أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 8 من 8

الموضوع: امبراطور الشعراء .. لفضيلة الشيخ عائض القرني

  1. #1
    الصورة الرمزية عبدالملك الخديدي شاعر
    تاريخ التسجيل : Feb 2006
    الدولة : السعودية
    المشاركات : 3,954
    المواضيع : 158
    الردود : 3954
    المعدل اليومي : 0.60

    افتراضي امبراطور الشعراء .. لفضيلة الشيخ عائض القرني

    في بلاط الإمبراطور
    الحمد لله حمداً كثيرا طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضي، واصلي وأسلم علي نبينا محمد وعلي آله وصحبه ومن بسنته اهتدي.
    أما بعد :
    فتحية طيبة يا أبا الطيب فقد حسونا كاس سحرك حتى ثملنا بياناً، أما أبياتك فالنجوم ضياء ورفعة، وأما قصائدك فالحدائق بهجة ونضرة .
    من أين جئت يا أستاذ القافية ، وكيف وصلت يا فيلسوف الإبداع.
    لقد عاش قبلك وبعدك آلاف الشعراء الذين ملؤوا الفضاء ضجيجاً، والكون صياحاً، ثم ماتوا وماتت أصواتهم، وبقيت أنت منشداً للدهر عازفاً علي نياط القلوب كما قلت أنت:
    وما الدهر إلا من رواة قصائدي إذا قلت شعراً اصبح الدهر منشدا
    لقد عرفتك من ثلاثين سنة فكنت معي حضراً وسفراً النبي صلي الله عليه وسلم أتمثل أبياتك ، انشد قصائدك ، أحفظ ديوانك، ولكن ذنبك أنك زهدتني في غيرك من الشعراء . وعذرتك أنك سطعت ولمعت وأبدعت.
    يا أبا الطيب، أخذنا من قصائدك ما كان شاهداً ومثلاً وحكمة وعبرة، وتركنا غلوك وهجاءك وصخبك، وعسى الجيل أن يعود للبيان العربي ليفهم كتاب ربه وسنة نبيه صلي الله عليه وسلم حق الفهم، لأن الوحي هو المقصود بالتدبر والتأمل والدراسة: أما ما سواه فوسائل وأدوات فحسب:
    قواصد كافور توارك غيره ومن قصد البحر استقل السواقيا
    د. عائض القرني
    المتنبئ
    عائض القرني
    حسبك الله لم تزل تتحـدا ما رهبت المنون أو هبت جندا
    أنت كالدهر والقوافي ليــال تبتني بالقريض في الناس مجدا
    أرجفوا : مات! قلت لا أموت قالوا: قد مضي، قلت بل زماني تبدا
    نبشوا فيك عبقرياً أديباً حــركـــوا فيك مارداً بل ألدا
    اشعلوا منك في الدياجي نجوما أحرقوا فيك غيظهم فاستبــــدا
    كلهم قاتل وكل الضحايــا أنت يا مالئ الفافي جــــدا
    أنعلوا خيلك الأفاعي فهابت كل أفعى ذاقت من السم وردا
    اصلتوا في عيونك الموت سيفا أغمدوا في حشاك رمحاً معدا
    كيف أفلت والصحاري زؤام والمنايا خرس وقد جئت فردا
    أي ليل ركبت؟ أين الأعادي فتهم يا عظيم معني وبعدا
    أنت في الشام أم وصلت عماناً أم وردت العراق أم زرت نجدا
    عند من أنزلوك عند ابن موسى أم سعيد وابن العميد المفدى؟
    عند كافور اصبح العبد حرا أم علي ذا الحر أصبح عبــدا
    أم تريد الحياة أم أنت صب يعشق الحسن كاتماً ما تبــدى
    هل رأيت القرود حولك أسدا؟ أم تخليت طلعة الليث قردا؟
    وعلي من تلقي القريض شجياً وإلي من تهدي من الشعر وردا؟
    أنت يا ملبس السلاطين عـزا أنت يا كاسي الصعاليك بردا
    أنت يا مشعل الزمان أرحنا قال دعني أذكيه برقا ورعدا!
