عندما تنكسر الشمس نحو المغيب يسكننى الخوف... وترتجف أوصالي... أشعر أنها تأخذ منى شيئا ما وترحل عندها... يصبح النداء واضحا واستجابتي أسهل فتحتوينى هذه المرأة الساحرة بعينيها السوداوين وذراعيها الدافئتين يغطيني شعرها الأسود الفاحم الطويل بطول الليل والسهر واللذة المتواصلة تتراقص الحياة على شفتيها فتسيطر على كل خلجة في جسدي , يهتز كل شئ مع جسدها الأوتار الكؤوس عقلى بصرى أسقط بلا تردد بلا وعى بلا ألم.
صدقونى إن قلت لكم أنى صليت بعدها الفجر فى المسجد هذا اليوم شق صوت المؤذن للصلاة جدار الليل استيقظت فجأة كل جوارحى طارت صولة الجسد وسكرته انتزعت نفسى من أحضانها كان الماء ينهمر مع دموعى بقوة على جسدى المنتفض انتفاضة طير ذبيح أسرعت إلى المسجد خيل إلى أن بابه اتسع بعرض الكون حينما أقبلت عليه وكأن أمى قد فتحت ذراعيها لتضم ولدها الغائب عنها ربما تعنفنى تعاقبنى ولكن لمن أذهب لو لم ألجأ إليها.
جلست بعد الصلاة فى انتظار الشمس كى تعيد لى ما أخذته بالأمس وعندما سطع الضياء وافترشت الحياة بالنور جددت عزمى وتوبتى دعوت الله وبكيت عنده ذليلا منكسرا و عاهدته ألا أعود.
ولما تدلت الشمس وحانت ساعة الانكسار ناولت الشمس ذلك الشئ بلا تردد منتظرا نداء المرأة الجميلة الممتلئة بالفتنة والهوى... سألت نفسى وأنا بين يديها الموفورة بالعشق والاندفاع من هذا الشخص الذى يسوقنى بلا تردد نحو ندائها... أين يذهب عندما يشق سواد الليل صوت المؤذن ؟ سؤال عابر مر على نفسى سرعان ما ذهب أدراج الرياح لما اهتز الكون كله مع جسدها.
انتزعت نفسى وانهمر الماء مندفعا مع دموعى على جسدى المنتفض وجلست بعد الصلاة فى انتظار النور يومها رق لى شيخ المسجد رقة شديدة أبكت عيونه عندما رويت له انتظارى للشمس كل يوم ضمنى لصدره بحنان بالغ وقوة وقبلنى وقال: أحسن الله خاتمتك ياولدى.
وجاء النور فغسل روحى بالتوبة والندم والعزم والدموع وفى المساء ناولت الشمس بلا تردد ما أخذته فى الصباح... وجاءت الشمس ورحلت... وجاءت ورحلت... آخذ منها وأعطيها حتى جاءت تلك الليلة كعادتها ساحرة متلألئة تنبض بالنشوة واللذة الللامتناهية, سألت نفسى لماذا لا تصير الدنيا كلها ليل أو كلها نهار ؟ لماذا يشقى الإنسان بين الليل والنهار ؟ ظل السؤال يعلو صوته كلما علا إحساسى بهذا البريق وهذا الجمال واهتز جسدها واهتز كل شئ معها دارت ودرت في فلكها ودارت الدنيا كلها الأجساد الأضواء الكؤوس وظل السؤال يدور معي لماذا لا تصير الدنيا كلها ليل أو كلها نهار حتى سقطت في عوالم لانهائية من الأشكال الهلامية الهمهمات والألوان المتداخلة وغبت تماما عن الوعي وإذا بشيخ المسجد يقف أمامى ناظرا لى بنظرة قوية غاضبة ثم جذبنى نحوه وضمنى إليه ضمة كادت روحى تزهق معها ثم تلا فى أذنى قول الله تعال: ( الذى خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور ) كان كل حرف ينطق به قويا جليا يتخلل نفسى ثم همس فى أذنى: أحسن الله عاقبتك يا ولدى ثم غاب وجهه عنى وغاب معه السؤال وإذا بالشمس تسطع قوية متخللة الهمهمات والألوان والأصوات المتداخلة حتى بددتها تماما وصرت فى مواجهتها مباشرة فناولتنى جمرة من نار.. نعم جمرة من نار فرجعت خطوتين خائفا فإذا بصوت الشيخ يأتى من خلفها: خذها يا ولدى ولا تتركها أبدا لعل فيها نجاتك وظل يردد لا تتركها أبدا حتى غاب صوته عنى... تناولت الجمرة خائفا فإذا بها نورا صافيا بردا وسلاما وسكينة على نفسى وانسكبت دموع توبتى وندمى وجددت عزمى.
