الفصل الخامس .... غروب داكن
خرجت مع الريح مواقيت لا تملك أي منطق, وكأن الخيبة تكمن خلف النوايا الطيبة. ففي تلك الليلة غابت القرية تحت ظلال الضباب المحيط بكل ما يغفو داخل عتمة الليل الحزين. أتي الصباح لا طيور تغرد فيه ولا ابتسامة للزهور. فلقد خرجت الروح القلقة إلى آفاق أوسع, كي تحلق في ارتدادات الأزمنة الماضية, وكأنها تتراقص على أوتار قيثارة أزلية فوق عذابات وهمية, هي حقيقية حين تأتي من منظور جسدي. رحلت الحياة من الغرفة المطلة على الساحة الحجرية, وبقي الصمت على الجدران الباقية, كما تتراءى النظرة حين تصبح ذكرى. يأتي الصوت كرجع الألم البعيد, ويتعالى ليخترق جدران الحياة المتبقية حول النفوس المتعبة من توالي الأيام بلا انتهاء. في ذلك الصباح استفاقت تلك المرأة على رعشة البرد تنسل إلى ثنايا الروح منها , لم تكن تدري من أين تتسلل النسائم الصامتة, أصبحت تشعر بالوحدة في أرجاء البيت وكأنه القفر المحيط , وحيدة خائفة ترتاب من تسلل الضوء إلى الجدران, تسرع إلى غرفة ابنها, فيقابلها الصمت. يستمع الكون لصرخة ألم ونداء, ولوم وحزن يقطع أوتار العزف, حين يغني الصبح وبكل غباء أغنية البقاء.
يسرع عزيز نحو بيت أحمد ويسأل:
ماذا هناك؟.
فتجيبه الدمعة في عيون والدة أحمد:
رحل ولم يبق سوى البكاء.
تتراكم الدنيا أمام البيت, ويرتسم على الوجوه الحزن. وتبدأ مراسيم الانتهاء حين يسافر الجسد نحو الغابة, تحمله عربة قش تجرها الخيول نحو المساء. يسير الآخرون خلف الراحل نحو الماضي, حيث تتراكم ملامح الأجساد على الذاكرة الأزلية, ويبقى الرجع الحزين. هو الدرب إلى الغابة وكأنه العبور نحو حقيقة لا نستطيع الاحتفاظ بأصدائها بين أحلامنا لمدة طويلة, فنحن لا نحتمل في العادة أن نكون على أطراف تنبئ بالنهايات.
ضباب وبعض البرد وسكون, ودرب تغوص به الأقدام , وعيون ترسم على الأفق حزناً وضعفاً. كان فارس يجلس بجانب الجسد المسجى على العربة, ولا يملك أن يكون سوى صوت مكتوم تحت أنقاض الحزن, وكأنها السكينة بعد عاصفة مدمرة. أو كزلزال يغطي ملامح ما كان قبل التراكم, لا يرى ولا يسمع سوى أصوات بعيدة تحبسها الغفلة خلف الدهشة, حين يرتسم الرحيل على الوعي.
وينتهي اليوم إلى قبر تحت الشجرة الأم. وتعود الخطوات مثقلة بالصمت, أمام الرحيل الأبدي. هو الحزن في هذه اللحظة يتشكل على الأفق رداء, وكذلك السكينة, حين يخرج الصبر إلى الطرقات ليسدل على الفراق عيوناً تنظر للسماء, لتعود إلى الأحداق حيث التأمل والصبر.
يخرج فارس وعزيز من بيت أحمد في المساء, بعد أن غادر معظم القادمين لمواساة والدة أحمد, ولا يبقى هناك إلا النساء. وقف الاثنان أمام المقهى, ولم يكن أحد منهما يعرف ما يقول ولا إلى أين يتجه, ينظر عزيز إلى فارس ويقول:
لازلت لا أصدق حتى الآن بأنه قد رحل, ولا أدري ما سأفعل بدونه. كنت في السابق شيئا من أشياء المقهى, كتلك المقاعد أو كمنظر من المناظر المعلقة على الجدران, لم يكن أحد ينظر إلي على أنني إنسان له إحساس أو وجود, كنت أتحرك بين الجميع وكأني شيء تافه لا يقدر إلا على أن يحضر الشاي وأوراق اللعب. كنت على هامش الحياة لا أكاد أثير غباراً كما تفعل أقل نسمة هواء, ولا أملك إلا أن أبقى وحيداً بعد أن يغلق المقهى دون أن أعلق بذاكرة أحد. هو فقط من كان يعاملني على أني إنسان له شعور وعقل. كان يحادثني بأمور لم يكن ينتظر مني أن أستوعبها بالكامل, لكنه كان كمن يزرع بذوراً في أرض لم تزرع من قبل, ويغمرني بعطف وحنان لم أكن أنتظره من أحد غيره, كم أفتقده وكم هوا لحظ العاثر حين أبقى وحيداً من جديد, لذلك لن يخرج الحزن من قلبي أبداً.
أعرف ما تشعر به, ولكنك لم تعد ذاك الشخص القديم. فلقد أصبحت تفكر بطريقة أكثر نضجاً وستبقى ذكراه تسكن في أعماقك وكلماته أيضا, هي مشيئة الله ولا نعترض عليها أبداً.
التفت عزيز إلى فارس وقال:
تعال لندخل المقهى, أراك بحاجة إلى فنجان من القهوة بعد كل هذا التعب والإرهاق.
شكراً. أفضل أن أعود إلى البيت, فأنا بحاجة إلى أن أكون وحدي. أريد أن أفكر فيما يجب علي فعله, فلقد قررت الرحيل عن القرية إلى مكان آخر.
ما هذا الكلام؟. والمدرسة وعملك , هل تريد العودة إلى مدينتك وأهلك؟.
لا, بل أريد أن أرحل إلى أي مكان آخر حتى أبدأ من جديد, ولكي أقرر ما أريده من الحياة وما تريده مني. للأسف يا عزيز, فبعد ما حصل لأحمد أصبحت غير قادر على المتابعة أبداً, وأحتاج إلى وقت طويل كي أختار ما يجب علي, هذا إن استطعت أن أملك الاختيار. صرت لا أحتمل البقاء هنا ولن أقدر أن أعيش في المدينة من جديد, وخصوصا حين تنتصب المنارة أمام عيوني. وقد صرت أكره البحر.
إلى أين سترحل إذاً؟.
لست أدري, ولكني سأختار مكاناً آخر, وأفكر أن اذهب إلى العاصمة فهناك مع الضجيج, يمكن أن أصبح مفقوداً وبدون ملامح أو معنى. حتى أجد نفسي من جديد.
بدأ البرد يدخل إلى الأجساد الواقفة أمام الحزن, وفي الأعماق منها رعشة اغتراب أمام ما سيكون عليه القادم من الأمور. يفترق الاثنان نحو الرضوخ لخطوات تأخذهم نحو غد من نوع آخر.
