آفاق فرصة جديدة صنعتها الجماهير والمقاومة لخروج مصر من ورطة تاريخية
يزداد الحديث في الآونة الأخيرة ومنذ فتح معبر رفح تحت الضغط الجماهيري، الفلسطيني والعربي، عمّا يسمّيه بعض الساسة والإعلاميين "توريط" مصر في قطاع غزة، ويقصدون به -وفق أقوالهم- تحميل مصر من جانب الأمريكيين والإسرائيليين المسؤولية عن احتمالات تمرير أسلحة أو أموال أو "أفراد مطلوبين إسرائيليا" عبر الحدود، مما يعني خرق اتفاقيات قائمة، ومصر طرف فيها.
ويطرح السؤال نفسه عمّا تعنيه كلمة "توريط" في هذا المجال، نظريا وعمليا، أو سياسيا وتعاملا واقعيا مع مجرى الأحداث، أما من الناحية القانونية الدولية، أو المشروعية الدولية، فقد بلغ تزييف المعايير وتبديلها مبلغا يتطلّب التخلّص من آثار عملية "غسيل الدماغ" الجماعية على امتداد عدّة عقود ماضية، لتستعاد الصورة القويمة أساسا لأي نقاش منطقي.
لم يبدأ "توريط" مصر في قضية فلسطين عبر الأحداث الأخيرة، بل يقوم على مسلسل طويل من سياسات سابقة، لا يمكن تجاوز ذكر "عناوينها" فقط في هذا الموضع، وفي مقدمتها:
1- الانتقال الرسمي من اعتبار قضية فلسطين قضية عربية وإسلامية، إلى اعتبار جزء منها "أزمة صراع" بين الفلسطينيين و"دولة إسرائيل" وإلى "أزمة شرق أوسطية" جنبا إلى جنب مع الانتقال السياسي إلى إعطاء الأولوية لاتفاقات تعقدها دول عربية كمصر مع الإسرائيليين، تجاه الاتفاقات العربية-العربية مثل معاهدة الدفاع المشترك.
2- الانتقال الرسمي من اعتبار "الدعم" بين الأطراف العربية بما في ذلك المصريون والفلسطينيون، قضية سيادة، إلى مشكلة "توريط" وهو ما يعني نزع المشروعية القويمة عن هذا الدعم، وتصويره مخالفة لما سمّي زورا قرارات "الشرعية الدولية"، والمقصود قرارات هيمنة القوة الأمريكية على مجلس الأمن الدولي بما يخالف الشرعية الدولية في المواثيق الدولية التي يقوم عليها مجلس الأمن نفسه وتلزمه قبل سواها.
3- جميع ذلك دون مقابل مماثل، أي دون اعتبار الدعم الأمريكي والغربي بالسلاح والمال والعتاد وفي المحافل السياسية للإسرائيليين مثلا، وهم -حتى بمفهوم دولة الاحتلال الذي نشر بعد 1967م بشطريه.. دولة معترف بها واحتلال غير مشروع- في موقع مخالفة القوانين الدولية وانتهاكها باستمرار دون انقطاع، عبر ممارسات الاحتلال داخل الأرض المحتلة عام 1967م، وإقليميا.
4- في تحويل العلاقات العربية، ومنها المصرية، مع القوى الدولية، إلى علاقات عطاء دون أخذ، أي الخضوع للإرادة العدوانية على الحقوق والثوابت العربية والإسلامية، والتراجع عنها مرحلة بعد أخرى، مع تجزئة القضايا المرتبطة بها، بدءا بفلسطين ولبنان مرورا بالعراق وأفغانستان انتهاء بما يجري الإعداد له على مستوى أقطار أخرى، كالسودان وسورية.
إنّ كلمة "توريط" في هذا الإطار تكتسب صورة أخرى غير الصورة التي تستند إليها مواقف صدرت عن أركان فريق أوسلو من السلطة الفلسطينية أولا، ولا تزال الجهات الرسمية المصرية -حتى ساعة كتابة هذه السطور على الأقلّ- تنأى بنفسها عن تبنّيها رسميا، وإن صدرت بتبنّيها مواقف سياسية من الدرجة الثانية ومواقف إعلامية على نطاق واسع.
والذي بدّل المعادلات على الأرض لم يكن الطرف الإسرائيلي والأمريكي بل بدّلتها المقاومة المنبثقة عن شعب فلسطين، والتي بلغت في لحظة معيّنة مستوى تحطيم الجماهير لأحد جدران الحصار الإجرامي على قطاع غزة، فبدأ بحث الطرف الصهيوأمريكي عن أسلوب جديد لتقويض مكاسب المقاومة مجدّدا، والسعي للاستعانة بأورواقه القديمة، عن طريق أطراف فلسطينية وعربية أخرى على ذلك، فإن استجابت لشروط الطرف الصهيوأمريكي ورغباته، يقع "التوريط" فعلا!..
إنّ توريط مصر بمفهوم الكلمة الصهيوأمريكي يمكن أن يقع بمقدار ما تدخل مصر في المرحلة الراهنة، ورغم الأرضية الجماهيرية التي تستطيع الاستناد إليها، في التزامات ما، يتضمنها أي اتفاق بصدد التعامل مع الحدود المصرية-الفلسطينية، ويكون فيها تعهّدات ما بشأن "تمرير السلاح أو المطلوبين أو التمويل" وسوى ذلك، سيّان هل كان الثمن رفع عدد أفراد الشرطة والجيش المصري في سيناء، أي استعادة جزء من السيادة المقيدة في اتفاقات كامب ديفيد والمعاهدة التي أفرزتها، أم لم يكن.
إن عنوان مثل هذه الالتزامات بالمنظور الفلسطيني والعربي والإسلامي هو التوريط بعينه أيضا، ولكن بمعنى توريط مصر في الإسهام في حماية الأمن الإسرائيلي، وبالتالي في زيادة الأزمة المباشرة مع الإرادة الشعبية بمصر وفلسطينيا وعربيا، لتخفيف الأزمة التي بدأت معالمها بالظهور مع الطرف الصهيوأمريكي.
وما صنعته جماهير الفلسطينيين في غزة ووجد التجاوب الجماهيري عربيا، لم يفتح معبر رفح فقط، بل فتح أمام مصر والدول العربية والإسلامية بوابة كبيرة في اتجاه العمل لتلاقي سياساتها مع الإرادة الجماهيرية الشعبية داخل بلدانها، والعودة بنفسها إلى الالتزام بواجباتها تجاه بعضها بعضا، والعودة بقضية فلسطين إلى مسارها التاريخي.
مستقبل مصر نفسها مرتبط بالاستفادة القصوى من الفرصة الجديدة التي صنعتها الجماهير وصنعتها المقاومة الفلسطينية، وتنمية تلك الفرصة وإحاطتها بسياج منيع يحول دون التفريط بها لقاء مكتسبات وهمية، لا يمكن أن تختلف كثيرا عما سبق وصفه بالمكتسبات في حلقات سابقة من توريط مصر سياسيا عبر الخروج من موقعها التاريخي في قضية فلسطين إلى الموقع الذي لم يوصل طوال أكثر من ثلاثين عاما مضت إلى تحقيق الأهداف المصرية الأساسية، على مختلف المستويات السياسية والأمنية، وعلى المستويات الاقتصادية أيضا والتي كان التلويح بها في المقدّمة قبل 30 عاما.