    عشت بالعز مؤمنا لا يداجي ومن الذل كافــراً مــرتدا!
    بصر العمي اسمع الصم شعرا علم الضاد تركماناً وكردا
    بك ينوي الممات أن يتعشى قال: كلا أنا به أتغدي!
    تلبس الثور مطرفاً وهو اعمي كى تراه اصمى وأطغي وأردا!
    تحرق النذل بالقريض فيبقي خائباً خاسراً حقيراً مـــردا
    لم تبال ركبت أدهم ضاف أو قطعت الصحراء سعيـــاً
    أو لقيت الخطوب في ثوب هول أو حضنت الأيام عزاً وسعدا
    أو ملت القلوب فيك ابتهاجاً أو نقشت الصدور غلاً وحقدا
    اترجي وصال أهيف غر قال: كلا طلقت سلمى ودعدا
    كل شبر مصائب تتلظى كسيوف بواتر بل أحداً
    تطلب الثأر في حنايا عظيم قد اعناقها بجنبية قدا
    أنت يا بن الحسين اكبر لغز في بلاط الملوك تروى وتهدي
    كيف أنهي الخطاب فيك وأجلو عن معانيك؟ قال لي : كيف تبدا؟
    وردة من دم المتنبئ
    للشاعر / عبد الله البردوني
    من تلظي لموعة كاد يعمي كاد من شهرة اسمه لا يسمي
    جاء من نفسه إليها وحيداً رامياً اصله غباراً ورسما
    حاملاً عمره بكفيه رمحاً ناقشاً نهجه علي القلب وشما
    خالعاً ذاته لريح الفيافي ملحقاً بالملوك والدهر وصما
    ***
    ارتضاه أبوه السيف طفلاً أرضعته حقيقة الموت حلما
    بالمنايا أردي المنايا ليحيا وإلي الأعظم احتذي كل عظمي
    ***
    عسكر الجن والنبوءات فيه وإلي سيف( قرمط) كان ينمي
    ***
    البراكين أمة، صار أما للبراكين للإرادات عزماً
    ( كم إلي كم تفني الجيوش افتداء لقرود يفنون لثماً وضما)
    ***
    ما اسم هذا الغلام يا بن معاذ؟ اسمه ( لا) : من أين هذا المسمي؟
    إنه أخطر الصعاليك طراً إنه يعشق الخطورات جما
    ***
    فيه صاحت إدانة العصر: أضحى حكماً فوق حاكميه وخصما
    قيل: أردوه، قيل : مات احتمالاً قيل: همت به المنايا ، وهما
    قيل: كان الردى لديه حصاناً يمتطيه برقاً ، ويبريه سهما
    الغرابات عنه قصت فصولاً كالتي أرخت (جديساً) و( طمسا)
    ***
    أوراق الحبر كالربى في يديه أطلعت كل ربوة منه نجماً
    العناقيد غنت الكاس عنه الندي باسمه إلي الشمس أومى
    ***
    هل سيختار ثروة واتساخاً؟ أم تري يرتضي نقاء وعدما؟
    ليس يدري، للفقر وجه قميء واحتيال الغني من الفقر أقما
    ربما ينتحي ملياً، وحيناً ينحني، كي يصيب كيفاً وكما
    عندما يستحيل كل اختيار سوف تختاره الضرورات رغما
    ليت أن الفتي ـ كما قيل ـ صخر لو بوسعي ما كنت لحماً وعظما
    هل سأعلو فوق الهبات كمياً؟ جبروت الهبات أعلي وأكمي
    ***
    أنعلوا خيلة نضاراً ليفني سيد الفقر تحت أذيال نعمي
    ( غير ذا الموت أبتغي، من يريني سيد الفقر تحت أذيال نعمي
