بطاقة شخصية من مذكرة شعر أبدية
(1)
عنَدمَا يزورنى وحىُ الشعرِ
يجلسُ قربى على مكتبى يزيحُ لى كتبى
ويتناولُ معَى قهَوتى ويثرثرُ كثيراً
فتارةً يكونُ ثقيلاً كالصيفِ
وتارةً يكونُ خفيفاً كالضيف
وتارةً أخرُى يكونُ متقلب المزاج حاد كالسيف
قد أفقدهُ أحياناً وأشتاقً له كثيراً حين لا يزورنى
فأسالُ عنه فى كل المحطاتِ والمطَارَات والمتنزهات
فيجدنى حزيناً بين الفواصل والكلمات
(2)
قد أُسمىَ حيناً شاعرُ الصداقة
وقد يدُعىَ الذىِ أكتبهُ وأطرزه
مالهَ وزنٌ ولاأزرارٌ ولا ياقة
ويخلو فى نظر غيرى من معايير الأناقة
كلُ ذلكَ لايغُضبنى ولا يهمنى
فأنا أصنعُ قصائدى وحدَى فى مخَتبَرى
أدونُ خاماَت كلماتىِ بتجربتى وأهندسها بلغتى
لايهمُنى أن تكونَ أخبارهَا
باردةً كثلجِ الشتاء
حارةً كقيظ الصحراء
شفافةً كزجاج الماء
داميةً كمعركةٍ سالت فيها الدماء
(3)
أنا لاأحبُ من الموسيقَى صخبهَا
ولاإهِتزاز خصرها
ولا زكامِ أوتارها
إنما أحبُ من عبيرها حين يفوح
رائحةُ الأزهار
ومن شدوهَا حين يبوح
إيقاعُ الأمطار
ومن حنانها حين تحنو
ذوبان سيوف التتار
(4)
أحبُ فيها حين تأذنُ لى معها
بالتنزهُ والخروج
فتأخذنى إلى كوخٍ بعيدٍ عن عالمى
بين أشجار السروِ والصفصاف
وتجلسُ معىِ على الحشائش
فوقَ المروج
تقولُ لى..إنظر كيفَ تشدو الطيورُ
فوقَ أغصانِ الشجر!!
كيفَ الطبيعة هنا هادئةٌ
دون البشر!!
كيف تتراقصُ حبات الندى
فوق أوراق الزهر!!
(5)
أنا لاأُريدُ من الصديقِ أكثر من
أن يكونَ لىِ صديق
لاأريدُ منه أن يحملَ حقائبَ كآبتى
ويلقى بها عبرَ نهرٍ
أو يدخلها فى حاوية طريق
كُلُ ماأريدُ منه أن يفهمَ لغتى
ويستمعُ إلى أغنية أمنيتى
ويرى كيف يسطعُ منها البريق
(6)
قد أكونُ ثائراً حيناً
أتفجرُ كالديناميتِ داخل قصائدى
خائراً حيناً وحائراً حيناً
وموتوراً حيناً آخر
لكننى..لاأنسىَ شاعريتى
لاأتركُ على أرصفةِ الحزن
تتشردُ طفولتى
لاأفقدُ معايَيَر شخصيتىِ!!
(7)
عندما ظهرت أولُ شمسٍ فى حياتى
لم أعرفُ أن هناكَ فى قلبى
بقعةٌ تتسعُ لزرةٍ واحدةٍ من الحب
كانَ شِعرىَ يومها قد قررَ
أن يرَتدى حلةً جديدةً
طرزهَا من خيوط الربيع
ولبسَ قبعةً زينها بألوانِ الغسقِ البديع
وأخذنى معه قُبالةَ ماء
وقال لى..إمضىِ إلى هناك
كانَ الطقسُ الجميلُ يومها
قد أخذَ إجازةً
دونَ أن يقدمَ للمصطافين أى إعتذار
تاركاً خلفه فى مكتبهِ الرياحَ والغمامَ والأمطار
لم أكن أملكُ يومهَا زورقاً للوصول
ولا عربةً واحدةً تجرها خيول
كانَ كل هدفى الوصولُ للجزيرة ولو سباحة بأى ثمن
وإجتزتُ الماء وحينما وصلتُ
ولامست قدمىَّ التراب
إنقشعَ الضباب وهدأت الأمواج
تبدد الظلام
رأيتُ جزيرةً لاتُرىَ
غيرَ فى الأحلام
وإنسانة تقفُ قُبالتى وتقولُ لى..
