أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 7 من 7

الموضوع: اليد المبتورة

  1. #1
    أديب
    تاريخ التسجيل : Feb 2014
    المشاركات : 89
    المواضيع : 21
    الردود : 89
    المعدل اليومي : 0.02

    افتراضي اليد المبتورة



    انفتحت بوابة قاعة العمليات بالمشفى العمومي على مصراعيها واشرأبت أم الرجل الأربعيني بجيدها مع ثلة من الأقارب وضربات القلوب تتسارع لسماع النبأ :
    - مع الأسف ياسادة..!! لقد تم بتر يد المُصاب بالكامل، لكن حالته مستقرة.
    تداعت الأم منهارة .. ضربت كفا بكف ثم صرخت : " رحماك ربي!!.. فيا
    لحظّ ابني التعس منذ صباه.. !! ".
    ******
    على مقربة من النافذة المطلة على الساحة الداخلية للمشفى، كان الجسد المرهق الممدد على سرير فولاذي يغالب ضغط الرقاد وأثر التخدير على جسمه كلّية. استوى في جلسته بصعوبة بالغة وأطل على الساحة التي تعج بالزوار وذوي الوزرات البيض وعربات المرضى التي تجرها ملائكة الرحمة في ذهابها وإيابها.
    مسّدت برودة الصبيحة محياه بلطف ودغدغت أنفه بتؤدة؛ بالكاد استطاع فتح عينيه والإصغاء بأذنيه، لكن الرؤية خذلته وانحسر السمع فتلاشت المرئيات والمسموعات من أمامه، وكأنّ على حاستـيْه غشاوة كثيفة.
    عاد إلى وضعه الطبيعي وحاول الإمساك برأسه بين يديه لاستجلاء حقيقة مُصابه فلم يسعفه الطرف الأيمن وأحس بالفراغ. حينئذ أدرك أن يده قد بُـترت بالكامل، وأن العملية لم يُكتب لها النجاح، وأن العاهة ستلازمه، وأن العجز والإعاقة سيطالانه طيلة حياته، وسيصبح والحالة هذه عالة على ذاته وعلى الآخرين، أضف لكل هذا ما لذلك من وقع بالغ على الجانب النفسي والروحي والوجداني.
    داهمته نوبة بكاء طفولي.. شرع يكيل السب والشتم للطب والمطببـين، هو الذي كان بالأمس أشد عقلانية وأكثر تعلقا بالعلم وأهله ومريديه. غمر كيانه تساؤل غير معهود : كيف ينازعه اليوم يأسٌ مرير ليتـزحزح إيمانه على حين غرة..!؟
    ******
    أثناء عيادته للرجل الأربعيني الممدد أمامه، وبحركة ركوعية مألوفة بنصفه العلوي البدين، أحنى الفـقيه برأسه وهمس في أذنه بكلمات متقطعة لم يستطع جمع شتاتها : " لا عليك.. معك الله.. لا تيأس.. اليد قطعة من جسدك.. فلا تنس مراسم الدفن.. !!". كادت أن تنطلق من فيه ضحكة استغراب عندما ترامت إلى مسمعه عبارة "مراسم الدفن" لولا أن أبطل مفعولها وعادت تحمله سحابة تأملاته بعيدا.. وكيف له ألا تغشاه هالة من اندهاش ولم يسبق أن سمع بمثل ما سمع؟. إنْ كان ذلك هو عين الحق، فسيلزمه الرضوخ لحكم العادة والاستجابة للطقوس إذن.
    أجل.. !!إن حقيقة ما نمتلكه هي أن ننساه مع الأيام لتـنمحي ذكراه ذات يوم لا محالة؛ أما ما هو جزء من جسدنا وقطعة من لحمنا فأغلب الظن أن يظل عالقا بين ثنايا الذكرى طال الزمن أو قصر مادمنا نكتمل به وبنا يكتمل. كيف لنا أن ننساه وأدمغة مبتوري الأطراف تبقى طيّ الدماغ حتى بعد مرور عشرات السنين من عملية البتر على حد قول الأطباء...
    بعض من رفاق الدرب الذين زاروه في مشفاه هذا، أبلغوه عطفهم وعرضوا عليه مؤازرتهم وما يلزمهم نحوه من واجب الصداقة حاضرا ومستقبلا. أبدى لهم شكره وامتنانه، غير أنه أومأ لهم بإشارة يُفهم منها أنه لن يسمح بأن يكون مثارا للإشفاق حتى في أحلك الظروف وأصعب اللحظات بعد أن كان من طبعه الأنفة والترفع والغنى عن الناس.
    ******
    قالت زوجة الرجل الأربعيني المُصاب وهي تنحي باللائمة على الآلة الصماء : " قبحها الله من آلة لعينة ومن صنعها..!! الله يلعنها سلعة!!.. "
    قال الشقيق الأكبر للرجل مصححا :" بل اللعنة لصاحبها والساهر عليها".
    قال الذين وقفوا موقفا وسطا في تفسير النازلة : " لا هذا ولا ذاك .. إنه قدر مقدور، ولاراد لقضاء الله " .
    في الرد على كل اتهام أو ملامة، قال صاحب الورشة وقد استبد به غضب عارم: "عجبا لكم يا ناس..! فما قولكم في التهور البشري والاندفاع الأعمى بلا حذر...؟ ".
    لم ينتبه أحد إلى أن الشيء المهم في الظرف الحالي ليس سبر الأغوار والبحث عن المكنونات لكشف الأسباب والمسببات. ماهو ضروري هو التساؤل عن أحوال الرجل والإسراع الى مواساته في مُصابه والأخذ بيده .
    ******
    الإنسان كائنا من يكون لا يسلم من ألسنة الناس، وهؤلاء ذاتهم لا يسلمون من أقاويل غيرهم، وذلك في سلسلة طويلة متراصة الحلقات .. متواصلة إلى ما لا نهاية.
    هذا ما تبادر إلى بؤرة اعتقاد الرجل الأربعيني بعد أن تناسلت عبارات القيل والقال وترامت إلى مسمعه محاولة تفسير دوافع الحدث :
    - يده كانت مغلولة إلى عنقه
    - الرجل كثير الذنوب والآثام
    - قطع اليد من قطع الأرحام
    - سلوك الرجل سلوك أرعن
    قالت " لاّلاّ رحمة " وقد أطلقت لسانها في مجمع نسوي : "ما سيحزّ في نفس الأسرة المسكينة هو فقدان ابنها المُصاب لاسمه نبزا بالألقاب يوما بعد يوم". غمرتها سحابة صمت لبرهة وجيزة ثم أضافت : (( ألا تذكرون " السي عبد القادر" جارنا القديم.. سائق الشاحنة، عندما بُترت يده في حادثة سير.. نسي الجميع اسمه ولم يتوقفوا عن مناداته بـ " بو إيديا* " فيما بينهم وفي غيابه بل حتّى في حضوره حال الخصام.. ألم يكن ذلك أشد إيلاما له من فقدانه يده بالذات ؟ )).
    ******
    مكث الرجل الأربعيني زمنا طويلا وكوابيس الليالي الطوال تدثره بشملتها العجيبة. كانت اليد المبتورة خلالها لا تفتا تلتئم ملتحمة بالجسد المنكوب فينتابه شعور بسعادة لا توصف.. غير أنه لا يلبث أن يستفيق في كل صبيحة على سراب مقيت لتتبخر الأحلام الجميلة وتذروها الرياح...
    -------------------------------
    * بو إيديا : ذو اليد الواحدة...