    أعشق الموت ساخناً، يحتسيني فائراً، أحتسبه جمراً وفحما
    أرتعية، أحسه في نيوبي يرتعيني ، أحس نهشاً وقضما
    وجدوا القتل بالدنانير أخفي للنوايا، أمضي من السيف حسما
    ناعم الذبح، لا يعي أي راء أين ادمي، ولا يري اصمي
    يشتري مصرع النفوس الغوالي مثلما يشتريه نبيذاً ولحما
    يدخل المرء من يديه وينفي جسمه من أديمه وهو مغمي
    يبتدى مبغي هنا، ثم يبدو معبداً ها هنا، وبنكين ثما
    يحمل السوق تحت إبطيه، يمشي بايعاً شارياً، نعياً ويتما
    من تداجي يابن الحسين؟ ( أداجي أوجهاً تستحق ركلا ولطما
    كم إلي كم أقول ما لست أعني؟ وإلي كم أبني علي الوهم وهماً؟
    تقتضيني هذي الجذوع اقتلاعاً أقتضيها تلك المقاصير هدما)
    ***
    يبتدي يبتدي، يداني وصولاً ينتهي ينتهي ، ويدنو ولما
    هل يري غير ما تري مقلتاه؟ ( هل يسمي تورم الجوف شحما)؟
    ***
    في يديه لكل سينين جيم وهو ينشق: بين ماذا وعما
    لا يريد الذي يوافيه، يهوى أعنف الاختيار: إما ، وإما
    كل أحبابه سيوف وخيل ووصيفاته : أفاع وحمى
    ( يا ابنة الليل كيف جئت عندي من ضواري الزمان مليون دهما؟
    الليالي ـ كما علمت ـ شكول لم تزدني بها المرارات علما)
    ***
    أه يابن الحسين:ماذا ترجي؟ هل نثير النقود يرتد نظما؟
    بحفيف الموز ترمي سيوفاً عاريات: فهل تحديث ظلما؟
    كيف تدمي ولا تري لنجيع حمرة تنهمي رفيقاً وشماً؟
    كان يهمي النبات والغيث طل فلماذا يجف والغيث أهمي؟
    الأن الخصاة أضحوا ملوكاً زادت الحادثات، وازددن عقما؟
    ***
    ( هل اقول الزمان أضحي نذيلا؟ ربما قلت لي : متي كان شهما؟
    هل اسمي حكم الندامي سقوطاً؟ ربما قلت لي : متي كان فخما؟
    أين ألقي الخطورة البكر وحدي؟ لست أرضي الحوداث الشمط أما
    أبتغي يا سيوف ، أمضي وأهوي اسهماً من سهام ( كافور) أرمي)
    ***
    شاخ في نعله الطريق وتبدو كل شيخوخة، صبي مدلهما
    كلما انهار قاتل ، قام أخزي كان يستحلف الذميم الأذما
    هل طغاة الورى يموتون زعماً ـ يا منايا ـ كما يعيشون زعما؟
    أين حتمية الزمان؟ لماذا لا يري للتحول اليوم حتما؟
    هل يجاري، وفي حناياه نفس أنفت أن تحل طيناً محمي؟
    ( ساءلت كل بلدة: أنت ماذا؟ ما الذي تبتغي؟ أجل واسمى
    غير كفي للكاس، غير فؤادي لعبة في بنان (( لميا)) و ((ألمي))
    ***
    كيف يرجو أكواز بغداد نهر قلبه وحده من البحر أطمي؟
    كان أعلي من ( قاسيون) جبيناً من نخيل العراق أجني وأنمي
    للبراكين كان أماً: أيمسي لركام الرماد خلاً وعما؟
    ***
    ( حلب يا حنين، يا قلب تدعو لا ألبي ، يا موطن القلب مهما..
