تحت ظلال الصمت العربي

هذه الحرب .. على الفلسطينيين

د / لطفي زغلول

حرب الظلام ، حرب التجويع ، حرب الإغلاق والحصار ، هذه الحرب الوحشية على قطاع غزة هاشم ، بكل إفرازاتها وأبعادها تؤكد على حقيقة هامة وخطيرة تتمثل في أن فصول النكبة الفلسطينية لا تقف عند حدود ، وأن المزيد من المشاهد الكارثية ما زالت تضاف إلى هذه الفصول ، وسوف تضاف . والمضحك المبكي في الأمر أن هذه الحرب بكل شراساتها وقسوة تحدياتها ، تجري فيما يفترض أنه زمن بدايات مفاوضات الحل الدائم ، وإنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الذي تمخض عنه لقاء أنابوليس الأخير .

إلا أن المفترض شيء ، والواقع شيء آخر بعيد عنه بعد السماء عن الأرض . وفي غمرة هذا المعترك الدامي ، فان غزة ببلداتها ومخيماتها كشقيقاتها في محافظات الشمال الفلسطيني ، لم تعد تراهن منذ زمن بعيد على أي كائن من كان ، وهي تخوض غمار معترك حقها في الدفاع عن شرعية قضية وطنها السليب وشعبها المنفي في الشتات ، أو المحاصر في كانتونات الوطن . وهي كشقيقاتها لم تتأفف ولم تتذمر ولم تتخاذل أو تتراجع قيد أنملة عن مواقفها وثوابتها ، ولم ترفع يد الشكوى الا لله جل جلاله .

لقد عرف الفلسطينيون طوال عقود من تاريخ نكبتهم المستدامة أشكالا وألوانا لا حصر لها ولا عد من الحروب عليهم . وها هو الإحتلال ، تحت ظلال الصمت العربي ، يضيف على هذه القائمة الطويلة من أساليبه العدوانية إغلاق المعابر ، وقطع الغذاء والدواء والوقود والكهرباء عن شعبها شيبا وشبانا ، أطفالا ونساء ورجالا ، لعله هذه المرة ينال منالا ، حاول مرارا وتكرارا أن يناله ، وهو على يقين بأنه لن يناله مهما كانت التحديات .

إنه السيناريو ذات السيناريو. إنها غزة مستهدفة ، مثلها في ذلك مثل شقيقاتها الفلسطينيات في كل مكان . الإجتياح تلو الإجتياح . الطائرات تقصف ، تدمر ، وتغتال . الدبابات تزرع الموت والخراب . الجرافات العملاقة تهدم وتجرف وتزيل المباني والمنشآت والمعالم ، فلا تبقي على شجر ولا حجر . والمحصلة مزيد من الدم الفلسطيني يسفك ، ومزيد من الأسرى والمعتقلين في غياهب سجون الإحتلال ، والأهم من ذلك مزيد من التحدي الفلسطيني والثبات على الهدف .

ورغم أن الوطن مستهدف جميعه ، إلا أن غزة بكامل قطاعها – ولغايات في نفس الإحتلال الإسرائيلي – أصبحت هذه الأيام مسرحا مستداما لعمليات اجتياح تدميرية تستهدفها . إن الإحتلال الإسرائيلي ليس بحاجة لأي مبرر ليمارس ما يمارسه فيها ، وبرغم ذلك فمبرراته جاهزة ، وتهمه معدة يدلي بها في كل مناسبة ، وعلى كل منبر إقليمي ودولي هادفا من وراء ذلك التغطية على دوافعه ونواياه العدوانية .

إنها الحرب على الفلسطينيين ، وليس لها شكل ولا مضمون آخر ، إلا أنها الحرب . وقد أصبحت أهدافها معروفة للقاصي والداني ، للفلسطيني وللعربي تحديدا . إن أي ذي بصر وبصيرة ، لا يمكن أن يفسرها إلا على أنها تأتي في مسلسل المساعي لتصفية القضية الفلسطينية من جذورها ، أو بصحيح العبارة ما تبقى منها ، وفرض الحلول الإستسلامية على شعبها الذي أثبت على مدى ستين عاما ، هي عمر نكبته ، أنه غير قابل للإنكسار والهزيمة ، أو التخلي عن ثوابته الرئيسة ، مهما كانت تضحياته وآلامه ومعاناته . وكل ذلك يجري والعالم العربي صامت صمته المريب ، يتفرج دون أدنى حراك فعلي .

ان الفلسطينيين وحدهم في المعترك . وهذه حقيقة لا جدال فيها . وإسرائيل تحاربهم على جبهات عديدة . ومثالا لا حصرا جبهة الجدار الفاصل الذي أشرف على الإنتهاء . وهو ماض في افتراس الأراضي الفلسطينية وتدميرها . وهناك جبهة الإستيطان التي ما هدأ لها هدير في توسعها الأفقي والعمودي وتسمين ما هو قائم . وهناك جبهة الإغتيالات البرية والجوية . وهناك جبهة الإجتياحات شبه اليومية . وهناك جبهة الحواجز والإغلاقات وحظر التجوال التي تتحكم بحركة البشر ، فأعادت الانسان الفلسطيني إلى عصور سحيقة ، فقد فيها أبسط حقوقه الإنسانية .