  2. #2
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,131
    المواضيع : 318
    الردود : 21131
    المعدل اليومي : 4.94

    افتراضي

    كم هو مؤلم ومؤسف بتر جزء من الجسد .. وما يترتب على ذلك من عاهة
    وعجز وإعاقة ستلازمه طوال حياته. وإذا كان السبب هنا هو تلك الآلة التي
    يعمل عليها في الورشةـ وسواء كان تهور منه واندفاع بلا حذر ، أو كان ذلك
    قدرا مقدور ولا راد لقضاء الله ففي كل حال تبقى الحقيقة إنه يجب عليه أن
    يتعايش مع ما وصل إليه من حال .
    ذكرتني قصتك بجرحاء الحرب هنا في ليبيا ـ شباب صغير لا يتجاوز أعمارهم
    العشرين عاما أتقابل معهم في كل مكان لأجد انهم دفعوا ثمنا باهظا لتلك الحروب
    فمنهم من بترت ساقه بالكامل، أو يده، أو فقد عينيه.. أو أصبح كسيحا يمشي على الكرسي المتحرك
    والمؤلم هنا إننا بعد هذه الحروب لم نحقق أي شيء!!!!
    فهل ذهب ما دفعه هؤلاء الشباب هباء؟؟
    أعذرني إن كنت ابتعدت عن قصتك ولكن الشيء بالشيء يذكر
    سعيدة أنا بزيارتك للواحة فأهلا بك ولك كل التحية والتقدير.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  3. #3
    مشرف قسم القصة
    مشرف قسم الشعر
    شاعر