    اشتهي عالماً سوي ذا، زماناً غير هذا وغير ذا الحكم حكما
    أين أرمي روحي وجسمي، وأبني لي، كما أستطيب روحاً وجسما؟)
    ***
    خفف الصوت للعداء ألف سمع : هل ألاقي فدامة القتل فدما؟
    يا أبا الطيب اتئد: قل لغيري : أتخذ حيطة : علي من ومما؟
    كلهم ( ضبة) فهذا قناع ذاك وجه سمي تواريه حزما
    ( الطريق الذي تخيرت أبدي وجه غتمامه أريد الأتما
    مت غماً: يا درب (( شيراز)) أورق من دمي كي يرف من مات عما
    ***
    أصبحت دون رجله الأرض، أضحي دون إطلاق برقه، كل مرمي
    هل يصافي؟ شتي وجوه التصافي للتعادي وجه وإن كان جهما
    أين لاقي مودة غير أفعي؟ هل تجلى ابتسامة غير شرمي؟
    ***
    أهله كل جذوة كل برق كل قفر في قلبه وجه ((سلمي))
    تنمحي كلها الأقاليم فيه ينمحي حجمه ليزداد حجما
    تحت أضلاعه (( ضفار)) ورضوي وعلي ظهره (( اثينا)) و(( روما))
    يغتلي في قذالة (( الكرخ)) يرنو من تقاطيع وجهه(( باب توما))
    ***
    التعاريف تجتليه وتغضي التناكير عنه ترتد كلمي
    كلهم يأكلونه وهو طاو كلهم يشربونه وهو أظما
    كلهم لا يرونه وهو لفح تحت أجفانهم من الجمر أحمي
    حالو، حصره فأذكوا حصاراً في حناياهمو يدمي ويدمي
    جرب الموت محوة ذات يوم وإلي اليوم يقتل الموت فهما
    قصتي مع البيان
    كنت في الصبا اعجب بالكلمة الجميلة، أنصت لها. أتمتع بحسنها، يشدني جرسها، يخلبني سرها، يدهشني أسرها، اسمع الكلمة البليغة من النثر والشعر فأجد لذة في سماعها ، وتغمرني فرحة في تأمل بيانها، فالبيان سواء كان قرآناً أو حديثاً أو شعراً أو رواية هو منهي الإبداع لدي، وأحياناً أتناول كلمات من القرآن فاٌقرأ ما كتب عنها المفسرون والبلاغيون ثم أعود بنفسي متأملاً متفكراً متدبراً، فأجد لها في أعماقي معاني لا أيستطيع أحياناً أن أعبر عنها بلساني، وكم هي الآيات التي هزت كياني، وحركت أشجاني، وزلزلت أركاني، وقد تكون هذه الآيات وعظاً، أو قصصاً، أو حواراً، أو خطاباً، أو وصفاً، المهم أنني أعيش مواقف من التأثر لروعة البيان وجمال الخطاب.
    وفي عام 1400هـ كنت مع سماحة الشيخ الإمام العلامة / عبد العزيز بن باز في جازان لافتتاح مخيم دعوى هناك، وبدأ الحفل بآيات من أول سورة فصلت، قارئها طالب جميل الصوت، حسن الأداء،رخيم النغمة، وكنت قريب عهد بقراءة السيرة، وقصة السورة؛ فتأثرت وأنا جالس بين الناس وأصابني اندهاش ، ودعيت بعدها بفقرتين لإلقاء قصيدة؛ فلما ألقيت ما يقارب عشرة أبيات وكانت أربعين بيتاً لم أستطيع المواصلة، وشعرت بتعب وإعياء، فقطعت الإلقاء فجأة وجلست، وكان الموقف لافتاً للنظر، وما ذاك إلا لما بقي في نفسي من تأثر بالغ أثر علي مشاعري وعواطفي.
    وصلينا في الحرم المكي صلاة التراويح فرفع الإمام صوته بقوله تعالي: )فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِك)(محمد: الآية19) ، وارتج الحرم بالصوت، ولكنه بلغ الأعماق فلا أدري هل أعجب من هذا البيان الآسر، أم من هذه الفخامة والإشراق والإعجاز، أم من هذا الصدق واليقين والعدل؟!
    كنت اقف علي بعض الجمل من القرآن فأفصلها كلمة كلمة كما يفصل الدر من عقده، والجوهر من خيطه، وقفت مرة عند قوله تعالي: )وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ) (قّ:10) فتأملت كلمة( باسقات) وجمالها، فإذا لها مدلول غير مدلول طويلات؛ لأن الباسق الطويل في حسن ورواء، وكذلك كلمة : (طلع) كيف اختارها من بين كلمة ثمر وحب ورطب وبسر ونحوها وكلمة: ( نضيد) وما فيها من جمال ودلالة وإشراق يذكرك بالعقد الزاهي من الجوهر.
