أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: رجل من وطني

  1. #1
    عضو غير مفعل
    تاريخ التسجيل : Sep 2007
    الدولة : فوق الأرض..وتحت السماء..وحيث اللحاف..النجوم!
    العمر : 32
    المشاركات : 2,044
    المواضيع : 86
    الردود : 2044
    المعدل اليومي : 0.34

    افتراضي رجل من وطني

    رجل من وطني
    لقد اعتاد الجلوس عند تلك الشجرة-شجرة النخيل- وحوله المزروعات الصغيرة التي تحيط به وبشجرة النخيل الطويلة ذات الأوراق اليانعة الخضراء المثمرة بالبلح الوطني الشهي. اعتاد الجلوس أمام مرعىً صغير، ينظر الساقية تديرها بقرة كبيرة الحجم لتسقي المزروعات، فيأتي قطيع الخراف يرعى ويأكل. وهو جالس يتأمل هذا المنظر الرائع. كل يوم كان يجلس هناك كأنه لا عمل له ولا أسرة يسأل عنها أو تسأل عنه .مررت به ذات يوم وهو جالس هناك، اعتاد النظر إلى السماء الصافية والمرعى. دنيت منه وأخذت أتأمله، كان نحيل الجسد طويل القامة أبيض الفودين، كثير التأمل والتفكير. كنت بدايةً أجهل أمره، وحتى لم أكن لأفكر في سبب أنه اعتاد الجلوس هناك بعد صلاة الفجر إلى حين يناديه أحد الأهل. ولكن ذات يوم قررت الاستماع إلى حكايته، لعلي أستطيع أن أفهم ما هو عليه وإن أراد مساعدة ساعدته بها. جلست بالقرب منه، ورددت التحية، فألقاها علي بابتسامة .سألته عن اسمه،فقال:رجل ولدت هناك وعشت هناك أجمل ذكرياتي،أحببت ذلك المكان ولكن على حين غرّة وجدت نفسي هنا حتى أنّني لست أذكر بعد سبب قدومي هنا لا أذكر إلا أنّني من حيفا.. أذكر سماها وأرضها، سهلها وجبلها، أنهارها وغدرانها، شجرها وزهرها، بعدي عنها لهيب يشوي وجهي ، سمومها تلفح أبداني، فكرت ملياً بما قاله..لم استطع أن أدرك من هو وإنّما استطعت أن أعرف أنّه من حيفا،سألته عن حالته هذه، نظر إليّ ولم يجب، ظننّت بدايةً أنه لم يفهم ما أقصد، فصغت السؤال بصيغة أخرى:ماذا تفعل هنا؟ فقال: لا أعرف، لكنّي أحب هذا المكان، أستمتع بالجلوس هنا، فحينما أرى السماء الصافية أتذكر سماء حيفا، وحينما أرى هذا المرعى أتذكر تلك الأرض التي كانت لنا، وحينما أرى هذا القطيع وهو يرعى،أتذكر صوت اليرغول يعزف والشبابة تتغنّي ، وقتها تترامي في صفحتي ألحاني، ولكنّ التقويم يفاجئني والوقت يداهمني وأحلامي تخدعني وذكرياتي تتلاشى وابتسامتي تزول، فلا يبقى لي سوى دموعي، أدخل يده في جيبه وأخرج منديلاً أبيضاً بدا وكأنّه قديم،كان مطرزاً باللون الأسود ، فالتفت إليّ وقال : انظر، هذا منديلي المعطر القديم أهداني إياه والدي رحمه الله، كان أبيض كبياض الثلج، ولكنّ ملوحة دموعي أكلته، حينها أدركتُ أن شيئاً ما بداخله يحزنه ويجعله يجلس وحيداً حتى أنّني فهمت من كلامه أنّه في بعض الأحيان يجلس حزيناً يبكي. ولكنّ حقاً لا زلت أجهله. سألته إن كان يعمل أم لا..فهو رجل قوي البنية شديد العزم والإصرار..فأجاب: وهل من فرص عمل؟ وإن كان قد وجد ، فأنا أشعر بالرغبة الشديدة في الجلوس وحدي أفكر في وطني وأرضي..لذا فلست بحاجةٍ للعمل.فقلت: ويحك! وكيف ستبني مجداً عزيزاً دون عمل؟ أم ستبقى متقاعساً بحجة أنّك تفكّر في فلسطين؟ وأين حق الوطن عليك؟ فقال: ما من طاقةٍ لدي أنفقها في سبيل العمل.