الهيبيون يكتبون شعراً...
انتبهوا!. فالهيبيون وصلوا شواطئ الشعر العربي، وبدأوا يحفرون الأرض، ويدقون ألواح
. القصدير، ليقيموا عليها مستوطنات الشعر المستقبلي، أي شعر سنة ٢٠٠٠
ومثلما زحف الهيبيون في الستينات إلى شوارع أوروبا ، وميادينها الجميلة، ملأوها بالنفايات،
وح ولوا ميدان) البيكاديللي سيركس) في لندن، وساحتي (الكونكورد) و (الإيتوال) في باريس، إلى
مزبلة.. ونافورة (الفونتانا دي تريفي) في روما إلى حمام عمومي يغتسلون بمياهه ..ويغسلون
ثيابهم..
مثلما حدث هناك ، يحدث اليوم هنا.. ويبتلينا الله ويبتلي الأدب العربي بطغمة من الشعراء
الهينيين، أطلقوا على أنفسهم اسم (شعراء السبعينات).. يحملون سندويشات شعرهم المقدد..
ويلقون قشور الموز تحت أرجل القراء..
وإنني لأتذكر أن بلدية روما، قد اضطرت دفاعاً عن جمال المدينة، وسمعتها السياحية، وخوفاً
على الصحة العامة، أن تطارد الهيبيين بخراطيم المياه، ومسحوق ال د . د . ت . حتى أجبرتهم
على الجلاء عن العاصمة الإيطالية الجميلة..
إن العلماء اليوم مهتمون بموضوع يهدد مصير الإنسان، وهو (تلوث البيئة) الطبيعية. ولكن أحداً
منا لا يفكر بدور هيبيي الشعر الحديث في تلويث البيئة الأدبية.
هؤلاء الهيبيون من هم؟
ومن أين جاؤوا ؟
ما هي أصولهم وخلفياتهم الثقافية ؟
وماذا يريدون بالضبط ؟
الواقع أن هؤلاء جاؤوا من العدم .. العدم الثقافي ، والعدم الجمالي ، والعدم القومي ، والعدم
التاريخي..
إن اللغة العربية تضايقهم لأنهم لا يستطيعون قراءتها ... والعبارة العربية تزعجهم لأنهم لا
يستطيعون تركيبها .. وهم مقتنعون أن العصور التي سبقتهم هي عصور انحطاط ، وأن كل ما
كتبه العرب من شعر منذ الشنفري حتى اليوم .. هو شعر رديء ومنحط ..
تسأل الواحد منهم عن المتنبي ، فينظر إليك باشمئزاز كأنك تحدثه عن الزائدة الدودية ، وحين
تسأله عن (الأغاني) و (العقد الفريد) و (البيان والتبيين) و) نهج البلاغة) و (طوق الحمامة) يرد
عليك بأنه لا يشتري أسطوانات عربية.. ولا يحضر أفلاماً عربية..
إنهم يريدون أن يفتحوا العالم وهم عاجزون عن فتح كتاب .. ويريدون أن يخوضوا البحر وهم
يتزحلقون بقطرة ماء .. ويبشرون بثورة ثقافية تحرق الأخضر واليابس .. وثقافتهم لا تتجاوز
باب المقهى الذي يجلسون فيه .. وعناوين الكتب المترجمة التي سمعوا عنها..
إن الحديث عن ثورة ثقافية عربية انتقل إلينا بالعدوى ، كجرثومة الزكام .. فإذا (تزكمت) فرنسا
أو الصين الشعبية .. فإن المفروض أن (نتزكم) نحن أيضاً بالتبعية .. مع حفظ الفارق بين منظور
الثورتين الثقافيتين الفرنسية والصينية .. ومنظورنا...
فإذا سارت مظاهرة في بكين ضد كونفوشيوس .. فلا بد من تنظيم مظاهرة عربية ضد النابغة
الذبياني أو الشريف الرضي .. ولا بد من إعادة محاكمتهما باسم الحداثة .. وباسم الحرية..
والحرية الشعرية هي أخطر أنواع الحريات .. ولا سيما عندما تعطى إلى مجموعة من المجانين
لم تكتمل أضراس العقل لديهم بعد .. ولا يفرقون بين الألف وعمود التلفون .. وبين أبي العلاء
المعري والمقرئ الشيخ محمد رفعت، وبين الشاعر عمر بن أبي ربيعة.. والممثل عمر الشريف ..
وبين شعر ابن الرومي و (الجبنة الرومي...(
وإنه لمن المفارقات العجيبة، أن تكون كل الثورات الثقافية في العالم، قد قامت على أكتاف
المثقفين والجامعيين، باستثناء الثورة العربية التي يراد لها أن تقوم على أكتاف الفوضويين
والمشاغبين وأنصاف الأميين...
إن ولاءنا للشعر العربي القديم ليس ولاء مطلقاً، فنحن نعرف مواطن جماله ، ومواطن قبحه،
ونعرف مواضع ضعفه، ومواضع قوته. ولكننا لا نسمح لأنفسنا ولا للآخرين بإعدام ديوان الشعر
العربي كله بحجة التقدمية والثورية. كما لا نسمح بإلغاء الكلام العربي بحجة أنه صار كلاماً
قديماً.. أو ساقطاً..
إن أول شرط من شروط الثورة هو أن يكون وراءها قضية. وأهم ما يميز الثائر هو أن يحمل
تصوراً واضحاً للمستقبل. وفي غياب مثل هذا التصور يصبح الانقضاض على التراث بصورة
مجانبة وغوغائية عملاً من أعمال التخريب..
إن كل عملية تكسير، يجب أن تقدم لنا فوراً بديلاً عن الشيء المكسور. أما تحطيم الأشياء بدافع
التشفي والسادية، والعدوان على التاريخ لمجرد أنه تاريخ.. فجريمة تنطبق عليها كل أوصاف
الجريمة العلنية..
ونحن نتساءل بكل براءة:
ما هو البديل الذي قدمه لنا شعراء السبعينات.. لقاء سكوتنا عن قطع رأس المتنبي؟
إن هيبيي الشعر العربي الحديث لا يملكون، عندما تحشرهم في زاوية ضيقة، وتطالبهم بفدية
عادلة تعوضنا عن موت الطيب الذكر أبي الطيب المتنبي.. سوى أن يقرأوا عليك نماذج من
الهذيان ليس لها رأس .. ولا ذنب...
وعندما تصرخ من الوجع والضجر، وتختنق في عتمة الدهاليز والسراديب .. وتدوخ أمام لعبة
الكلمات المقاطعة، والخرائط الملحقة بالقصيدة وتسألهم: ولكن متى تبدأ القصيدة؟ يجيبونك
باحتقار : (إن القصيدة بدأت .. وانتهت.. وإذا كنت لم تفهمها فلأنك متخلف عقلياً .. ولأن
مستواك الثقافي لا يسمح لك بدخول عالم القصيدة الجواني(...
...وبعد .. فهذه هي قصة هيبيي الشعر العربي الحديث الذين يحملون ساندويشات الشعر المقدد..
ويرمون قشور الموز تحت أرجل القراء.. طبعاً أنا غير خائف على الكلام العربي من هجمتهم،
فللشعر العربي عمق حضاري يمتد على مدى ألفي سنة..
ولكنني خائف على نظافة شوارع بغداد، ودمشق، والقاهرة، وبيروت، ومطلوب من بلديات هذه
العواصم الجميلة.. أن تكافحهم بخراطيم المياه كما فعلت بلدية روما...
١ – ٧ - ١٩٧٤
نزار قباني من كتابه -الكتابة عمل انقلابي-