هي فترة تأتي بعد الفراق حين يشعر الإنسان بالضعف, حيث لا معنى للمكابرة. فالشعور بالوحدة والغربة هو أمر يخص الروح, حين تقف البصيرة عاجزة أمام الهياكل الغامضة. فالموت كما الولادة, والسعادة كما الحزن أشياء لا نملك الأمر فيها. كثيرة تلك المتاهات التي تبدأ حين تنتهي, وما أصعب أن يحتجز الإنسان داخل متاهة يلفها الضباب من كل جانب, حينها لا يملك سوى الوقوف أمام أي مفترق وينتظر حتى يتلاشى الضباب, أو أن يسارع الخطى نحو أول درب, وغالباً ما يكون بداية لمتاهة أخرى. وليس هناك أفضل من عيون تنام وهي تحدق في اللاشيء وتصبر, حتى تسمو الروح فوق الجسد وتحلق فوق جدران التشكل, من هناك فقط نستطيع أن نتبين بأن المتاهة نوع من وهم, والهياكل الغامضة لا تتعدى أن تكون سوى منعطفات حادة يتشكل منها درب طويل, يؤدي إلى حقيقة لا تزال مجهولة. لان النهايات على أرض التجربة غالبا ما تعود بنا إلى نقطة البداية لمتاهة من نوع آخر.
لم يكن اليوم الثالث من الحزن قد انتهى, فقد كان المساء يأتي مع تلك الحافلة, حين وقفت أمام الساحة الحجرية لينزل منها القادمون من العاصمة, نزل الجميع ولم يبق سوى أن تكون آخر من نزل. رداء أزرق ومعطف رمادي ووشاح, وضعت الحقيبة الكبيرة على الرصيف وبدأت تلتفت إلى ما حولها, وكأنها تتحقق من دقة الوصف حين كان يحدثها عن القرية والساحة, وعن الأشجار المصطفة على جوانب الدرب. تلتفت نحو البناء القديم, وكأنه المقهى يعود من ذاكرة الصيف لينتظرها حين تأتي.
اقتربت من المبنى لكي تنظر من خلال الباب الزجاجي, كان المكان يعبق بالدخان, وبوجوه لا تلتفت إلى أي قادم نحو المقهى, فالشتاء لا يخبئ خارج الأبواب سوى البرد. فتحت الباب ونظرت إلى الجالسين, ولم ينتبه إليها أحد. هو عزيز من التفت نحوها وهو يستغرب ذلك الحضور, لامرأة تقف على باب المقهى. فاقترب وقال:
مساء الخير, هل أستطيع أن أساعدك في شيء؟.
مساء الخير, أجل... أريد أن اسأل عن بيت الأستاذ أحمد.
الآن عرفت, جئت للتعزية أليس كذلك يا سيدتي؟
أية تعزيه؟.
للأسف أقول, لقد توفي الأستاذ أحمد منذ يومين.
ماذا؟.
أجل هو كما سمعت, وذلك هو بيته, اذهبي من أمام تلك الحديقة الصغيرة وستجدين الباب أمامك.
سمعت ما قاله عزيز وكأنها لم تسمع. نظرت إلى الحديقة الصغيرة ورأت النافذة المغلقة, ثم استدارت تنظر إلى المكان وكأنها لم تكن هناك ولم تسأل. لم تقل شكراً, ولم تعيد النظر إلى الواقف وهو حائر من تلك المتسائلة ومن تكون. نزلت الدرجات وهي تجر الخطى, كان الباب مفتوحاً على مصراعيه, دخلت إلى البيت ووجدت النسوة يجلسن حول مدفأة قديمة وبدون حديث, نظرت إليها والدة احمد وقامت لتسلم عليها, ولكن الفتاة لم تلتفت. بل جلست على أطراف المكان وبقيت تنظر إلى وجوه الأخريات, ثم أسدلت الجفون على عيون لا تكاد تفقه معنى المشاهدة, ولا واقع ما يكون عليه الحدث. بقيت صامتة كئيبة تجول بنظراتها حول المكان, وأحيانا تغيب خلف غربة من نوع جديد لم تكن تعهدها في السابق قط. ويمر الوقت وكأنه الانتظار أمام أقدار تجبرها على أن تكون, وتغادر النساء مودعات ومواسيات لتلك المرأة الحزينة. وبقيت سارة في مكانها, فهي تعرف الآن من تكون والدة أحمد. ويغادر الجميع, وتبدأ تلاحظ في عيون من بقي من النساء, نظرات التساؤل والحيرة فيمن تكون الفتاة الجالسة على أطراف المجلس, دون أي حديث أو مواساة.
لم يطل الوقت حتى اقتربت منها والدة أحمد, تريد أن تسألها عمن تكون. وما أن نظرت سارة إلى عيونها حتى انسابت الدموع غزيرة على الوجه الحزين واقتربت لتعانق المرأة وكأنها تعانق الصبر بكل الضعف وقالت:
حزينة مثلك, و لك طول العمر.
و لك أيضا يا ابنتي, ولكن من أنت؟.
كم كنت أتمنى أن نتقابل في وقت أفضل, وبشكل تتمناه كل فتاة حين تلتقي بأمها.
نظرت إليها والدة أحمد من جديد وقالت:
من أنت يا ابنتي؟ شيء في داخلي يقول بأنك....
نعم يا أمي أنا سارة, جئت حين علمت بأن أحمد مريض, رسالته لم تكن سوى اعتذار الألم. جئت حين علمت بذلك, ولكن بعد فوات الأوان, رحل أليس كذلك؟, ولماذا يرحل ويتركني وحدي, ألا يعلم بأني لازلت أنتظر؟.
هوني عليك يا ابنتي, هو أمر الله ولا نملك من الأمر شيئا. تعذب كثيراً من المرض, ورغم ذلك لم يكن يكف عن ذكرك قط. هوني عليك يا ابنتي فنحن لا نملك إلا أن نصبر على ما أراده الله.
عادت سارة إلى مكانها ثم جلست والدة أحمد بجانبها, وابتدأت بقية النساء بالمغادرة إلى انتهاء طقوس الحزن كواجب للمواساة. كانت سارة تشعر بالتعب الشديد ظاهرا على وجهها الأصفر الشاحب, أخذتها المرأة إلى غرفة أخرى لكي تنام هناك في تلك الليلة. ولم يعد على سمع الصمت سوى الصراخ المكتوم بين ثنايا الروح البائسة, بقيت تتذكر كل ما كان يحدثها عنه, كتلك اللوحة والأوراق, ونافذة تطل على الساحة والمقهى, وسماء كانت تؤنس فيه التواصل مع الكون الهادئ, وكأنه الغموض يلتجئ للإصغاء فقط .
استلقت على السرير وهي تفرغ ما تحمله الذاكرة في حوصلة الطيور المهاجرة إلى ربيع آخر أو صيف. ولكن أين ومتى؟, هي لا تدري, فهي لا تملك سوى أن تغمض العيون المتعبة الحزينة, حتى يتناهي الإرهاق إلى أعماق الأرض, فيعود إليها الوعي الآخر في الصباح. أيكون الفجر بلا شمس أو ضياء؟, أم يكون الفجر آخر ما يرتقي إلى أصداء الأحداث القاسية؟. هي لا تعلم ولا تفكر في شيء سوى الضعف يخرج من لوم وخيبة, فسرعان ما ستكره تلك العيون أن يأتي المساء, ولكن هناك دائما من يمد اليد إلى من تغوص أحلامهم في الرمال المتحركة, وكأنها المتاهة حين تفقد المعرفة وسيلتها للارتقاء نحو القوة والعزيمة. ويكون الليل آخر من يرسم الظلال على الخطوات, وكأنه يحفظ المعاني في كتاب قديم, أقدم من كل التكهنات عن السعادة والشقاء, وعن الحياة والى أين تسير بنا دون أن ندري وكأننا ندري. أهو الحلم أم تأثير الرغبة والنشوة؟ أم هو الأمل حين تنزلق بنا الدروب نحو هاوية الضعف؟.