قلت له: أنت رجل جلد وقوي وفلسطين بحاجةٍ شديدةٍ وماسةٍ لك وأمثالك من الرجال! نظر إليّ وابتسم وكأنّه الآن أيقن ما عليه حقاً من فعل.. صحيح أنّي لم أكن أملك الأسلوب الوافي للإقناع ولكنّي شعرت برغبته الشديدة في خدمة فلسطين وخدمة وطنه ولكن حقاً هناك ما يشغل تفكيره فألهاه عن العمل، أردت أن أستدرجه لأعرف حقيقته فسألته إن كان له أهل أو أخوة. فأجاب بصوت منخفض مكسور: إنّهم لا يرحمون، لا يعرفون معناً للرحمة ولا الشّفقة، سجنوا أخي الأكبر وقتلوا أختي الصغرى، أشمتها في اغترابي عن أرضي حين تلدغني ذكرى شبابي معها وذكرى عمري الفاني، لم يتمالك نفسه وأجهش بالبكاء؛ أخرجتُ منديلاً ليمسح دموعه، ولكنّه نظر إليّ بابتسامةٍ وقال: أحبّ أن أكمل المشوار، فقد اعتاد منديلي هذا على ملوحة دموعي، واعتدت أنا على خشونة هذا المنديل، فهو يبعث في نفسي الأمل ويعيد لي ذكرياتي التي سرعان ما تتلاشى بعدما تغرق حين تغمرها دموعي، وتخنقها ملوحتها، وتأسرها أحزاني، وترشقها بالكآبة أشواقي، فتندثر تحت رمال أفكاري، فتلهبها شوقاً ذكرياتي، وتداعبها آمالي المنتظرة، فترفرف عالياً محلقةً مع العقاب، فإن أنا عجزت عن العودة فلا بدّ للذكرياتِ أن تعود... فإن لي في ثرى حيفا دمع نائح ودم أذيب من مهجتي اللهفى ونيراني،نظرت إليه بعين مشفقة وقلتُ: أهذا حقاً ما فعله الاحتلال؟ قال: وهل هناك غيره؟ قلت: ولكنهم يعرضون السلام!فأجاب بعد ضحكة عالية ملأت الجو وانتشرت حتى وصلت أذني:سلام؟ أي سلام ذاك الذي يتحدثون عنه؟ بل قل يريدون أن تقول لهم وعليكم السلام دون أن يقولوا السّلام عليكم! لقد أضحكتني حقاً، إنّهم يقتلوا وينهبوا ويأسروا،ويهدموا وينسفوا ويعذبوا ويهينوا، ثمّ تقول سلام؟! قلتُ: فلنبدأ به نحن! فأجاب على الفور: ماذا تقول يا أخ العرب؟ أنبدأ به نحن ؟ كيف ونحن أصحاب الحق والوطن والأرض؟ ألسنا من قتّلنا؟ألسنا من هجّرنا؟ ألسنا من ذبّحنا؟ ألسنا من انتهكت حقوقنا وعروضنا؟ وبعد كل هذا وذاك تقول:لم لا نبدأ نحن به؟ سرحت برهة ثمّ فكرت بما قاله ، خجلت من نفسي وندمت على ما قلت. لقد كان كلامه كالنبع المعطاء كالشلال المنهمر.سألته كم سنك؟ فأجاب: عظم! قلت: ما هذا بقاصد وإنّما ابن كم أنت؟ فقال: رجل واحد! قلت: ولا هذا ، وإنّما كم أتى عليك من الدهر؟ فقال: لو أتى عليّ شيء لقتلني! قلت له وقد عجزت عن الردّ وخجلت من كثرة الأسئلة: فبماذا أسأل؟قال: قل: كم مضى من عمرك! ابتسمت وأيقنت أن له عقلاً حكيماً من شدة ما عانى جعله فيلسوف عصره..فأعدت السؤال عليه قائلاً: كم مضى من عمرك؟ فقال: أزهر العمرُ واحد وخمسون ربيعاً، واحد خمسون خريفاً، واحد خمسون يغزوني الأرق... وقد تركته في مثل غرس الحب حتى ذبلت، أزهاره وأغاثت روحي في لهفان، وقد بكي ربيعي في مباهجه وبكيت أنا حبي الولوع لأوطاني، أنا ها هنا غريب وروحي تشاركت مع دموعي في ألأسي، هذا العذاب لوعني بأشواقي وأحزاني، تأملته ثمّ سألته عن حياته كيف يمضيها فأجاب: كسر في عمق اليمّ مجدافي وفي منتصف العمر لا أعرف قراري، أتذكر فصول حياتي قصة جميلة وأتذكر كيّ بطل من أزمنة الأشعار.. ففيم العزاء ولا قلب ألوذ به، ولا حنان يداعبني كتحنان أوطاني، لم أفهم ما قاله...ولكنّني مددّت يدي نحوه وابتسمت، ابتسم ومد يده نحوي، أمسكت يده، وحينها شعرت وكأن دماً يسري في عروقي من جديد، أحسست وكأنّ فلسطين من المحال أن تأخذ من أيدي رجالها بهذه السهولة، فهذا هو حال الكثرة الكثيرة من أبطال فلسطين، شبابها رجال يعشقون الخطوة وتعشقهم اللوعة، ويزرعون الورد في أراضي الجفاف، يعضون أطراف العصي كأنها تخزّم بالأطراف شوك العقارب ولا يبالون، رجالها عزمهم كالحجر كالصخرة الصماء لا يعرفون معنىً للكللِ أو للمللِ، وإنّما هم رجالٌ شجعانٌ صلب كالأسودِ الجبارةِ كالفهودِ المتربصةِ بفريستها، كالنمورِ مستعلية مكانها تنظرُ وتحرسُ الأقصى....صحيحْ.. نسيتُ أنْ أكملَ القصةَ، لقد سرقتني تلكَ الكلمات وأخذتني من عالمِ الحقيقةِ إلى عالم الأحلامِ ..