاقة الحاضنة للمولاة داخل القلب ، وهل يعلن المتيم في أدبنا العربي على أنه عبد لمولاة إلا في الشعر ، فالشعر من هذه الزاوية رغم قيوده النحوية والتصويرية والبلاغية والعروضية والإيقاعية ... هو في الحقيقة مجال الانعتاق النفسي والتحرر " اللافكري " ففيه يستساغ للشاعر أن يقول ما لا يقوله عندما يكون الاستخدام اللغوي في الدرجة الصفر أو دونها ، الدرجة الصفر للاستخدام اللغوي بفهم " رولان بارطه " . تلك هي حرية التخييل في نظري وذاك هو أحد أفضال الشعر في خلق مدلولات جديدة للدال الخام / المعجمي يستمد ألقها من السياق .
2 – نبحث الآن في مدلول العنواة " مولاة " قلبي من الناحية العمودية / المعجمية . فـ " مولاة " و " مولى " لها في المعجم دلالتان متضادتان ، أي هي من المتضادات في اللغة . فـ " المولى " هو صاحب الولاية والقائم بها وعليها من جهة ، وهو المستفيد من هذه الولاية بما هي رعاية وسهر وحماية . فما حال " مولاتك " يا سيدي " عمر" وكيف نفهمها ؟ أعتقد أن الفهم المباشر الأولي المتسرع لها سيكون على أنّها صاحبة الجاه والسلطان ، المتحكمة في هذا القلب المحتلة له المستعمرة له العابثة فيه كيّا وتلويعا وتجريحا ,,, ولكن الوجه الآخر ممكن أيضا ، ممكن لا عنادا بل من حيث ثراء الدلالة ، فقد تكون هذه المولاة هي المستفيدة من الرعاية والحماية والحراسة فهي المكنونة في هذا القلب المنسوب بكل اعتزاز إلى ياء المتكلم . تلك هي لذة " قراءة " الشعر فهو المتكفي بالتلميح دون التصريح وإثارة هوجاء المعاني حتى تجعل القارئ يتلمس المقصد في هالات تعبيرية فيوغل فيها وقد يعود ظمآن فيعود للاستزادة من القراءة وبذا تكون حياة النص وخلوده . إذا فهم الشعر قتل ، فلا يقتل الأدب شيء قدرما يقتله الفهم العقلي والحسم الذهني ، الأدب من هذه الزاوية يُحسُّ ولا يفهم .. وهدف الأديب الوجدان لا العقل .. وكم تقتل " التحقيقات " البوليسية الشعر والأدب ...
خبر : كنتُ في أيام الجاهلية ، لا أعادها الله ، أحاول أن أترجم بيتين من الشعر لإحدى الغربيات ( ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني وبيض الهند تقطر من دمي
فوددتُ تقبيل السيوف لأنها لمعت كبارق ثغرك المتبسم )
ودون أن أقدر على ترجمة حسن الصياغة إذ اكتفيت بتشويه المعاني ، وجدتها تسألني : لماذا " في الشارع " يخجل الرجل الشرقي من عواطفه وفي الشعر لا يتورع عن التذلل والبكاء والتصريح بأدق تفاصيل هيامه وغرامه ؟ فترجمت لها قول العرب " أعذب الشعر أكذبه " لأصون كرامتي فقد كنت أدعي الشعر .
3 – في اللسانيات ، أعتقد ، وقد أكون مخطئا ، أن جميع المدارس اللسانية ، وخصوصا الوظيفية ( أندري مارتينيه مثلا ) وهنا أنا متأكد ، يعتبرون أنّ الدالّ والمدلول هما كوجهي الصفحة أو القطعة النقدية . لا فكاك بين الدال ومدلوله ، هذا قد يكون صحيحا في صرامة المنهج اللساني العلمية . ولكن مع الشعر تبدو هذه القطعة النقدية غير راضية بأن يكون لدالها مدلول واحد بل مدلول ثابت الالتصاق بها . وببساطة أسأل قارئ هذه التهويمات عن مدلول كلمة " قلب " في هذا العنوان . قل ما شئت وسيكون قولك صوابا ، هذا دون أن نتعرض للدلالات الحافة المحيطة بالعنوان . تذكروا فقط أنّ الرجل الشرقي في نسيجه النفسي لا يفرح كثيرا عندما تكون مولاة أموره امرأة إلاّ في العشق وفي الشعر وفي الشعر فقط . ثمّ ترجم هذا القول إلى أية لغة أو لهجة وسترى كم هو حلو لذيذ تهيم به كلّ امرأة . فشاعرنا هنا لا يبدع مجرد عنوان لقصيدته بل هو يبدع قالب يصح أن نصب فيه عناوين لقصائد أخرى ، إنه ببساطة درس في تعليم صياغة العنوان ....