يأتي الصباح, وتستفيق سارة وحولها جدران غريبة, فهي لم تتحقق من زمن الأحداث التي انهارت من أعلى القمم البيضاء. فهناك كان يقيم الحلم بين الثلوج المتراكمة على مرتفعات الأمل والانتظار. منتهى الهزيمة حين نستفيق على بقايا الذكريات في عالم تملؤه الجدران الغريبة, وملامح لوجوه وأماكن تنتمي إلى زمن صار قديماً, منذ أن رحل القادم خلف غياب شموس الأزمنة العتيقة.
تخرج من غرفتها لتجد والدة أحمد مشغولة بتنظيف البيت, وإعادة الأشياء إلى أماكنها السابقة, تقترب منها وتقول:
صباح الخير, هل أساعدك في شيء؟.
صباح الخير يا ابنتي, لا عليك فلم يبق الكثير, لحظات وأكمل ما بيدي. اجلسي هناك, فلقد أعددت لك القهوة حين شعرت بأنك قد أفقت من النوم.
أخذت فنجان القهوة وبدأت تتجول في البيت وكأنها تبحث عنه بين الزوايا, نظرت من نافذة الصالة نحو الحديقة الخلفية, ولاحظت المقاعد والطاولة الصغيرة. لقد حدثها عن جلوسه هناك في الصباح لشرب القهوة, قبل أن يغادر البيت نحو المدرسة. أخذها الحزن نحو الشرود, وبقيت تسترجع أصداء الأحاديث القديمة من بين الرؤى, حتى التفتت إلى والدة أحمد وهي تناديها لكي تأتي لتجلس قربها أمام المدفأة. تقترب منها وتنظر إليها بعيون لا تجرؤ على البكاء, أمام صبر المرأة وقوة احتمالها مع كل ما هي به من ألم وحزن.
الجزء الرابع
الفصل الأول .... دفء الذكريات
استكان الحديث قرب المدفأة إلى استحضار لتلك الروح المغادرة نحو البحر الواسع, وتكاد الكلمات تخرج من عيون ترنو إلى المواساة, حين يتراءى طيفه أمام المخيلة التي ترفض أن تصدق ما حصل. لم تكن المخيلة من تتغاضى عن منطق الرحيل, بل هي الروح التي لا تعي معنى الفناء, أحياناً يلتجئ العقل إلى النسيان أو التغاضي حين يختفي الآخرون عن منطق الحواس والتواجد, فتعود الحياة بنا نحو استمرار من نوع آخر, وبمعطيات جديدة وكأنه التأقلم من أجل البقاء. إلا إذا تعدى الأمر حدود الجسد نحو وعي يخرج من أعماق لا تعرف معنى التواصل مقترنا بالجسد فقط. ولا تفقه معنى الانتهاء إلا كانتقال من حالة إلى أخرى.
تأخذ سارة بالتحدث مع والدة أحمد عن حياتها السابقة, وعن لقاءها بأحمد في ذلك الصيف. هي لم تكن كبقية الفتيات في المدينة, ولم يكن يعنيها أن تمارس الحياة من منظور الرغبة الفطرية, ولا من أجل أمومة تتشكل من تغييرات جسدية, فهي لم تكن تعنى بأي تأثير مادي لكي تتواصل من خلاله مع المجتمع ومع التكوين الأسري التقليدي. كانت سارة تبحث عن إرضاء لرغبة داخلية في أعماقها, ألا وهي البحث عن حقيقة الغربة التي تشعر بها من كل ما يحيط بها, لم تكن تقتنع بكل ما تفرضه الموروثات عليها. فقد كانت دائمة البحث عمن يملك نفس المعاناة.
كانت تجد في والدها نوعا ممن تخصهم تلك الحقيقة حين كان يرفض ويملك الاختيار, وكانت تجد في حارس المنارة مثالاً للإنسان الواعي لكل ما يحيط به, فهو يعلم كيف يصل إلى الرضا والاختيار ويملك أسلوب الإقناع بالحكمة والصبر, مع أن الكلمات لم تكن تساعده كثيراً لأنها لم تكن في يوم من الأيام سوى لغة جسد لا أكثر, فهو يعلم بأن لغة الروح تكمن في الصمت وفي الإصغاء. طبعا لم تكن سارة قد تحدثت بكل ذلك لوالدة أحمد, ولكنها كانت تنقل ما حصل معها عبر مفهوم آخر لمعنى الحياة, لذلك أحبت أحمد دون أن تناقش الأمر بمنطق العقل ولا العاطفة قط, بل هو إحساس صامت كان يحملها على أن ترى به الإنسان الذي يملك أن يفهمها ويعرف كيف يسير معها عبر الدروب المؤدية نحو السكينة والانسجام. وأخبرتها أيضا عن والدتها وطريقتها في الحياة, وكيف أنها تركتها هناك, هي وذلك الشاب يحضرون لحفل الزفاف في اليوم التالي, وخرجت من كل ذلك في الصباح دون أن يشعر بها أحد سوى والدها, الذي وقف خلف نافذة غرفته ينظر إليها مودعاً حين استقلت السيارة نحو محطة القطار. كانت تتمنى أن تأتي إلى هنا وتجد احمد كي تبقى معه في هذه اللحظات, ولكن وكأنها الحياة تأخذها نحو حقيقة لا تسكن أرض المنطق أبداً.
فجأة يتوقف الحديث على صوت الباب, فتخرج والدة أحمد لتفتح.كان المساء يحمل أولئك الباقين من زمن الحديث عن القرية, حين يدخل فارس وعزيز. هي زيارة كالرجع لأصوات غابت هناك, في عالم لا يعود منه الطيف ولا حتى الأحاديث القديمة. فيكون اللقاء بسارة بعضا من تلك الدهشة, حين تعبر مجرى الأحداث, ألوان تأتي من خلف شتاء ربيعي باهت. فهي كقوس قزح حين يرتسم على السماء, هكذا كان تأثير الخبر حين أخبرتهم والدة أحمد بأن الضيفة الغريبة لم تكن سوى تلك الحزينة القادمة من جهة البحر, ليكون لقاؤها بأحمد في وقت يخرج من زمن اللحظة, لكي يكون كسحابات تسافر بها الريح مسرعة نحو الأفق البعيد. تخرج سارة لتتعرف على فارس وعزيز, فهم الصديقان حين كان الحديث عنهم يرتسم على ذاكرة الصيف, لقد حدثها عنهم كثيراً حتى باتت تعرفهما, وكأنهما بعضا من أهزوجة الفرح القديمة, تلك التي غابت وهي تتلاشى خلف شتاء ورحيل.
كان عزيز ينظر إلى سارة وكأنها جاءت مع الحكايا من عالم آخر, فهي كالكلمات الرقيقة حين كانت تخرج من بين أحاديث أحمد. ينظر إليها وكأنه يرى صديقه الراحل يعود إليه عبر نظرات عيون أخرى. لم يكن يعرف كيف يبدأ الحديث, فهو يراها وكأنها الرمز لبقايا كانت ستنهار في أعماق روحه. فيخرج من وعيه وكأنه التلعثم حين قال:
كم أنا حزين من أجلك سيدتي, ولو تعلمين ما أشعر به, فقدت كل أمل لي في الحياة بعد أن غاب عنا. أشعر بالحرج أن أقول, باني سعيد لرؤيتك تأتين إلى هنا وكأن أحمد لم يغادر, بل هو يعود إلينا من خلال وجودك بيننا. أشعر به الآن حين تحلق روحه فوق الساحة والبيت.
