ألف ليلة وليلة
بهجت الرشيد
وأسفر الصباح .. فسكتت شهرزاد عن الكلام المباح ..
الليلة الأخيرة
اليوم يا سيدي الملك سأتحدث عن شخصية فريدة في التاريخ ، كانت لها صولاتها وجولاتها .. ولكن ..
كان يمسك بزمام حماره ، يمشي متهالكاً وسط صحراء لا شيء يقطعها سوى السماء في الأفق البعيد .. اخرج جرة الماء فرشف رشفة ثم هزها متأكداً من كمية الماء ..
ـ إيه يا حماري المسكين .. أصبحت مثلي منبوذاً .. من بقايا أشياء الماضي العتيق ..
هزّ الحمار رأسه معترضاً ..
ـ والله يا أخي الحبيب إن هززت رأسك أم لم تهزه فلن تصل سرعتك إلى سرعة تلك العربات العجيبة التي تجوب شوارع بغداد ، وعقلك لن يستوعب ما يسمونه الحداثة اليوم .. أنظر إلى حالي أنا مثلاً ، صرت أضحوكة الأطفال في أزقة بغداد وأنا أجر أسمالي البالية والداعية إلى السخرية .. لا تقل لي يا صاحبي إنك تريد أن تقص شعرك ... أو تلبس ( البدي ) ..
نهق الحمار معترضاً أو هازلاً ربما ..
ـ لا بأس .. لا بأس .. فأنت لا زلت تحت الخدمة .. فهناك من يحتاجك ، أما أنا .. ها .. فقد أصبحت من حكايات ( كان يا ما كان ) .. آه وألف آه .. لو كنت املك المصباح السحري لأبهرتهم بعجائبي ولأريتهم من هو علاء الدين .. أين أنت يا صديقي العفريت ؟ من أي أعماق البحار عليّ أن انتشلك أم من أي كهف مسحور عليّ أن أخلصك ؟
ومضى علاء الدين وحماره يقطعان القفار إلى وجهة مجهولة .. وبعد أيام وليالٍ إلتقى بقافلة عائدة من الهند ..
ـ كيف أحوال الهند ؟ لقد كانت بخير عندما تركتها آخر مرة ..
ـ هي كما تركتها .. بخير .. فالتجارة رائجة والسوق تغص بالمشترين .. ولكن .. بغداد .. ليس هناك سوق مثل سوقها ولا تجارة كتجارتها .. أي يا صاحبي إني لأحث القافلة لتسرع حتى أعانق نسمات بغداد العليلة وأسامر لياليها المقمرة ..
ـ بغداد .. إسمع يا حماري الحبيب .. إنه يتغزل بنسمات بغداد ولياليها المقمرة ، وزوارها العشاق ..
ـ وماذا أصابك يا علاء الدين .. لم هذا الشحوب على وجهك والنحالة في جسمك ؟ ثم أين جملك حتى استبدلت به هذا الحمار التعبان ؟
ـ يا أخي .. الخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة .. فلم هذا الإجحاف في حق هذا الحمار الطيب ؟
القافلة : ما به علاء الدين ؟ هل فقد عقله ؟ لا حول ولا قوة إلا بالله لقد جنّ الرجل ..
ـ فلننطلق يا صاح ، فهؤلاء لا يعرفون شيئاً .. الجنون ما تركناه خلفنا في الليالي المقمرة والنسمات العليلة .. فلنذهب ..
وراح علاء الدين وحماره حزينان يجران أذيال الخيبة ، وهما على هذه الحال فإذا بعاصفة ترابية وكثبان رملية غمرتهما لوقت من الزمان ..
ثم ..
ـ لا حول ولا قوة إلا بالله .. يا حماري المسكين .. لقد عشت تعيساً ومت غريباً ..
وصار علاء الدين يقطع الفيافي وحيداً لوقت لا يعلمه إلا الله حتى أوصلته قدماه إلى مغارة عجيبة ، فتهلل وجهه سروراً عسى أن تقع يداه على المصباح السحري ..
دخل الغار فإذا الألوان العجيبة تتلألأ في المكان وأصوات كأنها أشباح تخترق الجدُر ..
ـ يا أيتها الألوان .. ويا أيتها الأصوات .. أو مهما كنتم .. لن تخيفوني أبداً .. إني علاء الدين .. ها ها .. علاء الدين ألا تذكروني ؟
مضى إلى عمق الكهف ، وإذا بزاوية مليئة بالذهب والماس والأحجار الكريمة ، ومصباح ملقى وسط هذه الكومة الذهبية ..
ـ وأخيراً .. يا مصباحي السحري .. لديّ الكثير من الحاجات احتاجك فيها ..
أخذ يقبله ويحضنه ، كأنه أمٌ وجدت وحيدها .. ثم لمح شيئاً آخر ..
ـ يا إلهي .. ما هذا .. الخاتم السحري أيضاً .. يا لسعدك يا علاء الدين .. يا لسعدك .. سأبعث كل منهما إلى بلد .. فبلداننا متعبة جميعها ..
وبدأ يفرك المصباح والخاتم السحريان ، فإذا بالدخان يتصاعد ، ثم يتشكل عفريتاً عملاقاً ..