    وقرأت قوله تعالي عن كتابه: (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت:42) فهزني هذا الكلام الجليل، ثم عدت إلي مصطفي صادق الرافعي، فإذا هو مندهش لهذه الآية ، مأسور لجزالتها وفصاحتها . ومرت به آية: ) فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ )(سـبأ: الآية19) فوقف متأملاً صامتاً منبهراً من هذه الإجادة والإيجاز والإعجاز، ثم طالعت مذكرات الإبراهيمي الجزائري فإذا هو يدبج أروع الكلام عن هذه الآية، ويعلن اندهاشه من هذا الكلام المشرق السامي الراقي.
    وعشت مع سورة الجن، فكأني في عالم الجن والأنين، يبهرني اللفظ وياسرني المعني، وتذهلني الفصاحة، ويهزني الإعجاز ، ثم أعذر الجن وهم يقولون : (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً)(الجـن: الآية1)، وأقرأ كلام سيد قطب فإذا هو يعيش تلك اللحظات من الانبهار والاندهاش لهذا الكلام وكم هي الآيات التي أوقفتني وسلبت لبي، وذهب بي الإعجاب بها كل مذهب، وتمنيت أن عندي من البيان ما يعبر عما يدور بخلدي من معان كامنة مستورة في الحشا، وكنت أردد آية: (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (هود:44) ، فأعيد النظر فيها وأعرضها علي بعض الأصدقاء ليشاركني هذه المتعة ، ثم أجد عبد القاهر الجرجاني يبسط الكلام عن إعجاز هذه الآية ووجه البيان والبديع فيها .
    ووقفت عند آية : (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاء)(المائدة: الآية64) ، فعجبت لقوة هذا الحديث الذي ينسق قلاع الباطل، ويحطم أسوار الزور، ويجتث شجرة العناد والتمرد.
    وطالعت عالم البيان في حديثه صلي الله عليه وسلم وتأملت أحاديثه العذاب الرطاب، وكلامه الجزل الفخم وذهبت مع الشعر فحفظت منه الكثير ورويت الكثير، ولكن الذي أحفظه هو الذي يعجبني ويطربني.
    وسافرت مع المحدثين، والنفلة والمؤرخين، والمفسرين، وأهل اللغة والأدباء، أقف مع الرائع الجميل من كلامهم وأعيد القطعة الماتعة من كلام الذهبي، والوقفة الصادقة لابن تيمية والمقولة المؤثرة لابن القيم، والمداخلة الخلابة للجاحظ، والعرض الشائق لابن خلدون ونحوهم، وأكثر ما يشدني في ذلك البيان وحسن السبك، وجمال اللفظ ، وقوة المعني وسطوع البرهان.
    جلست مع صديق لي فقرأت عليه هذه القطعة للجاحظ إذ يقول : جعلا فداك، وإنما أخرجك من شيء إلي شيء وأورد عليك الباب بعد الباب، لأن من شأن الناس ملالة الكثير واستثقال الطويل؛ وإن كثرت محاسنه، وجمت فوائده، وإنما أردت أن يكون استطرافك للآتي قبل أن ينقضي استطرافك للماضي، ولأنك متي كنت للشيء متوقعاً، وله منتظراً، كأن أحظى لما يرد عليك، وأشهى لما يهدي إليك وكل منتظر معظم ، وكل مأموم مكرم، كل ذلك رغبة في الفائدة، وصبابة بالعلم، وكلفا ًبالاقتباس، وشجاً علي نصيبي منك، وضنناً بما أؤمله عندك ومدارة لطباعك واستزاده من نشاطك، ولأنك علي كل حال بشر، ولأنك متتاهي القوة مدبر.