أشكرك على مواساتك, وأشعر بحزنك ولكننا لا نملك سوى الصبر.
كان فارس يستمع دون أن يقول شيئا, فهو يقف أمام سارة وحزنها ووفائها, ويشعر بالسخط على الوقائع, وكأنه يبتدئ في رسم التمرد على البقاء. فهو لم يعد يحتمل أكثر بعد أن رآها تعود, ولمن تعود؟.
التفتت سارة نحو والدة أحمد وقالت:
إن سمحت لي, أريد أن أذهب لزيارة قبر أحمد, فهل تذهبين معي؟.
أجل يا ابنتي سأذهب.
نظر عزيز إلى فارس وقال:
ونحن أيضا يجب أن نذهب إلى هناك.
أجل, إن لم يكن هناك مانع أو حرج من ذهابنا.
قالت لهم وكأنها تخرج من إيمان قديم:
إن الروح تفرح لزيارة الأصدقاء والأهل.
كان هذا هو إيمان المرأة, أيكون هذا الكلام حقيقة؟, أم هو بعض من التغاضي عن الرحيل؟. لا أحد يدري, ولكنها الكلمات تخرج من الأزمان مع عفوية الأمنيات لترتسم على مسامع الزمن. وبدون أن تخشى أن يخرج من ثنايا العقل منطق مجرد من أي عاطفة أو حس, ليقول عكس ذلك. فالإنسان قد امتلك الوعي قبل أن يمتلك العقل, ومن الوعي يتولد الإحساس بالضعف تجاه تلك القوة المسيطرة الغامضة. وكم يحتاج الإنسان إلى الالتجاء لتلك القوة حين تغلبه الطبيعة وحين يأتيه الألم من بين ظلال الأيام.
يسير الجميع على نفس الدرب المؤدي نحو الغابة, وتسير سارة مع أحاديث تخرج من ذاكرة الصيف عن الغابة والكوخ وعن الرجل هناك. تقترب بها الدروب نحو البيت على التلة, فتنظر نحوه وكأنها تشعر به, وتتساءل إن كان هو البيت المقصود, حين اخبرها أحمد عن أمنيته بأن يكون لهما حين تأتي هنا.
نظر إليها عزيز وعرف بأنها تتحقق من أن يكون هو البيت المقصود, فاقترب منها وقال لها:
كان حلماً لأحمد, فقد تمنى لو يشتريه في يوم ما.
وصل الجميع إلى الكوخ, والتفتت سارة نحو الأرجوحة, وكـأن الحلم يخرج من عقلها ليتجسد كما الأمنيات القديمة, على شكل ملامح لنظرات كانت في شوق إلى المكان, حين كان يتحدث عنه أحمد.
لم تطل النظر, بل التفتت إلى روحها التي غادرتها, والتصقت قرب القبر تحت الشجرة الكبيرة الصامتة, حتى الريح في ذلك اليوم لم تكن تجرؤ أن تحرك أغصانها الحانية على القبر. سارت الخطى وهي تحمل بقايا الجسد المنساب خارج أغلفة الوعي, لتقترب وتجلس أمام القبر. وترنو بنظرتها نحو التراب الرطب, فتنساب الدموع غزيرة على وجنة يهرب بها الشحوب نحو عوالم بائسة وحزينة. تمد يدها لتلامس تراب القبر, فتخرج الصرخة من حزن تستفيق لرجعه الأرجاء من حول المكان, هي السماء تصمت, والريح تغادر نحو سكينة, ويعود الصوت ليختنق داخل تنهدات محرقة. تقترب منها والدة أحمد وتعانقها وتبكي, فيعود الصمت إلى المكان, وتنساب من بين أغصان الشجرة كل قطرات المطر, كأنها اهتزت حين اقترب من المكان نسيم بارد. يبدأ الضباب بالتسلل من بين أشجار الغابة نحو الساحة ,وتبقى سارة جالسة وكأنها بعض من طقوس المكان. تلتصق بتراب الأرض, ويحملها الصمت إلى حالة تكاد تجعلها تهمس للتراب ببعض اللوم.
لم يعد فارس بقادر على أن يبقى, فسرعان ما اختفى بين الضباب ليعود إلى القرية دون أن يقلق الصمت العالق هناك. يعود كي يغادر القرية وإلى الأبد نحو مكان آخر, فهو يتمنى بأن يصبح مفقوداً وبلا ملامح.
قامت والدة أحمد من مكانها, واقتربت من سارة حيث أخذت بيدها لتخرجها من هناك وتعود بها إلى البيت. فلقد اقترب المساء, ولم يبقى هناك وقت حتى يحل الظلام ليغطي الملامح العالقة على جدران الزمن الآخر. في تلك اللحظة تلتفت سارة نحو عزيز, ذاك الجالس أمام القبر وهو مطرق الرأس, ويكاد الارتعاش من البرد يظهر على حركات جسده الصغير, وما أن تحركت سارة ووالدة أحمد نحو الرحيل, حتى خرج هو الآخر من صمته وحزنه ليعود برفقتهن نحو القرية.
قبل أن تبتعد سارة عن المكان عادت لتلتفت إلى حيث يرقد أحمد, ونظرت إلى أغصان الشجرة, هي لا تعلم كيف اهتزت الأغصان حتى تساقطت كل قطرات المطر عنها ومع كل الصمت المحيط بالمكان. ثم نظرت إلى الأرجوحة وكأنها تهتز قليلا, أتكون الريح؟, أم أن هناك شيئا يستفيق على رجع الحزن؟. هي لا تدري, لكنها تشعر ببعض السكينة حين كانت تغادر المكان. استمرت بالسير حتى وصلت إلى البيت على التلة المقابلة, ثم نظرت إلى النافذة المطلة على الغابة, بدأت تشعر وكأنها تعرف النافذة من قبل,أرأتها في حلم؟, أم هناك ما يقترب من أن يكون رجع ذكريا ت سابقة, لنافذة مشابهة في مدينتها؟. تعود للسير وبداخلها شعور غريب.
يصل الجميع إلى الساحة الحجرية, ويعود عزيز إلى المقهى, بعد أن طلب من سارة أن تعتبره أخاها الصغير, فهو على استعداد لأي شيء تطلب. تشكره سارة على لطفه ووفائه, وتعود مع والدة أحمد نحو البيت.
في تلك الليلة تستأذن سارة من والدة أحمد بأن تسمح لها بأن ترى غرفته, ولم تمانع أبداً. دخلت سارة الغرفة وأخذت تنظر إلى ما حولها, تحاول أن تحتضن بعضاً من بقايا الشوق الهارب مع ريح الشتاء. نظرت إلى اللوحة على الجدار, وشاهدت البحر والمركب الراسي, كم كانت كئيبة وهادئة تلك اللوحة, وكأن البحر يسكن في كهف من كهوف الزمن القديمة. أخذتها الذكريات إلى هناك في المدينة, وإلى حديث الرجل عن آخر المراكب الراحلة نحو أفق آخر. وكأن الريبة قد رسمت منذ الأزل على ذاكرة الكون, لتكون على هذه اللوحة, ولتكون هناك أيضا حين كان الصباح يحمل معه الرؤية, لعيون ذلك الرجل يوم أن نظر للبحر. هي الأحداث تسبقها الإيحاءات لما سيكون, ولكننا لا نملك أن نستوعب الأمور الغامضة ونحن وسط ضجيج الحياة. فالغفلة تجعلنا نسافر في اليقظة الحسية, دون أن نتدارك ما تحمله لنا الأعماق من إشارات وإيحاءات, تكمن حولنا وفي داخلنا ولا تحتاج منا سوى بعض التأمل والصمت. فكلما ازداد الضجيج في الأعماق, ابتعدت الإيقاعات الهامسة نحو التلاشي خلف معرفتنا القاصرة لما يدور حولنا.