    تاريخ التسجيل : May 2011
    المشاركات : 7,009
    المواضيع : 130
    الردود : 7009
    المعدل اليومي : 1.49

    افتراضي

    نص قصصي جميل أخي الأستاذ صالح..
    الصبر على المصيبة يحتاج نفسا طويلة في مثل هذه الحالات خاصة الصبر على أخلاق العباد..
    تقديري وتحياتي.
    وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن

  4. #4
    أديب
    تاريخ التسجيل : Feb 2014
    المشاركات : 89
    المواضيع : 21
    الردود : 89
    المعدل اليومي : 0.02

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ناديه محمد الجابي مشاهدة المشاركة
    كم هو مؤلم ومؤسف بتر جزء من الجسد .. وما يترتب على ذلك من عاهة
    وعجز وإعاقة ستلازمه طوال حياته. وإذا كان السبب هنا هو تلك الآلة التي
    يعمل عليها في الورشةـ وسواء كان تهور منه واندفاع بلا حذر ، أو كان ذلك
    قدرا مقدور ولا راد لقضاء الله ففي كل حال تبقى الحقيقة إنه يجب عليه أن
    يتعايش مع ما وصل إليه من حال .
    ذكرتني قصتك بجرحاء الحرب هنا في ليبيا ـ شباب صغير لا يتجاوز أعمارهم
    العشرين عاما أتقابل معهم في كل مكان لأجد انهم دفعوا ثمنا باهظا لتلك الحروب
    فمنهم من بترت ساقه بالكامل، أو يده، أو فقد عينيه.. أو أصبح كسيحا يمشي على الكرسي المتحرك
    والمؤلم هنا إننا بعد هذه الحروب لم نحقق أي شيء!!!!
    فهل ذهب ما دفعه هؤلاء الشباب هباء؟؟
    أعذرني إن كنت ابتعدت عن قصتك ولكن الشيء بالشيء يذكر
    سعيدة أنا بزيارتك للواحة فأهلا بك ولك كل التحية والتقدير.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    ------------------------------------------------------
    ناديه محمد الجابي / سلام عليك

    ونحن ايضا سعداء يعودتنا اليكم..
    الشكر الجزيل موصول لكم على ما ابديتموه من ارتسامات و ملاحظات..


  5. #5
    أديب
    تاريخ التسجيل : Feb 2014
    المشاركات : 89
    المواضيع : 21
    الردود : 89
    المعدل اليومي : 0.02

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عبد السلام دغمش مشاهدة المشاركة
    نص قصصي جميل أخي الأستاذ صالح..
    الصبر على المصيبة يحتاج نفسا طويلة في مثل هذه الحالات خاصة الصبر على أخلاق العباد..
    تقديري وتحياتي.

    *****************************
    السيد عبد السلام دغمش
    تحياتي الجليلة لكم


  6. #6
    قلم فعال
    تاريخ التسجيل : Nov 2019
    المشاركات : 3,456
    المواضيع : 237
    الردود : 3456
    المعدل اليومي : 2.15

    افتراضي

    قصة جميلة السرد رغم ما حوت من ألم
    إن بتر اليد له تأثير قوي فعتدما يفقد الإنسان طرف من أعضاءه يكون في حالة صدمة ويأس
    يصاحبهما مشاعر مؤلمة مثل الغضب والإنكار وفقدان الأمل.
    صاحب الإيمان القوي وحده هو من يستطيع ان يتغلب على ألمه ويتعايش مع قدره.
    قصة عميقة الفكرة ومدهشة ـ بوركت ولك تحياتي.

  7. #7
    أديب
    تاريخ التسجيل : Feb 2014
    المشاركات : 89
    المواضيع : 21
    الردود : 89
    المعدل اليومي : 0.02

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أسيل أحمد مشاهدة المشاركة
    قصة جميلة السرد رغم ما حوت من ألم
    إن بتر اليد له تأثير قوي فعتدما يفقد الإنسان طرف من أعضاءه يكون في حالة صدمة ويأس
    يصاحبهما مشاعر مؤلمة مثل الغضب والإنكار وفقدان الأمل.
    صاحب الإيمان القوي وحده هو من يستطيع ان يتغلب على ألمه ويتعايش مع قدره.
    قصة عميقة الفكرة ومدهشة ـ بوركت ولك تحياتي.
    ----------------------------------------

    الاستاذ أسيل أحمد
    كلام في الصميم ..
    جليل امتناني سيدي على اهتمامكم بالموضوع ..
    تحية كبيرة لكم..