ولد شمس الدين محمد بن دانيال بن يوسف الخزاعي في مدينة الموصل سنة: (646) هـ
وتلقى علومه الدينية والأدبية فيها حيث كانت في هذا العصر من مراكز الثقافة العربية.
ولكن في سنة 1262م -665ه اجتاحت جيوش التتار مدينة الموصل واكثروا فيها الفساد فاضطر كثير من أهلها إلى الهجرة منها وولوا وجوههم إلى مصر البلد الذي وقف في وجه التتار وهزمهم هزيمة منكرة في موقعة عين جالوت
فدخل ابن دانيال القاهرة عام 1267م-665هـ وأكمل دراسته الدينية والأدبية والطبية في مدارسها ولاسيما على يد شيخه معين الدولة الفهري المصري المتوفي عام 685هـ.
احترف ابن دانيال مهنة الطب (طب العيون) وعرف بالكحال واتخذ له مكاناً في القاهرة في منطقة باب الفتوح لاستقبال مرضاه كما التقى بمصر بالشعراء ،
وأصبح من الفكهين وساعده على ذلك حاضر ذهنه وسرعة بديهته وأخذ عن المصريين طريقتهم في إرسال النكت الساخرة المقذعة ولم يترك أقرب الناس إليه من توجيه النكت والدعابة حتى خشي الناس لسانه وتروى له في ذلك قصص تدل على براعته في الفكاهة
واشتهر بين الناس وسعى إلى التعرف به كبار رجال الدولة وانعموا عليه بالهبات والصلات حتى تحسنت حاله فاتخذوه نديماً يطرفهم بفكاهاته ونكاته وشعره التخابثي وربما صادقوه خوفاً من لسانه افمن فكاهاته مع الأمراء ان السلطان الأشرف خليل بن قلاوون أهداه فرساً ليركبه إذا صعد إلى القلعة للخدمة ولم يكن الفرس ما يريده ابن دانيال فركب حمارًا أعرج وصعد به الى القلعة فلما رآه السلطان قال له :
يا حكيم أما أعطيناك فرساً لتركبه؟
فأجابه ابن دانيال نعم ياخوند بعته وزدت عليه واشتريت هذا الحمار!
فضحك السلطان ووهبه فرساً آخر.
ومن شعره الممعن في السخرية الحكيمة:
تَعَلّمتُ أَخلاقَ هذي الكلابِ وَمَنْ لي بأمثالَها من صحابِ وَفاءٌ وَصَبْرٌ وَحفْظُ الذمامِ وذبُّ عنِ الخَيْلِ عندَ الضرابِ وَتَسهَرُ إنْ نمتُ في قَفْرَةٍ وتحفَظُني من ضواري الذِّئابِ كِلابٌ وَلكنها فُضِّلَتْ على بَعضِ قومِ مَشوا في الثِّيابِ
وليست قصائد ابن دانيال على هذا الغرار الذي رأيناه في قصيدته "العيد عيد"
بل إن له قصائد غاية في الرقة والعذوبة و الجمال، كقصيدته التي مطلعها :
ٌأرى الوجدَ أقوى ما يكونُ وأغلبا إذا لم أجد عن مذهب الحبِّ مَذْهبا
ويقول فيها:
يُعاتبنُي والذَّنبُ في الحبّ ذنبه وَيَسألُ عن سُقمي وَمنه تَسَبَبا وَيَزعَم أنّي مُذْنبٌ فأطيعُهُ موافقة منِّي ولم أكُ مُذنباً
وفيها:
ويسالُ عنهُ القلبُ وَهْوَ مُخَيِّمٌ به وَيُناجي البرقَ أو نسمةَ الصبا وآونةُ يَشجيه نوحُ حمامة بلَحْن تراهُ للصبابةِ مُعْربا
ومن جميل شعره في مناجاة الله عز وجل :
يا إلهي تجاوُزاً عن ذُنوبي فَلَقَدْ سوَّرَتْ بَياضَ مشيبي غافرَ الذَّنبِ قابلَ التّوبِ كُنْ لي عندَ ظَنّي فأنتَ خيرُ مُجيبِ
وقوله:
إلهِيَ أنتَ السّميع القريبْ وأنتَ إلى كلِّ داعٍ مجيبْ فإني عبدٌ شكورٌ مُنيبْ وإنِّي وَمَجدي وشأني وَفَنّيْ غَريبٌ غريبٌ غريبٌ غريبْ
ريادته لمسرح خيال الظل:
و لم يقف إبداع شاعرنا عند حدود الشعر بل تجاوزه إلى ابتكار مسرح خيال الظل:
فهو كما يقول الأستاذ مثري العاني : " المؤسس الحقيقي لمسرح خيال الظل فلم يسبقه في هذا المجال أحد وهو إبداع متفرد سار على هديه العديد من الذين أتوا بعده حيث لاتوجد أشكال تمثيلية ترجع إلى قبل تاريخ ابن دانيال الموصلي في أي بلد آخر لذلك فإنها الأولى من نوعها في العالم أجمع.
وخيال الظل نوع من التمثيليات يكون بإلقاء خيالات على ستار يشاهده المتفرجون، فيجد فيها لمثقفون والمتفرجون تسلية كما يجد فيه لبسطاء وسيلة للترفيه" .(مجلة الصوت الآخر)
وتعتمد هذه التمثيليات على تحريك دمي مصنوعة من الجلد خلف ستار مسدود من القماش يضيئه مصباح، وقد عرف هذا الفن باسم ظل الخيال أو شخوص الخيال".
وورد في موقع: "مصر الخالدة"( http://www.eternalegypt.org/EternalE...lement_id=1718)
وعرف أن ابن دانيال كان يؤلف روايته وينظم الأصوات ويلحنها ويحدد الأزياء المناسبة، وقد وصلنا من آثاره ثلاث روايات هي "طيف الخيال" وهي من أبدع الروايات في تاريخ خيال الظل المصري، وبها بعض الإسقاطات السياسية، و"عجيب وغريب" وهي مجموعة من المواقف لمجموعة من ذوي الحرف المختلفة بأسلوب نقدي فكه، والرواية الثالثة هي "المتيم والضائع اليتيم".
ويعبر شاعرنا عن مسرحه فيقول :
خَيالُنا هذا لأهلِ الرُّتَبْ والفَضْلُ والبذلُ لأهلِ الأدبْ حوى فُنونَ الجدِّ والهزلِ في أَحسنِ سمط وأتى بالعَجَبْ فانظُره يا مَنْ فَهمه ثاقِبٌ ففيه للِعرفانِ أَدنى سَبَبْ إذ قامَ فيهِ ناطِقٌ واحدٌ عنْ كلِّ شَخصٍ ناظرٍ واحتَجَبْ تَرْجَمْتُه طيفَ الخيالِ الذي حكى هِلالاً طالعاً بالحدَبْ مذاهبُ الفضلِ بهِ حُجّةُ فَنَطقوهُ سادتي بالذَّهَبْ