رأت الأوراق المبعثرة هنا وهناك, ثم أخذت تلملم الكلمات المفقودة, بعد أن تركها الراحل إلى زمن آخر. أعادت ترتيب الغرفة من جديد, وفتحت النافذة كي تنظر نحو السماء, كانت الغيوم تحجب الأمنيات خلف شتاء وبرد. تشعر سارة بذاك البرد يتسلل إلى جسدها المرهق من صمت المساء, فتغلق النافذة وتجلس إلى مكتبه الصغير. تبدأ تقرأ بعضاً مما بقي من أحاديثه الصامتة, فقرأت آخر الأوراق التي قال بها:
جلست لأقرأ
فكنت فصلاً من كتاب
تراءى طيفك
فغادرت التواجد في السطور
وتركتها الأوراق بلا كلمات
عيناي تبحث عنك وعني
فارقت حولي
ستائر نافذتي يراقصها الريح
خرجت منها ويحملني الشوق
صرت كأفكار تحوم
وكأنوار طريق
خرجت وشوقي أبحث عنك, أين أنا؟.
مررت بعيني طيفاً
تمرحين تبتسمين
فارقت ثقل الأرض لفضاء
وتحليق أجنحتي كسحاب يداعبه الريح
مررت بعيني طيفاً
دمع وحزن وشكوى
مسحت الدمع عن وجنتيك
كأني مسحت الدمع
أين يداي؟, عالقة هناك
لن تعودا إلي
هي هناك تمسح الدمع
قاطفة الشوق بوركت حباً ساحراً
لست أقوى على مسافات الرؤى
ولست أحكمه اللقاء
فترانيم البعد حنين وطقوس دعاء
حبيبتي, بعض انتظار
فأنا إليك شوقي, وأنت اختيار
وعينيك يسافر لها عمري, وهذا قرار
سأبقى أحبك نجمة الصبح أنت
وأنا هناك على مدار.
كانت آخر رسالة لسارة, ولكنها لم تسافر إليها بل بقيت وغادر أحمد, هل كان يعلم بأنها ستحضر لتقرأها؟, هي لا تدري. ألقت الأوراق على المكتب الصغير, واستلقت على السرير تبكي, لم تعد تريد البقاء في هذه الحياة, وأية حياة هنا أوهناك؟. فهي غريبة عن كل الوجوه في القرية, ومن كان لها قد رحل ولم يبق منه سوى الكلمات. أتعود لوالدتها عند البحر بعد ما حصل؟. هي لم تعد تطيق ذلك المكان, وخصوصاً وهي تعلم بأن والدها سيرحل, أو يكون قد رحل فعلا مع المراكب نحو أرض بعيدة. استفاقت على صوت والدة أحمد وهي تقف بجانب السرير وتطلب منها أن تأتي إلى حيث المدفأة, فهنا في هذه الغرفة لم يعد سوى البرد وغربة الفراق. مسحت الدموع عن وجنتيها ولملمت الأوراق واحتضنتها بين ذراعيها وقالت:
أتمنى أن أحتفظ بهذه الأوراق وأخذها معي إن سمحت لي بذلك, فهي بعض مما تبقى.
نظرت إليها والدة أحمد وقالت متسائلة:
إلى أين ستذهبين يا ابنتي؟.
أريد أن أعود إلى هناك, لم يبق أي سبب لبقائي. كنت أتمنى أن أبقى إلى الأبد ولكن ...
لا بأس يا ابنتي كما تشائين, كم أتمنى لو كنت ابنتي, فلم يعد هناك اختيار آخر بعد أن كتبت علينا الأقدار أن نبقى غرباء يملؤنا الحزن, وتسري في عروقنا الوحدة كما البرد القارص.
أجل, هذا ما كتب علينا. ولكنك ستبقي أمي التي اخترتها, ولعل الأيام تحمل لنا لقاء آخر.
بقي الحديث في تلك الليلة ممزوجاً ببعض الدفء والسكينة, حتى انتهت الأخشاب المشتعلة في المدفأة وتحولت إلى رماد باهت وبارد, ليعود إلى العيون نعاس لا يحمل معه سوى بعض الراحة لتلك الأجساد المتعبة, ولكن بدون أية وعود أو أحلام.
الفصل الثاني ..... الصوت
في صباح اليوم التالي, تودع سارة تلك الأم الحزينة الصابرة على كل ما تأتي به الأيام, فهي كمنارة تقف في وجه الريح العاتية والقادمة من جهة الزمن.تخرج نحو الساحة, وتلتفت لآخر مرة نحو معنى انتظارها أمام البحر في مدينتها. تحمل حقيبتها وتلف الوشاح, ثم تسير باتجاه الطريق المؤدي إلى موقف الحافلة المغادرة نحو عالم لم تعد تريد العودة إليه. كان الضباب يلف المكان, والريح تعصف بالأشجار المصطفة على جوانب الطريق. بدأت تقترب من رؤية الحافلة الواقفة على آخر الطريق لتنتظر المغادرين نحو العاصمة, التفتت من جديد إلى الساحة ولكن الملامح الحزينة كانت تختبئ خلف ضباب, فهي خجولة مما حصل لسارة حين أصبحت تغادر وهي تجر الخيبة والحزن, أسرعت سارة بالخطى نحو انتهاء ما لا تحتمل. وفجأة, توقفت في مكانها وكأنها تتحول إلى تمثال امرأة, حين بدأت بالإصغاء لصوت يأتي من بين الأشجار العالية, وكأنه نداء عالم آخر. تلتفت للخلف ثم تنظر حولها, لم يكن هناك أحد سوى الأشجار المودعة. تواصل السير, ومرة أخرى تقف مذهولة لا تتحرك فهناك من ينادي, هو صوت أحمد يأتي من بعيد, تحتار مما يحدث لذاك العقل, أتكون الريح من تنادي؟, أم هو صوت يأتي من الأعماق, حين نعود إلى الوراء نحو أمنيات أصبحت باهتة. لكنه الصوت من جديد ينادي سارة, هو صوت أحمد تحمله الريح, وكأن الروح لم تغادر نحو أفق آخر. أحست بالرعشة حين عاد الصوت من جديد ليقول سارة ....
كان الصوت هذه المرة أقرب من السابق, وكأنه يأتي من خلف الأشجار. بدأت عيناها تحدق في ما حولها, وفجأة أغمضت عيناها وبقيت صامتة بلا حراك, حين عاد الصوت من جديد ليقول سارة لا ترحلي. نظرت نحو الحافلة الواقفة على آخر الدرب, ثم عادت تنظر للخلف من جديد. كان الضباب يخرج من بين ثنايا الملامح فتتراءى الساحة أمامها. هي تشعر وكأن أحمد لم يغادر, فالروح لا تزال تحلق فوق الساحة والبيت كما قال عزيز بالأمس وبكل عفوية. حملت الحقيبة من جديد, وعادت بخطى مسرعة نحو البيت, فهي لن تغادر وستبقى, وتشعر بتلك الروح تقترب منها أكثر فأكثر. أخذت تدق الباب بشدة, فخرجت والدة أحمد وهي تسألها:
أراك عدت؟, هل غادرت الحافلة بدونك؟. ليس من عادتها أن تغادر مبكرة هكذا.