    كررت هذه القطعة الفائقة ،فكأنني أجد طعمها في فمي قطعة من الشهد ، وزلالاً بارداً من معين صاف، وبقيت أقلبها في عيني تقليب الدرة في اليد، والفكرة في القلب، والخاطر في الضمير، وأنت لو تأملت هذه القطعة النثرية الفائقة للجاحظ لوجدتها في أوج البيان، وقمة الفصاحة بعيدة عن التزويق والتكلف ، سليمة من التبذل والرعونة، ساحرة فاتنة.
    وإنما ذكرت هذا مثلاً ، وإلا فكم من مقالة وقطعة وقصيدة توقف اللبيب وتدهش الفطن من حسنها وروعتها.
    أسمع الخطيب والواعظ والمعلم والمفتي والشاعر والمحاضر فلا يملك إعجابي إلا المتفرد في بيانه ، المتوحد في اختيار مفرداته ، واصطفاء كلماته، وانتقاء جملة، أما الهذر والحشو والإكثار النبي صلي الله عليه وسلم فكل يستطيعه وهو المبذول المملول المرذول المدخول!.
    حدثني أحد الأدباء : أن ( هتلر) أراد أن يلقي خطاباً للعالم يوم زحفت جيوشه غلي موسكو، يملأ به المكان والزمان ،فامر مستشاريه باختيار أقوس وأجمل وأفخم عبارة يبدأ بها خطابه الهائل للعالم، سواء كانت من الكتب السماوية، أو من كلام الفلاسفة ، أو من قصيد الشعراء، فدلهم أديب عراقي مقيم في ألمانيا علي قوله تعالي: )اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) (القمر:1) فاعجب ( هتلر) بهذه الآية وبدأ بها كلمته وتوج بها خطابه.
    قف مع هذه الآية ورتلها وتأملها لتجد فخامة في إشراق، وقوة في إقناع، وأصالة في وضوح.
    وقرأت مقالة لأديب يهاجم أديباً آخر سرق له مقالات ونسبها إليه، فجعل عنوان هذه المقالة قوله تعالي : ( أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ)(يوسف: الآية70) فبقيت مع العنوان متأملاً مكرراً معجباً ، وأهملت المقالة!؛ ولهذا فإنك تعذر كل من أسره القرآن واستمال قلبه وسيطر علي روحه، حتى إن أحد العرب صلي خلف الرسول صلي الله عليه وسلم فسمعه يقرأ: )يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً) (الطور:13) فكاد قلبه أن يطير ، وسمع آخر قوله تعالي: )أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) (الطور:35)فذهل وتحير من بلاغتها وجمالها، وهذا الذي حمل الوليد بن المغيرة ليصبح صيحة المعترف ويقول: (( إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلي عليه).
    إن صرعي الشبهات لا يعجبهم القرآن، وإن عبيد الشهوات لا يهزهم هذا الكتاب العظيم؛ إن القرآن يعجب سليم الفطرة، بريء الضمير، حي القلب، مشبوب العاطفة، متوقد الذهن، صافي القريحة، فهذا أرض طيبة خصبة لغيث البيان ومطر الفصاحة العذب.
    مرت بي مئات المقالات والقصائد؛ فوجدتها ثقيلة وبيلة لا تستحق الاهتمام والمطالعة، مهلهلة السبك ضعيفة البناء، ركيكة اللفظ ، ماتت قبل أن تولد، ودفنت قبل أن تحيا جزاء وفاقاً، وبقيت الكلمات الآسرة الساحرة الساطعة خالدة خلود الحق، لامعة لموع الفجر، جميلة جمال الإبداع.