بعد فترةٍ من الزمنِ رأيتُ ذلك الرجل كما اعتدتْ على رؤيته كل يوم ، ولكن ليس كما اعتدتُ أن أراه فقد رأيته في هذا اليوم متجهاً للعمل كان سعيداً وسعادته تملأُ وجهه نضارةً وابتسامته تكادُ تخرق وجهه من شدة اللهفةِ والفرحِ، سلمتُ عليه وسألته: ما سبب كل هذه الفرحةِ والسرعة؟ أأنت ذاهبٌ لملاقاة أحد؟ فقال: نعم، ولكن ليس كما تتوقع، فأنا رجل قوي ذو عزيمة وإصرارٍ كبيرٍ أحبُّ وطني ولا أستطيع أن أراه يُدمّر أمامي وأنا لا أحرك ساكناً من أجله، أمس كنت جالساً أراجع وأحاور نفسي وأتذكر كلامك البسيط عن ضرورة العمل بالنسبة لوضع فلسطين ..عرفت أنّه من الضروريِ أن أعمل من أجلِ هذا الوطنِ من أجل العودةِ لحيفا..فقلتُ له وقد سررتُ لسماعي هذا الكلام منه : هكذا عهدتْ فلسطين أبطالها رجالاً أقوياء لا يهابونَ المصاعب ويواجهون الكوارثَ بعزمٍ ويقينٍ دونَ كللٍ أو مللٍ..والآن هيا إلى عملك لتغدوا بطلاً فلسطينياً يستحق بلده ويستحق العيش فيه ، ودّعته بابتسامةٍ هادئةٍ على أمل اللقاء به ..كل صباحٍ كنتُ أراه متجهاً لورشةِ العمل وكنت في بعض الأوقات أمرّ عليه فأراه يعمل بكدٍ وإخلاصٍ كأنّ الوطن يناديه :أتقن عملك وأنهه بسرعةٍ فأنا أتتوقُ شوقاً لرؤية ابني ماذا بصانعٍ؟ كما أنّه لم ينسَ ذلك المكان الرائع الذي اعتاد الجلوس عنده منذ الفجر حتى يناديه أحد الأهل ،بل كان يتجه إليه قاصداً ذكرياته المعطرة والمرحة المليئة بالحزن والوفاء والحب والشوق والحنين لبلده.ولكن ذات صباحٍ رأيته أكثر ابتساماً مما سبق وكأنه ذاهبٌ لملاقاة حيفا في طريقه، لم أره كما اعتدت أن أراه ذاهباً للعمل أو كما عهدته في السابق تحت ظل شجرة النخيل، وإنّما رأيته هذه المرة على غير عادته، رأيته يحملُ سلاحه ورائحةُ العطرِ تفوحُ من ثيابه وكأنّها المسك ...ظننّت أول الأمر أنّه التحق بالجيش، ولكن عندما سلمت عليه وردّ عليّ بأجملها وأطيبها تحيّة، سألته: أين وجهتك أخي؟ فقال: لا فائدةً من جلوسي هناك،أنظر المسلسلَ الدامي من بعيد دون أن أحركَ ساكن!وإنّما الشجعانُ حقاً هم اليومَ يظهرون، إنّما من يحب وطنه لا يجلس يفكر ويغرق في أماله وطموحه ويبقى ليفكر بالمستقبل دون أن يصنعه هو ؛ ليس بالضرورة أن يصنعه لنفسه، وإنّما يصنعه لغيره من أمثاله،ولا يصنعه ليخلّدَهُ التاريخ، أو لتَذْكُرَهُ الأيام أو ليُعلّقَ اسمه على الجدرانِ ويُصمدَ لفخارٍ، وإنّما ليصنع تاريخه ومجده، وليعيد ما كان للوطنِ من مجد، فإنّي اليوم قد أغلقت فمي عن فنون القولِ، وتركت لسلاحي أن يتكلمَ، ليحيل أركان اليهود جهنمَ، أخي إنّي ماضٍٍ في طريقي، فباللهِ عليك أوصي مَن بعدي بأنّ طريقهم مِن هنا، أوصِ أبطالبنا بأن يمروا على هذا الطريق...ثم أَخْرَجَ من جيبه منديله الأبيض وأعطاني إيّاه وشدّ على يدي وأوصاني بحبِ الوطن وحب الأرض، وأخبرني بأن لا أقلق لأنّ هذا التراب سيعود بالدم لا بالسلام الزائف.. وطلب منّي أن لا أبكي وأن أطلب من غيري عدم البكاء ، فيعتقد العدوّ أنّك ضعيف فيزاول مصائبه التي اعتاد عليها بحقنا ... وقتها أيقنت ما بداخله، فإنّه بداخله طاقةُ حبٍ للوطن كأنَها البركان ،ربَتّ على كتفه وقبّلته وودّعته ودعيت له، وقبلت منديله، ثمّ سار في طريقه، وقفت أتأمل مِشيته وأُنصت لخطواته على الدرب يدفعها بكل عزمٍ ويقينٍ وقوةٍ ؛حتى اختفى عن أنظاري ،وقفتُ وشعرتُ حينها بهزةٍ قويّةٍ تهزّ جسدي ورعشةٍ خطيرةٍ تسحبُني للأمامِ خطواتٍ، ولم أعد أعي على نفسي ، حتى تَساقطَتْ منهمرةً الدموعَ مِن جفني على خدي...فأدخلتُ يدي في جيبي لِأُخرجَ منديلي، ولكنّي تذكرتُ منديله الأبيض المعطر المطرز بالخطوطِ السوداء ، ف أمسكته ومسحتُ به دموعي اْلتي مُلئتْ بالحرقةِ والوفاءِ والحبِّ والشوقِ،لعلي أقدر أنْ أسيرَ خلفه على نهجه وطريقه نحوَ المقاومةِ والنضالِ نحوِ الحريَّةِ والابتهالِ..