أُحبكَ..أُحبكَ
شعرتُ حينها أن أمواجَ البحرِ
غادَرته وأصبَحتَ عرائساً
كالكواكبِ والأقمار
وأن السماءَ تبدلت لسقفٍ يتساقطُ منه
البالوناتَ والفلَّ والأزهار
والأرضَ كلها أصبحت
بساطاً واحداً مزركش بالصور
الحالمة والقصور والأطيار
شعرتُ أننى تبدلتُ ملاكاً
لا إنساناً
وأننى أحيا لأول مرة وأحب
(8)
أنظرُ لنفسىِ فى مرَايا النَاس
فأرى صورة شخصٍ واحد
وأنظرُ لنفسى فى مرآتى
فأرى صورتين لشخصٍ واحد
(9)
إننى لاأؤمنُ بالروابط الحزبية
ولا بالمؤتمرات الشعبية
ولا بالصلات القبلَية
إنما أؤمنُ برابطة واحدة
الصداقَة الأبدية
(10)
أىُ عالمٍ الذى نحياه
ونعيشُ فيه كالدجَاج
محاصرين بالأسوار والبطاقات الممغنطة
والحواجز والسياج
بصماتنا محفوظة أسماؤنا محفوظة
ملامحُ وجوهنا أينما ذهبنا معروفة
تاريخُ الميلادِ مدونٌ عندهم
وشهاداتُ الوفاة والزواج
(11)
يخطرُ ببالى أن أتركَ خيمةَ أبى يوماً
أسافرُ عنها ولو وهماً
أن أتهربَ قليلاً من الأسئلة المتخمة
أين كنتَ؟مع من كنتَ؟
منذ متى كنتَ؟ وكيف النهارُ قضيته؟
وكيفَ الليل نِمتَه؟
أن أتنصلَ من أسئلة أمى التى تغرقنى ليل نهار
هل جعتَ؟هل أكلتَ؟
هل شربتَ؟هل نجحتَ؟ هل درستَ؟
إننى أبحثُ عن فندقٍ بعيد لا يسألنى
هل ستتأخرُ الليلةَ ياسيدى؟
أبحثُ عن حبيبةٍ تسألنى
متى؟ متى فى الغد الموعدِ
أبحثُ عن شارعٍ وحيد لا يحاسبنى
لم تسيرُ على أرصفتى؟
أبحثُ عن وطنٍ سعيد
لا يفُقدنى معايير حريتى!!
(12)
لم أتصور أن يمضَى قطارَ العمر بهذه السرعة
كل تذاكر الرحلات
التى تُقطعُ فيهِ للأمام
لارجوعَ للخلفِ أو للوراء
لامحطةَ عنده تسمى محطة الذكريات
إننى أبحثُ عن محطةٍ ترجعنى
لطفولتى قليلاً
تعيد لى برائتى وأنا صغيراً
سألتُ كل المسافرين
أين تقع تلك المحطة؟
لكننى لم أجد أحداً يجيب سؤالى
كان كل هدفهم الوصول
فقط لأهدافهم
(13)
لم أحلمُ يوماَ أننى سأدخل
فى مغارات
ومتاهات الأعمدة الإنشائية
ولا فى تفاصيل ووصفات
الخلطات الخرسانية
ولا فى قاعاتٍ تتيبسُ فيها
المشاعرُ الإنسانية
لم؟..كيف؟..ومتى؟..
أتت تلك المعادلات الهندسية
إنما كانت أحلامى تصبُ
كلها فى نهرٍ واحد
تنقاد كالمشاعر وحدها
فى دربٍ واحد
لجزيرة عشقٍ رومانسية
(14)
أنا لا أريدُ أن أكتبَ
موسيقى مشاعرى
على نوتة مستفعلن مفَاعل
فالضوءُ الصادر من أماكن الصلاة
لايسطعُ من مشَاعل
انا قبلتُ أن أدونَ أسماءَ قصائدى
بأسماء أصدقائى
بأحزانى وأفراحى
بدموعِ السنابل
(15)
تسألنى لم أُحبُ الغربَ
بطيشهِ وجنونه
بعقلهِ وعيونه
بعلمهِ وفنونه
أقولُ لكَ..أن أمةً
تبرأت من جذورها
وتبرأت منها جذورها
ولم تجد غير أنفسها تقاتل
لاتستحقُ بقعةَ أرضٍ
واحدة تقبعُ فوقها المزابل!!
(16)
لا أريدُ أن أصنعَ من الوطنِ
قصائداً وقضية
ولا أريدُ أن أرتدى السياسةَ
معطفاً شتوياً وقبعةً صوفية
إن الوطنَ أكبُر منى وأكبر من غيرىِ
ولكن يكفى فخراً أنَّ لى منه هوية
(17)
إننى أحلمُ ذات صباح
أن الجراحَ حزمَت حقائبها
وغادرت من هنا
أن النواحَ وجدَ بيوتَ عزاءٍ
غير بيوتنا
أن الرماحَ شُرعت لصدورٍ
غير صدورنا
أن الكفاحَ صارَ ينبتُ كالسنابلِ
من حقولنا
للأسف أن أحلامَنا أوراقَ أشجارٍ
فى فصل خريف
تذروها الرياح
(18)
أعلمُ أن القصائدَ التى لاتبدأ وتنتهى
دونَ الشِيفرات اللفظية
والمقبلات اللغوية لا تكتبُ لها الحياة
ويطمرُ عليها ترابَ الِنسيان
لكننى أعلمُ أنَ أحياءاً يموتون وهم أحياء
وأمواتٌ كثيرون يحَيوَن وهم ميتون
أنا قررتُ وأخترت أن أحيا وأموت
فى عيون وقلوب من يحبوننى.
www.halabi.de.vu