ظللت أرقب النهار كله لحظة بلحظة وكلما دنا موعد رحيله كان ضعفى يزداد قوة بدأ جسدى يرتجف دنت الشمس من المغيب ببطء متناهى اهتزت يداى الواهنتين وإذا بالجمرة تتحول من النور إلى نار , لاح لى الليل والمغيب والنداء ارتعشت يداى صرخت لا.. لن أدعها .. يداى تحترقان.. علا صراخى لاتتركنى يارب لاتدعنى لهذا الليل لم أعد أحتمل لم أعد قادرا صرخت صرخة تجاوبت أصداؤها فى أرجاء الكون من الألم وفجأة سكن كل شئ ... الزمن.. الحياة ... جسدى ... عيناى شاخصتان إلى السماء... ويداى قابضتان على جمرها... لم أعد أدرى معنى للمكان أو الزمان..... الحدود أوالجهات أين النور أين الظلمة أين الشهوة أين الندم أين الشئ... اللاشئ .. ثم سمعت جلبة قوية وأصوات عالية ووقع أقدام مخيف وإذا بأقوام وجوههم قاسية الملامح غلاظ شداد مقبلين نحوى..أشار إلى أحدهم وقال بصوت لا رحمة فيه: هاهو المجرم ( خذوه فغلوه ) فتناولني بلا رحمة ورفعونى وأنا أصرخ من الهول والخوف وإذا بقوم آخرين يأتون مسرعين وجوههم من نور تتفجر الطمأنينة والرحمة من أعينهم...
قالوا: على رسلكم هذا الرجل لنا
قال الغلاظ: كيف ذلك أليس هذا فلان ؟
قالوا: بلى
قالوا: هذه صحيفته مجللة بالسواد وسؤ الأعمال.
قال بيض الوجوه: وهذه صحيفته معنا كذلك مكللة بالتوبة والإنابة مغسولة بدموع الندم فهو لنا..
واختصم القوم وطال جدالهم وظل هؤلاء إذا ذكروا الذنوب يرد هؤلاء بالتوبة والندم وأنا واقف بينهم يسود وجهى حتى أوقن بالهلاك... ويبيض حتى اقترب من النجاة... حتى تمنيت إن يأخذنى أحد الفريقين من هول انتظارى الذليل وإذا برجل يهل علينا يعلوه بهاء ووقار طويلا جسيما لحيته كأنها النور وكأن القوم يعرفونه فتهللوا لمقدمه والتجأوا إلى حكمه قال: قيسوا زمن الطاعة إلى زمن المعصية وخذوه للتى هى اكبر.
وتطلع الجميع للحساب الدقيق بين ساعات النور وساعات الظلمة وجسدى يكاد يسقط قطعة قطعة وقلبى يتقطع بين الخوف والرهبة حتى جاء الزمن متساويا وعاد الجميع للحيرة والاختصام, ثم نظروا إلى الرجل يلتمسون الحكم عنده فصعد بصره للسماء كأنه يستجلب الحكمة ثم عاد ببصره إلى يتأملنى حتى سقط بصره على يدى فقال: ما هذا الذى بيديه قالوا: لا نعلم وجدناه هكذا قال: انظروا ما فيها فنظروا فوجدوها قابضة على جمرة من نار ملتهبة فصاح: الله أكبر .. الله أكبر وانتصب الجميع وقوفا متهيئين لسماع الحكم وقبل أن ينطق بالحكم كان صوت المؤذن قد انطلق معلنا انبلاج الفجر فاستيقظت كل جوارحى وطارت صولة الجسد وسكرته...
عندما أدركت الصلاة كان شيخ المسجد يقرأ الآية الكريمة: ( الذى خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور )...
كنت حريصا بعدها على انتظار غروب الشمس كل يوم أتأملها خافض الرأس منكسرا بين يدى الله رافعا يدى إليه : اللهم إن هذا إقبال ليلك وإدبار نهارك وأصوات دعاتك فاغفر لنا