لاحظ معي أخي القارئ أنّ الحركة الوحيدة في العنوان " مولاة قلبي " هي الضمة في تاء التأنيث في " مولاةُ " . وما أجمل أن يضم القلب صاحب هذه التاء وضمتها ،، لم نخرج من الضم إلاّ إلى ضمّ ،، ألم أقل إن للشعر قواعد خاصة به في الفهم والإفهام .
قلتُ إذن إنّ الحركة الوحيدة هي " الضمّ " لم أنس التاء فالضمّ له دلالات أيضا وما عدا ذلك فنحن بين السكون الساكن أو المد وهو غياب الحركة ، أي السكون ، ضم في بحر من السكون يسبقه ويلحقه ،، وهل تحتاج الأشواق والهيام إلى سوى ذلك ؟؟؟ اسألوا الشاعر ، فالمعنى في بطنه .
يقال دائما – عند الإيقاعيين – إن المدّ أو السكون أو غياب الحركة ، وكلها تصب في مصبّ واحد – يساعد على الإيقاع ، بل على الإيقاع الشجي وتحريك شجن السامع ، والشعر أصله المشافهة والإنشاد ، من هنا يظهر لنا في هذا العنوان بعض شكوى فيها من الشجن والتألم ما خفي ولم يخف واستتر فبان بمقدار ونسبة محددين بدقة تحديد النسب في الدواء إن زادت قتل وإن نقصت ذهب مردودها أدراج النقصان . وكذا النساء تعتزّ بشكوى المتيم بهن على أن تكون هذه الشكوى مقدرة بنسبة إن نقصت كانت باهتة الحرارة فتوسم بالبرود حتى الكذب وإن زادت ظهرت المبالغة فوسمت بالكذب كذلك ، وتكره النساء الإيغال في الشكوى لأنها تمس من شخص الرجل الشرقي الذي يجب أن يكون حتى في شكواه قوي الحضن شديد البطش لتحقيق القدرة على المحافظة على رقة القوارير التي دعانا نبينا الأكرم للرفق بها ...
إذن حتى من الناحية الصوتية ( علم الأصوات ) يوظف الشاعر المدّ والسكون لخدمة هالة المعاني التي تحفّ بأقمار معانيه ، ولم يجعل بين هذا المدّ الشجي المعتز بألمه وعبوديته إلاّ حركة واحدة وكانت حركة الضمّ ... ذكاء أليس كذلك ؟ بقي هل هو ذكاء اللغة أم ذكاء المبدع أم هو وهم هذا الذي يقرأ ؟ يعلم ذلك الله .
دائما أقول – في مجال الشعر – إنّ النساء يحملن في أرحامهنّ بين يحمل الرجل إذا حمل في قلبه وشتان بين آلام الحمل بطفل صغير جدا في رحم يتسع له ، وبين الحمل بامرأة هوايتها الرقص جذلانة بحب حاملها في القلب وهو رقيق لا يحتمل أوجاع ذلك الحمل الطبيعي والطبيعي جدا بالرغم من أنه رجل ....
4 – في علاقة العنوان " مولاة " قلبي بمتن القصيدة ، سأقول ما قادتني إليه أوهامي من جهة العنوان فقط ، أما من جهة القصيدة فقد يكون ذلك في دراسة حول التصوير الشعري في " مولاة قلب الهزاع " إن شاء رب العزة .