لا يا أمي الحافلة لم تغادر, لكني قررت أن أبقى. فهل تقبلين أن أكون ابنتك؟.
طبعاً أقبل, وأتمنى ذلك. ولكن كيف غيرت رأيك؟.
لا أعلم ما أقول, ولكني أحسست بأن روحه لا تزال في القرية لم تغادر, سمعت صوته يناديني, ويريدني أن أبقى.
غريب ما أسمع يا ابنتي, لكن ادخلي الآن حتى أفهم منك أكثر.
عادت سارة من جديد إلى البقاء في القرية, وأخبرت والدة أحمد بما سمعته هناك على الطريق, وقالت بأنها قررت البقاء, فليس لها مكان آخر تعود إليه سوى هنا حيث ستكون قريبة من كل ما يذكرها به, ولعله بالفعل كان ينادي, فهو لا يريدها أن تغادر.
كانت المرأة تستمع لسارة, وتنظر إلى عيونها كي تتأكد من سلامة عقلها, فكلامها غريب لا يصدق, لكنها سعيدة بأن تبقى الفتاة معها. وقررت في أعماقها أن تجعلها تقيم لفترة حتى تعود إلى رشدها, فكأنها لم تحتمل الصدمة, هكذا كان رأي والدة أحمد, أما سارة فكانت تحمل في أعماقها رؤيا مختلفة وإحساس لا تستطيع إلا أن تثق به. فهي تؤكد بأنها سمعت صوته وهو يطلب منها البقاء.
تمر الأيام وتعتاد سارة على حياة القرية, حتى أصبحت تذهب إلى الغابة وحدها. أحياناً تجلس بجانب القبر, وأحياناً يكون البرد شديدا فتلتجئ إلى الكوخ وتشعل النار في المدفأة, ثم تجلس أمام النافذة تراقب الأشجار وتصغي, لعل الصوت يعود من جديد.
في المساء كانت تعود إلى البيت, وتجلس وحدها تنتظر أن تأتي والدة أحمد من عملها في الأرض. فلقد بدأ موسم الزرع وغرس البذور لكي تعود الحياة من جديد إلى الأرض.
في إحدى الليالي جلست سارة مع والدة أحمد وقالت:
تعلمين بأن والدي أعطاني تلك الحقيبة, لكني لم أكن أعرف ما أفعله بالنقود. أما الآن فأنا أفكر في شراء البيت على التلة, وقد علمت من عزيز بأنه للبيع.
ولكن يا ابنتي ولم تشترين البيت؟, أليس هذا بيتك؟.
أجل يا أمي هو بيتي, ولكني أرغب في أن أكون قرب الغابة, ولن أكون بعيدة عنك, لكنها رغبتي في أن أحقق لأحمد ما كان يريد. فقد كان يتمنى أن يشتريه أيضاً لأنه يقع بين القرية و الغابة.
لم أكن أعلم بأنه كان يفكر في شراء ذلك البيت, هو لم يخبرني.
كتب لي عن ذلك, ولم يخبرك لأنه كان خائفاً بان تظني بأنه سيبتعد عنك ليسكن هناك, هو في الحقيقة لم يكن يفكر بذلك أبداً.
كما تريدين يا ابنتي, سأذهب في الغد واسأل عن البيت ومن هو المسئول عن بيعه.
لم تكن تحب أن تغادرها سارة إلى مكان آخر, فقد اعتادت عليها وأحبتها, ومع ذلك هي لا تقدر أن تمنع عنها تلك الرغبة, وخصوصاً بعد أن أصبحت بعيدة عن أهلها ووحيدة في هذا العالم وخصوصاً بعد رحيل أحمد. هي تعلم بان للفتاة الحق في أن يكون لها عالمها الخاص, عل الأيام تحمل لها السعادة والسكينة.
لم يمض على الأمر أسبوع واحد حتى أصبح البيت لسارة, حين عادت في ذلك اليوم من العاصمة هي ووالدة أحمد ومعهن أوراق البيت, كانت سعادة ينقصها الأمل, لأنها سعادة لحظية تنبع من رغبة مكتومة داخل أمنيات, لا يتحقق منها سوى عبثية المصير حين لا يكون هناك أي معنى للحياة, سوى التغاضي عن الألم والضعف.
في اليوم التالي كانت سارة والمرأة وعزيز في طريقهم نحو التلة. وابتدأ العمل في تنظيف البيت المهجور منذ أن غادره ساكنوه إلى العاصمة. الأثاث لا زال هناك على حاله, وكل ما في البيت كان مغطى بالأقمشة البيضاء, والذي غطاها هي الأخرى غبار السنين. كانت تلك العائلة ميسورة الحال. فالبيت يختلف تماماً عن البيوت المتراصة على الطرقات حول الساحة, ولا زال كل شيء كما هو عليه لم يصبه التلف, سوى الحديقة المهجورة, تلك التي كانت في تلك الأيام من أجمل حدائق القرية, حين كانت تملؤها الزهور من كل نوع.
وما أن انتهى النهار حتى عاد البيت إلى الحياة من جديد. غادر الجميع إلى القرية, تسير سارة نحو الساحة وهي تنظر إلى بيتها الذي كان أمنية قديمة لم تكتمل, لأنها لم تتحقق حين كانت حلم الآخر. أصبحت سارة تدعوه "الآخر", فهو في أعماقها وروحه تحلق فوق الساحة والبيت, هكذا قال عزيز وبكل عفوية. ولا تزال تتذكر الصوت حين كان ينادي سارة لا ترحلي ....
إذا هو لم يرحل, ولم يبق أيضا, لكنها تشعر بوجوده حولها وفي كل مكان. لم يعد أحمد ذاك المدرس في القرية الجبلية, ولم يعد أيضا ذاك الراحل خلف الأفق بعد أن سمعته يناديها, وكأنه خلف الأشجار المصطفة على جوانب الدرب.
مرت الأيام وانتهى العمل في البيت وحديقته, وعاد كل شيء كما كان عليه. وانتقلت سارة للسكن على الأطراف, هي الآن بين عالم لم تعد تريد العيش فيه, ونافذة تطل على الآخر, ذلك المنتظر خلف الريح. أيكون هناك تحت الشجرة الأم؟, أم هي الروح تحلق فوق الألم الباقي وتراكم الصبر؟. لا تدري سوى بأنها الآن ستبقى تجلس خلف النافذة, وعلى مقعد الجلد الكبير وأمامها تلك القطعة الخشبية القديمة المليئة بالأدراج, حيث وضعت كل ما كانت تحمله من أوراق, وبقايا لكلمات صامتة ومفقودة في ذاكرة البيت.
هي ترقب بصمت السكينة. فقد كانت على المقعد الخشبي أمام البحر تنتظر من الأفق حديثاً حتى ولو كان همساً. وكانت في بيتها تلتجئ إلى الدمية في آخر النهار تحدثها عما يختلج في الأعماق. وهاهي الآن تغادر بيت أحمد, لأنها لا تقدر أن تكون في مكان لا تملك فيه أن تكون, سوى بعض من بقايا الزمن المفقود. أما الآن وفي بيت سارة, تستطيع أن تصغي إلى الجدران الصامتة وكأنها تنظر إلى مرآتها. فهي الآن تعلم أن القرار يكمن بين ثنايا السكينة, ولها الحق في أن تكون كما تريد.