  2. #2
    أديب
    تاريخ التسجيل : Apr 2006
    المشاركات : 9,079
    المواضيع : 101
    الردود : 9079
    المعدل اليومي : 1.38

    افتراضي

    العزيزة ماجدة....
    أسلوب/ شيق/ محكم/..عباراته جاءت متراصة/بالرغم من طولها.. الراوية تمسكنا لتحدثنا عما يخالج نفسها/ وتصور ذلك بدقة متناهية فنراها مشدوهة السمع الى هذا الرجل/ كان هو محور تركيزها.. ثم تنطلق بنا إلى نظرات جانبية.. الوطن/ الظروف التي يمر بها / الدمار/ الجدران/ الحنين/ الصور/ المقاومة/ التحضية/ جملة تراكيب تداخلت من اجل سطر هذه القصة التي وجدتها اشبه بدراما حقيقية/ تنقل الينا الحدث اليومي من واقع مر/ نعيشه ونراه ونسمعه/ لقد اعتمدت الساردة في النص على قوة العاطفة المطروحة في النص والتي تمكنها بلاشك من جذب المتلقي الى غياهب النص/ بالاخص اذا لاحظنا بأنها عاطفة موجهة تجاه الوطن/ وهذا ما يتفق عليه الكل احيانا وليس دائما .

    دمت بخير
    محبتي لك
    جوتيار

  3. #3

المواضيع المتشابهه

  1. إلى رجلٍ منْ الـ (الحُلمِ ) !!
    بواسطة منى الخالدي في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 49
    آخر مشاركة: 26-10-2022, 11:11 AM
  2. يا مَنْ تمَكَّنَ مِنْ فُؤادِي حُبُّها
    بواسطة أحمد موسي في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 58
    آخر مشاركة: 31-05-2010, 02:51 PM
  3. "مَن كذَبَ عليَّ مُتعمِّداً، فليَتَبوّأْ مقعدَهُ منَ النّـار "
    بواسطة أسماء حرمة الله في المنتدى الحِوَارُ الإِسْلامِي
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 25-03-2008, 01:17 AM
  4. مَن قتل مَن ؟
    بواسطة سعيد أبو نعسة في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 19
    آخر مشاركة: 01-12-2006, 09:20 PM