    طالع كتاب( صيد الخاطر) لابن الجوزي، وكرر كلماته، وأعد جملة لتدرك سر شيوع هذا الكتاب وذيوعه وخلوده؛ إنها الفكرة الرائدة في ثوب جميل، والتوجيه الصادق في قالب بديع، والمعني العميق في لفظ بهيج مشرق، يقول ابن الجوزي في كتاب طيب الذكر(( إلا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات يحفظ الله بهم الأرض ، بواطنهم كظواهرهم بل أجلي، وسرائرهم كعلانيتهم بل أحلي ، وهممهم عند الثريا بل أعلي ، إن عرفوا تنكروا ، وإن رئيت لهم كرامة أنكروا فالناس في غفلاتهم، وهم في قطع فلاتهم، تحبهم بقاع الأرض ، وتفرح بهم أفلاك السماء، نسأل الله عز وجل التوفيق لاتباعهم، وان يجعلنا من أتباعهم)).. انتهي كلامه ولكن لم ينته أثره ولا نوره ولا أسره ولا جماله، إن البحث عن البيان في الكلام متعة؛ لا يعادلها متعة ارتياد الروض الأخضر، والخميلة المائسة ولا يعادلها مجلس أنس، أو رحلة سياحة ، وقد وصف أحد البلغاء كلام أحد الأدباء فقال: إذا تحدث فكأن السحر دب في جسمك، وهذا معني قوله صلي الله عليه وسلم : (( إن من البيان لسحراً))، فهو يفعل السحر في خلبه للب السامع ، يقول ابن الرومي:
    وكلامها السحر الحـلال لوانه لم يجن قتل المسلم المتحرز
    إن طال لم يملل وإن هي أوجزت ود المحدث أنها لم توجـز
    والكلمات الجميلة هي التي نقشت في أذهاننا وكتبت في قلوبنا، فبقيت وعاشت : أقرا كلام علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ فأكرره كأنني اشرب زلالاً بارداً حلواً علي ظمأ في قيظ، حتى عقد له ابن كثير في تاريخه فصلاً عنوانه: باب في كلماته الحاصلة التي هي إلي القلوب واصلة، ولما افتتح البخاري كتاب الرقاق من صحيحه ذكر قول علي: (( إن الدنيا ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة ارتحلت مقبلة، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب بلا عمل)) فأنظر إلي هذا الإيجاز مع قوة المعني وحسن الفواصل ، وبراعة الإيراد، وجمال العرض.
    ولما بدأت في مطالعة ( الكشاف) للزمخشري بدأ ليصلي علي النبي صلي الله عليه وسلم فقال: والصلاة والسلام علي حامل لواء العز في بني لؤي، وصاحب الطود المنيف في بني عبد مناف بن قصي، صاحب الغرة والتحجيل، المذكور في التوراة والإنجيل...إلي آخر الكلام الجزل الفخم ، ولحسنه حفظته.
    عن أول طبعة لمصنف ابن أبي شيبة طبعت في الهند، قدم لها أحد علماء الهند مقدمة باردة سامجة متفككة متهالكة، حتى صارت مصدر نادرة في المزاح، وما هذا إلا لأن الرجل يكتب بغير لسانه، وما غاص في مفردات اللغة العربية، وما تمتع بجمالها فهو غريب، وإنك لتسمع العالم يفتي، والمعلم يدرس، والخطيب يتحدث، والشاعر يلقي، فتعرف قوة هؤلاء من ضعفهم وبيانهم من عيهم من أول وهلة؛ لأن الكلام الباهر الجميل الساطع لا يخفي حسنه، ولا يجهل قدره.
    إن أساطين البيان حفروا كلماتهم في ديوان التأريخ، وذاكرة الأجيال لأن الإبداع له خلود، والتفوق له ذيوع، والتفرد له امتياز.
    قال أحد الخلفاء لبليغ: ما البلاغة؟ قال هي: أن لا تبطئ ولا تخطئ. قال مثل هذا؟ قال مثل هذا؛، وانظر كيف أوجز وأعجز . فما أسرع جوابه وأحسن صوابه.
    ومدح رجل علياً ـ رضي الله عنه ـ وكان يبغض علياً ـ فقال له علي: أنا فوق ما في نفسك ودون ما تقول، وقال له رجل : لماذا اتفقت الأمة علي الشيخين، واختلف عليك، قال لن رعيتهم أنا وأمثالي ، ورعيتي أنت وأمثالك ! فقل لي بربك أي جواب هذا الذي كأنه أعده من شهر.