إن هذه الحـرب على الفلسطينيين ليست جديدة ، وإنما هي قديمة قدم القضية الفلسطينية ، وفي ذات الوقت فهي مستمرة ، الا أن وتيرتها تتباين من آن الى آخر ، وقد حملت السنوات الست ، وتحديدا منذ الإجتياح الإسرائيلي الأول للأراضي الفلسطينية في العام 2001 ، وحتى هذه الأيام في ثناياها من شرور الحرب وشراستها وأحقادها وتحدياتها ما لم تحمله كل سنوات النضال الفلسطيني .

ومع ذلك فهناك ما هو جديد جدا فيها وهو أنها أصبحت " حربا على الفلسطينيين " وحدهم دون أمتهم . ونحن لا نجابي الحقيقة ، ولا نتجنى عليها حينما نقول إن الفلسطينيين أصبحوا وحيدين في الميدان ، ليس لهم أي عمق عربي ولا إسلامي .

إن الفلسطينيين على يقين أن كثيرا من العرب قد أصبحوا ينظرون إلى القضية الفلسطينية من منظور سياسي قطري ضيق مجرد من بعده القومي ، متجاهلين أنها ما كانت في يوم من الأيام ، ولن تكون إلا قضية تاريخ مشترك ومقدسات عقيدة يفترض أنها تخص العرب والمسلمين جميعا . وهل القدس بأقصاها المبارك ، وصخرتها المشرفة ، وبقية مقدساتها الأخرى تخص الفلسطينيين وحدهم ؟ . وهل هي مجرد عاصمة لدولتهم العتيدة ؟ . كلا وألف كلا ، فالقدس أكبر من ذلك وأقدس وأعم وأشمل ، شاء من شاء وأبى من أبى .

وفي معترك هذه الحرب الشرسة فإن غزة وشقيقاتها تعلم يقينا أن الولايات المتحدة الأميركية وتحديدا في عهد إدارة الرئيس جورج بوش الإبن ترى وتسمع وتعي خطورة ما تفعله الجرافات والدبابات والصواريخ الإسرائيلية في كل الأراضي الفلسطينية . وهي تدرك أيضا وتعلم مسبقا ما تخطط له السياسة الإسرائيلية التي تستمد قوتها من السياسة الأمريكية التي أصبحت جزءا لا يتجزأ منها . وهي تغض النظر متجاهلة بحر الدم الذي تغرق فيه هذا القطاع الفلسطيني الباسل الذي لا يعرف كبقية شقيقاته الركوع ولا الهوان .

إلا أن الأنكى من كل ذلك أن تقرأ أميركا هذا البحر من الدم الفلسطيني المسفوح على أنه يأتي في إطار حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها . وهي بهذا تصم أذنيها ، وتغمض عينيها عن حقيقة ما يجري . وهي تصر على أن تستقرىء المشهد الفلسطيني الكارثي خارج إطار حل مشرف قائم على إنهاء الإحتلال الإسرائيلي ، ضمن معادلة تسوية عادلة ومشرفة ، تكفل استعادة الشعب الفلسطيني لحقوقه التاريخية التي كفلته له الشرعية الدولية .

وإلى هنا ثمة سؤال يطرح نفسه بإلحاح : لماذا يلوم الفلسطينيون الولايات المتحدة والأمم المتحدة والإتحاد الأوروبي والمجتمع الدولي برمته وهم يعانون ما يعانون من ظلم وصمت ولامبالاة وعدم اكتراث ذوي القربى ، إنه المشهد العربي الذي تغير كلية ، فتغيرت معه الإهتمامات العربية وتبدلت الأولويات ؟ . وعلى ما يبدو ، وهذه حقيقة لا جدال فيها ، فإن القضية الفلسطينية قد غابت هذه الأيام عن الأجندة العربية .

خلاصة القول إن الاحتلال الإسرائيلي الذي هو نتاج أحمق للسياسة الإسرائيلية قد فشل على الدوام في تمرير مخططاته هذه ، لأن الفلسطينيين بكل بساطة أصحاب حق مشروع ، وليس لهم أية نوايا عدوانية تجاه الآخرين ، وإنما كل أهدافهم تتمحور حول استرجاع هذا الحق السليب الذي بات القاصي يعرفه قبل الداني . والفلسطينيون جميعا يدركون أن الإحتلال الإسرائيلي غارق في مستنقع أوهامه ، كما هي القوة الغاشمة التي تسانده وتدعمه غارقة في مستنقع العراق ، وأنه لا بد يوما ما راحل لا محال .


وسلام الله عليك يا غزة هاشم ببلداتك بمخيماتك ، يا عروس الجنوب الفلسطيني ، وأنت تتحدين وتتصدين ، وتقفين لا تركعين في وجه الإعصار ، تنافحين عن الشرف الفلسطيني ، وتسطرين صفحات من المجد والتضحية والفداء . سلام الله عليك وألف رحمة على شهدائك الأبرار وجرحاك وأسراك ، أيتها الإضاءة المشرقة سنا في ذاكرة التاريخ الفلسطيني .

سلام الله عليك أيها الجرح الفلسطيني المكابر في ركب التحرير والحرية انتظارا لفجر الخلاص . سلام الله عليك من كل مدينة وقرية ومخيم في فلسطين جنوبا ووسطا وشمالا وفي الشتات . وألف قبلة على جبينك المكلل بالغار من نابلس جبل النار .