تمر الأيام على سارة وهي في البيت. تخرج في الصباح إلى القرية لإحضار ما يلزمها, وتمر على بيت أحمد لتساعد والدته في أمورها, أحيانا كانت ترى عزيز لتطمئن عليه, أو لتطلب منه شيئاً ما. مع أن عزيز لم يكن يغفل عن سارة ولا الكوخ في الغابة قط , فهو يبقى على وفائه لأحمد.
كانت العيون الفضولية في القرية تتبع سارة أينما ذهبت. بعضهم يراها أقرب إلى الجنون من أن تكون إنسانة سوية, والآخرون يلتزمون بالنظر دون كلمات. كان أهل القرية يحبون أحمد ويكنون الاحترام لوالدته, مع أن البعض كانوا مجرد عيون فضولية ترقب الآخرين بلا معنى.
تستمر الحياة بسارة وكأنها من عالم آخر. لم يكن يعنيها أي شيء, سوى أنها الآن تملك أن تكون, وما تريده هو أن تبقى خلف النافذة تنتظر حتى يعود الصوت من جديد, هي تشعر بالطمأنينة حين تعلم بأن الآخر لازال على الأفق. نوع من الكآبة حين ندخل في دروب الأمنيات فقط , وكأننا نغفل عن أمور تكون أحيانا بمنتهى القدسية. طبعا بمقياس من ينظرون إلينا بعيون فضولية. لم تكن تدري ما يعنيهم إن بقيت أو ذهبت إلى أي مكان , ولماذا تبقى عيون تنظر دون تغاضي. كانت سارة تراها متعة عند أولئك الفضوليين الجالسين على الطرقات لكنها في الحقيقة لعنة قاسية, حين لا يملكون بين ثنايا الوعي إلا ما يرتسم على حواسهم فقط , وما أتعسها من متعة حين يكون ألم الآخرين تسلية اللحظة, ومع ذلك فهي تحبهم وتنظر لهم بعيون الدفء.
تعود سارة إلى البيت في ذلك المساء, وتجلس أمام النافذة تنظر إلى الغابة, لكنها تتوه حين ترى الطيور تتجمع من كل صوب لتغفو على الشجرة الأم. وهي أيضا لم تكن تعلم لماذا كلما وقفت أمام النافذة يحتار المساء ويرتعش الصمت دون ريح تعصف , وكأن المكان هو بعض من أطراف الأرض, فعلى أطراف الأماكن تتراءى الازدواجية كانعكاس ضوء, وتمتزج الحقيقة بالواقع على شكل سراب هزلي. جلست أمام المنضدة المليئة بالأدراج الصغيرة لتكتب وتقول:
لقاء أرض بسماء
وضياع حين ابتداء
يتوه الحلم في ضباب غطى الرؤى
ونتساقط على الأرض كأوراق
لسنا بخريف
ولا للأوراق على الأرض حفيف
نتناثر ننسى
ونسير بدروب نرصفها نتكاثر
ونمارس إغفاءة عمر
نكبر ثم نكبر
حتى نتساءل
من أين؟ إلى أين؟
بعض منا ينظر لظلال على الجدار
والبعض الآخر يسرقه النهار
ويتوه الحلم
في ضباب غطى الرؤى .
وتبقى في مكانها حتى ينتهي الليل, تقرأ في الأوراق الغريبة كل ما كان يكتبه أحمد. ثم غلبها النعاس حتى غفت على المنضدة, وبقيت حتى اقترب الفجر, أفاقت من نومها حين بدأت تشعر بالبرد وهي مثقلة بنعاس غريب, فقد كانت تغرق في حلم وكأنه الحقيقة. شاهدته في الحلم ينتظر على جزيرة صغيرة وسط بحر واسع. سمعته يناديها, أسرعت نحو الموج وأخذت تسبح بملابسها, تحاول أن تصل إليه, وبقيت تصارع الموج كي تقترب, لكنها تعود لتبتعد من جديد, وانهارت قواها ولم تعد تقدر على التقدم أكثر, وتثاقل الجسد المنهك نحو أعماق تلك المياه, وغاب الصوت ولم يعد. وما أن تداركت الأمر مسرعة نحو الشاطئ حتى غابت الجزيرة أيضا خلف ضباب الفجر. ولم يعد من الصوت سوى رجع ذكرى. استلقت على الرمال ولم تعد سارة هناك, ولم يبق من الموج إلا بقايا حلم يتراءى أمام المخيلة, حين استفاقت وهي تشعر برعشة البرد. سارعت نحو غرفتها كي تغفو, فالأيام كما الأحلام, غالباً ما تكون رمادية لا تحمل من الألوان إلا ما يتدرج نحو الظلال.
في الصباح تصحو سارة من النوم وهي تشعر بالحزن والكآبة, وهاهي تراه هناك على الجزيرة الصغيرة, وتتساءل لماذا لم تستطع أن تصل إليه, فقد كان يناديها, ولماذا كانت تبتعد كلما اقتربت؟, هي تحتار في ما يعنيه الحلم, ولازالت تؤكد بأنها سمعت صوته يناديها من خلف الأشجار, يوم أن كانت تغادر القرية في ذلك الصباح. ومع التساؤل تأتي الحيرة, فلماذا تبقى خلف النافذة ولا يعود لها رجع النداء من جديد؟.
تخرج متجهة نحو الغابة, لكي تكون على أطراف المكان علها تجد جواباً, فكم يخيفها أن يكون الوهم هو من صنع للريح صوت نداء يخرج من ثنايا الحزن. تكمل السير حتى تصل, تلتفت نحو القبر الصامت كما الأشياء حولها, ويبدأ هطول المطر من سماء كانت صافية قبل قليل, فقد كانت هناك شمس خجولة تشرق على التلال. تلتجئ سارة إلى الكوخ وتبقى حتى يتوقف المطر, وتعود الشمس لترسم البريق على أوراق الأشجار, تجلس بجانب القبر وهي تتكئ على الشجرة الأم, تبحث عن حقيقة خلف القلق, وتذكر حين قال لها أحمد عن حديث الشجرة مع رجل الغابة. نظرت إلى الأغصان المبتلة وهي تتساءل, ثم أخذت تتحدث مع الآخر, لم يكن الحديث نوعاً من جنون, بل كانت ترانيم تخرج من حزن وتساؤل. فأحياناً تكون للروح طقوس يفرضها القلق فتخرج على شكل ترانيم تقول:
يخرجني من صمتي عجز الضباب
ولماذا يتوارى البعيد ويغيب الصوت بلا مجيب
أحاول أن أخطو قدماً تتهالك الخطوات مني
وتخور الأرض ضعفاً
بلا مسالك أو دروب
متى سيأتي القادم دون نداء؟
وإلى متى سأبقى أحادث الصمت أو الجدار
لا معنى...
كم أحب أن أخرج من غلافي كي أتناثر على الروابي
وكم أحب أن تحملني الريح عبقاً... رذاذاً أو غبار
وأحب أن أفارق السواقي و زخات المطر والبحار
أحب أن أصرخ فتسمع صرختي على المدار
املك في داخلي وهج شمس وأقمار
ولكني محاصرة بأقدار
عيوني خلف نافذة أطل منها على شتاء
وعلى تقاطيع صور وبقاء
أخاف أن أخرج من غلاف
وأمارس العيش ارتجاف
وكيف وحدي أقرر لون المساء
ترانيم الأرض لست أفهمها
أقدرها احتراماً و بها أسافر
وأتمنى الخروج ولكن
بعض عقلي يبقى والبعض يغادر.