ـ شبيك لبيك ، خادمك المطيع بين يديك .. أطلب ما شئت يا مولاي ، وما لخادمك المطيع إلا أن يلبي . ها ها ها ..
ـ باختصار يا عفاريت .. باختصار .. ليس لدينا وقت .. أريد منكما أن تذهبا إلى بلدنا وتصلحان الحال فيه .. أريد للخلافات أن تنتهي ، وأريد أن يعيش الناس بسعادة ورخاء ..
ـ أمرك مطاع يا سيدي .. ها ها ها ..
ثم خرج علاء الدين من الكهف ، واستظل بظله ، واخرج الماء وارتشف رشفة ..
ـ سامحك الله يا علاء الدين .. سامحك الله .. إن بطني يقرقع جوعاً ، ولقد نسيت أن أطلب من العفاريت وجبة طعام دسمة .. لا بأس .. سيعودان بعد قليل .. هؤلاء عفاريت .. سينهون المهمة بسرعة البرق ويعودون .. عفاريت .. عفاريت ..
مضى وقت طويل ولم يظهر العفريتان ، وخيم الليل في الأرجاء ، فقام علاء الدين يجمع ما وصلت إليه يداه من أشواك وأغصان يابسة ، وأوقد ناراً ليتدفأ ..
بعد قليل .. سمع أصواتاً قادمة من بعيد .. شيئاً فشيئاً كان الصوت يقترب ..
ـ إنها العفاريت .. لقد أتت أخيراً ..
عفريت الخاتم : لا .. لا .. إنك مخطئ يا صاحبي ..
عفريت المصباح : ولكن ألم تر ما فعلوا بنا ؟
عفريت الخاتم : سوء فهم .. سوء فهم ..
عفريت المصباح : سوء فهم .. لولا إننا عفاريت نستطيع اختراق الجدران لهلكنا هناك .. وتقول لي سوء فهم ..
عفريت الخاتم : يا أخي الوضع صعب .. صعب .. لكنهم مع هذا غيروا الكثير .. الكثير ..
عفريت المصباح : نعم الكثير .. ولكن إلى الأسوأ .. إلى الجحيم ..
عفريت الخاتم : دائماً نظرتك متشائمة للأمور .. حتى في الوقت الذي كنا مع السندباد الطيب كانت نظرتك متشائمة ..
عفريت المصباح : متشائمة .. ها .. لقد رأيت كل شيء بعيني .. ومما زاد في الطين بلة وفي الطنبور نغمة ، أن الأربعين حرامي دخلوا بغداد .. متشائمة !؟
عفريت الخاتم : الأربعين حرامي ! هه .. وماذا سيفعلون أما الجنود المدججين بالأسلحة ..
عفريت المصباح : هنا تكمن المشكلة ، الأربعين حرامي نعرفهم .. لقد تعاملنا معهم من قبل .. أما هؤلاء ..
عفريت الخاتم : هؤلاء ماذا ..
ـ مخربون .. يعيثون في الأرض فساداً ..
عفريت الخاتم : بل إبطال .. محررين ..
عفريت المصباح : ...........
عفريت الخاتم : ..........
وعندما وصلا عند علاء الدين وهما يتجادلان ..
ـ شبيك لبيك .. خادمك المطيع بين يديك ..
ـ اسكتوا .. لا شبيك ولا لبيك .. اسكتوا .. ماذا أصابكم ؟
عفريت الخاتم : لا شيء يا سيدي .. اختلاف في الآراء فقط ..
ـ ومتى كانت العفاريت تناقش .. إنها تطيع فقط .. تطيع بأفواه ساكتة ..
مصباح : لقد قلت له ذلك يا سيدي .. ولكن هذه المجادلات يسمونها .. ديمقراطية ..
ـ ديمقراطية !؟
عفريت الخاتم : نعم .. ديمقراطية .. يعني أن تقول رأيك بحرية ودبلوماسية ..
ـ وما هذه الدبلوماسية أيضاً ؟
عفريت الخاتم : يعني ...
ـ اسكتوا .. اصمتوا جميعاً .. لقد أفسدتكم السياسة أيضاً .. هيا .. هيا .. يا عفريت المصباح ادخل إلى مصباحك .. ويا عفريت الخاتم ادخل إلى خاتمك .. قبح الله وجهيكما خيبتم آمالي .. قبحكم الله ..
المصباح : أمرك مطاع سيدي ..
يدخل في المصباح ..
ـ وأنت .. لمَ لا تدخل .. لماذا أنت واقف في وجهي ؟
عفريت الخاتم : آسف يا سيدي .. أرى إنني لا استطيع ذلك ..
ـ ولماذا يا نور عينيّ سيدك ؟
عفريت الخاتم : لا استطيع .. لأني سأرشح في الانتخابات المقبلة ..
ـ انتخابات .. إنني آمرك ..
عفريت الخاتم : لا تصرخ يا أخي لا تصرخ لقد ذهبت أيام الأوامر .. أيام الدكتاتور .. يا ( علاوي ) إننا اليوم نعيش فضاءات الديمقراطية والحرية والرأي الآخر .. باي باي يا ( علاوي ) .. باي باي ..
وطلع الصباح وسكتت شهرزاد عن الكلام المباح ..