فالعنوان مبتدأ والقصيدة خبر ، أو على الأقل هو مبتدأ يبحث عن خبر ، وقد يكون خبرا مبتدأه في " بطن " الهزاع أو قلبه أو ملفاته ،، الله يعلم . ولكن الجانب التركيبي يتيح لنا أن نفهم العنوان على أنه مبتدأ خبره إما القصيدة أو هو محذوف ، أو أن نفهمه على أنه خبر لمبتدإ محذوف . في الحالين لا يخلو الأمر من دلالة بل دلالات :
أ – مبتدأ خبره القصيدة : يبدأ الشاعر بإعطائنا المبتدأ فيقول لنا " مولاة قلبي " تفعل بي ( وفعلها في القصيدة ) لا يخفى على أحد . هنا يظهر جليا ذلك الحوار الخفي الذي يقيمه الشاعر خلسة بين وبين قارئه . وهو ما يسمى اختصارا للمتاعب ، التشويق . نعم ، يكتب الشاعر لقرائه لا لحبيبته فقد تكون هذه الحبيبة عدما لا وجود لها ، بل إن وجودها أو عدمه لا يتم إلا بواسطة " مخافر الشرطة " أبعنا الله وإياكم عنها ( أقول أبعدنا عنها ، لا أبعدها عنا فهي قريبة غصبا عنا ) ومهمة التحقق من ذلك ليست من مهام قارئ مثلي على الأقل إذ لا أعتقد أن ذلك يفيد في القراءة وإظهار شعرية العنوان وصاحبه .
فكأن الشاعر بهذا الفهم يرمي لنا مجملا يفصله في القصيدة ، أو يرمي " فلاشا " إعلانيا علينا أن نشتري / نقرأ البضاعة حتى نفهمه . بذلك تكون للعنوان مهمة " التبشير " بالقصيدة فنهم " الجواب من عنوانه " . كم من عنوان جعل القارئ يقرأ ، وكم من عنوان نفر القارئ من القراءة ..
ب – خبر مبتدأه محذوف : وتقديره ( هي ، إنها ، هي ذي ... ) بهذا الفهم يكون العنوان بمثابة السؤال وجوابه القصيدة . أو على الأقل يثير سؤالا جوابه القصيدة . وحتى من هذا الوجه يكون العنوان " إعلانا " تبشيريا مشوقا لقراءة القصيدة . أي إن دور العنوان بوجهيه هو الإثارة ، إثارة الحماس للقراءة وتحريك تلك الرغبة الكامنة فينا للبحث عن جواب الشوق وفهم المختزل .
وفي الحالتين تكون القصيدة تفصيلا لمجمل وتوضيحا لمبهم . ومتى كان العشق إلا ذلك الضباب المبهم الذي لا نجد لـ " لماذا " الحافة به جوابا ، وهل يستطيع أيٌّ منا أن يقول لنا بوضوح وبلغة التخثر المادي والشواغل اليومية ، لماذا عشق هذه المرأة ؟ لا يكون الجواب إلاّ شعرا وما أبرع " الهزاع " في التلذذ بأوجاع العشق ، ودفعنا إلى التلذذ معه بـ " أوهام الشعر " وأنغام الشكوى اللذيذة .. يذكرني قولي هذا بمشهد " حناّ مينه " في " الياطر" عندما جلس " زكريا المرسلني " ينتزع الشوكة من قدمه في تلذذ خفي . نعم نحن – البشر – نلتذّ بالألم ، أو ليس التغني بالعشق وأوجاعه ضربا من اللذة بالأم والمتعة بالعذاب . ألا نشرب القهوة مرة علقما لم يقرب السكر ساحتها ونقول بعد كلّ رشفة " ما ألذها ، إنها رائعة " فأي روعة في المرارة ؟؟؟
أجيب على ذلك في دراسة وعدتُ بها صاحبنا الهزاع في " التصوير الشعري " في هذه القصيدة وأرجو من الله أن يفسح لي في الجهد والقدرة ما يجعلني أفي بوعدي .
وأعتذر من شاعرنا الهزاع إن قصرت أو حرفت أو عجزت فتلك من صفات البشر .