بعد ذلك جلست صامتة لا تدري ما تفعل, ولا تعرف إلى أين تسير بها الأيام, أيكون كل ما فعلته هو نوع من التغاضي؟, وكأنه الهوس حين لا نملك من الأمر سوى اللجوء إلى أوهام تجعلنا نقف على حافة العقل, ننظر لتلك الهاوية السحيقة ونحلق بأجنحة وهمية, سرعان ما تخذلنا الحقيقة فنسقط في أعماق الظلال. لم تتمالك نفسها فالتجأت للبكاء, ووضعت رأسها بين كفيها. وبقيت وكأنها تصبح من جديد تمثال امرأة. في تلك اللحظة بدأ الإصغاء إلى صوت يأتي من الأعماق ليقول:
وكأنك تدخلين في ذاك المعبر المؤدي إلى دروب مضاءة بنور
بدأت ترتدين حلة جديدة منسوجة من خيوط ترافق قوس قزح
أظنك تشعرين بذاك السحر بعد شتاء ربيعي
كم هو عبق تراب الأرض
وكم هي صافية تلك السماء الزرقاء
ما تقولينه يقال على السنة العارفين
وقد قال مثله في يوم ما, ذلك الواقف بين اليابسة والبحر.
لم تتمالك نفسها حين سمعت حديث الشجرة الأم, قامت من مكانها ونظرت حولها, لكنه الصمت يعود من جديد, فتعود إلى وعيها تنظر إلى الأغصان العالية وهي تتمايل مع نسيم بارد. تتراجع نحو الساحة الصغيرة, وتتملكها الدهشة والخوف, لكنها تنظر نحو الأفق, فترى قوس قزح يرتسم على السماء. عندها تبتسم سارة, فهي قد سمعت حديث الشجرة.
تخرج من المكان وهي تشعر بالإثارة والاكتفاء, فتعود إلى البيت. كانت تشعر بالقوة وهي تسرع الخطى حتى تصل إلى هناك. تقترب من النافذة وتجلس على المقعد تنظر نحو ذلك المكان, وتتمنى بداخلها لو يعود لها نداء الآخر, فهي لم تعد تطيق الانتظار.
تنظر سارة إلى المنضدة أمامها, فترى الأوراق المنسية هناك من الليلة الماضية. فهي أوراق تصبح مفقودة إن غابت عنها عيون سارة. تبدأ بالبحث بين الأوراق عن إجابة لتساؤلات تكمن في أعماق الروح. فتجد بين الكتابات ورقة تحمل كلمات كتبت بخط شخص آخر, هي ليست من كتابات أحمد. تبدأ بالقراءة فتكتشف بان الورقة هي رسالة رجل المنارة لأحمد, كان يتحدث بها مع فارس لكنه يتوجه بالكلمات لأحمد. تذكرت الآن حين أخبرها رجل المنارة عن مرض أحمد, وبأنه قد علم بذلك من فارس حين أتى إليه. تحمل الرسالة وتبدأ بقراءة ما قاله الرجل:
"ولكن أرجوك أن تقول لأحمد بأني أشعر به, وأعلم كم يعاني من ألم وحزن فهي كالولادة الصعبة حين نخرج إلى عالم آخر قبل الأوان. ولكنها الطريق نحو أطراف الأرض اليابسة, حين نقترب من ذلك الشاطئ وندوس بأقدامنا على الرمال الناعمة."
"وأخبره بأننا لن نقدر أن نعوم في البحر الواسع ونحن نرتدي تلك الثياب البالية, فهي تثقل الروح نحو قاع معتم. ما أجمل أن نخلع الرداء, لأنه مثقل بغبار وأشياء تعلق في الثنايا. أحيانا نبحث عن القدرة لأن نعوم, ولكنه بحر واسع بلا ماء ولا موج, فهو على أطراف كل الأرض, وهناك تكمن القدرة في الصمت وفي الإصغاء وعلينا أن نتقن ذلك, حين نغفل عن الحواس ونفارق الرغبة. فما للأرض يبقى, وما للسماء يسكن في أعماق الروح."
"اخبره بأني أشعر به وأعلم كم يتقن الإصغاء, فحديثه القديم هنا كان يخرج من صمت الرغبة, وذاك القلق كان بمثابة الولادة لتلك الروح النقية."
"وأخبره بأني سألتقي به هناك, ففي ذاك البحر أعماق معتمة وظلال, ومثلي معتاد على إضاءة الدرب بضوء أبيض. ففي العالم الآخر منارات ورجال يقفون على الأطراف."
"أخبره بأني أشعر به, وأعلم كم هو صعب أن لا يكتمل الحلم. لكننا يا بني نملك أرواحاً تبقى ولا تغادر, حتى تلملم الفضيلة. فلذاك البحر جزر انتظار, وهمس يحمله الصمت إلى أي مكان. فما للأرض يبقى, وما للسماء تنتظره الروح النقية".
تنهي سارة قراءة الرسالة الغريبة, وتبدأ بالخروج من الحيرة إلى معرفة لم تكن تأتي بها الريح, ولا لتحمل مثلها تساؤلات الروح. بدأت الآن واثقة أكثر من الحلم, وبأنه يلامس الحقيقة أكثر من أي واقع, وكأنه الإشارات التي تحتاج إلى وعي من نوع آخر. هي الآن تلوم عقلها حين كانت تنشغل بشراء البيت وتجهيزه, لأنها في ذاك الوقت كانت تبتعد عن الشاطئ, لتعود إلى اليابسة وبكل وعي الجسد, وكأنه التغاضي عن ما تطلبه الروح. هكذا كان الصوت يتوارى خلف الانشغال, وكأن الحلم ينبئها بحقيقة العوم في البحر الواسع, فلا حاجة لما نرتدي من أمور هذا العالم كي نثقل الرغبة. ما تحتاجه سارة كان أبسط بكثير, كانت بحاجة إلى البقاء في أي مكان ولكن وبكل بساطة كان ينقصها الصمت, فحديث الآخر لا تسمعه اليقظة حين يكمن الإصغاء في الحس و البصيرة. وكم هي الآن وبكل الثقة أصبحت تؤكد بأن الصوت سيعود إليها, فلقد توارت الأشياء خلف صمت الرغبة وخلف إيقاعات تخرج من الأعماق, وكأنها تنتظر على الصخور فوق هاوية تطل على البحر الواسع. أيعود الرجع بذاك الشوق ويعود الصوت أيضاً؟. هي لا تحتاج لان تتساءل, حين تجد الحقيقة تتراءى من خلال كلمات الرجل. فهي لم تكن رسالة لأحمد فقط , بل تحمل بين طياتها آخر ما تنقله الوعود إلى تلك المنتظرة, من كلمات تحمل معها إجابات باتت تنتظر حتى يعود الوعي لتلك الروح. وها هي سارة تقرأ ما كان يقوله لها رجل المنارة.
تلملم سارة الأوراق وتضعها في أدراج المنضدة الخشبية, وكأنها تحتفظ بها لتبقى عالقة في ذاكرة القرية, حتى يأتي من يملك الإصغاء, ليعود بها إلى أن تصبح كلمات تحلق في آفاق الدنيا, عن قصة سارة ونافذة الآخر.