    لقد حرمنا متعة البيان بسبب هذا الهذيان، كلام طويل ثقيل وبيل، وتكرار وتبذل، حتى إنك لتسمع الخطيب يتكلم ساعة كاملو ولو جمع ما قال في خمس دقائق لأحسن إلي نفسه وإلي السامعين.
    إن السيلان الخطابي، والثرثرة في الحديث شيء ، والبيان والبلاغة شيء آخر ، إن البيان هو أن تصيب المحز وتشفي النفس وتبلغ حجتك.
    ولولع النفس بالبيان ، وتعلق القلب بالفصاحة؛ سافرت مع أبى الطيب المتنبئ لجمال شعره وروعة بيانه،وجزالة لفظه، وبراعة عرضه، وأما مبادئه ومذهبه في الحياة فلنا معه حديث آخر في هذا الكتاب.
    مملكة البيان (ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ)
    (الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْأِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) فصار هذا المخلوق بالمنطق آية باهرة علي عظمة خالقه، وصار بالبيان مخلوقاً كريماً يقول الكلمة فتخلب الألباب، وينطق اللفظة فتدهش العقول، يصوغ من الحروف سحراً، ويجري من الجمل نهراً، يهدي الجموع الثائرة بخطاب، ويحرك القلوب الخامدة بموعظة وإن العبارة البليغة الباهرة لهي أجمل من اللوحة الهائمة في الحسن وإن الجملة الموحية الآسرة الأخاذة لهي أبرع من ريشة الرسام العبقري، وإن أهل العقول الراشدة السوية يجدون في مطالعة البيان من المتعة واللذة ما لا يجدونه في مشاهدة الخمائل المائسة، والجداول الرقراقة.
    واعلم أن قوت القلوب موائد من المعاني الجميلة الخلابة، وإن زاد النفوس لهو مدد من البينات، وإن معين الأفئدة الرقراق لهو عين من الإبداع في القول يشرب بها النبلاء يفجرونها تفجيراً.
    إن من أعظم أوصاف رسالته صلي الله عليه وسلم أنها ذات بيان باهر ، وبلاغة فائقة، وتأثير عجيب، ودونك هذا القرآن الكتاب الخالد، والمعجزة الظاهرة، التي شدهت العقول، وهزت الأنفس، حتى أنصتت لها البصائر بإمعان، وأخبتت لها الأرواح في خشوع، فاهتزت لهذا البيان، وربت بهذه البلاغة ، وأنبتت من كل زوج بهيج من الإيمان والعطاء والتضحية.
    كان رسولنا صلي الله عليه وسلم افصح الناس مل الناس، وأبلغ البشر جميع البشر، فجاء خطابه غيثاً هنيئاً مريئاً، يهجم علي القلوب القاحلة فإذا هي حدائق ذات بهجة ببركة هذا الكلام، فصارت جملة صلي الله عليه وسلم حديث السمار، وزاد الركب، اشهر من الأمثال ، وآنس من العافية، وأجمل من طلعة الفجر الباهية، ولأن المتفوقين من الناس والبارعين من العقلاء يطربون لأسرار إعجاز في البيان، ولطائف الإلهام في القول، ونكات الفصاحة في الحديث، ولقد أمر الله تعالي رسوله صلي الله عليه وسلم أن يهز الأنفس بالقول المؤثر فقال: ( وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً)(النساء: الآية63)فبالقول البليغ تقوم الحجة، وتتضح المحجة، ويقذف بالحق علي الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق.
    وقد أحببنا أن نسافر مع الكلمة الشاردة الفريدة، والجملة الناصعة المشرقة والقول الفصيح الجذاب فاخترنا شاعراً لامعاً وأديباً باقعة، وعبقرياً فذاً، تجذرت كلماته في قلوب رواد الإبداع ، وغاصت إشراقاته في نفوس محبيه، هذا من حيث جمال شعره، وروعة قصائده،وسحر بيانه، وأما من حيث مذهبه ومنهاجه في حياته فلنا معه وقفات ومؤاخذات ، لا نظلمه ولا نهضمه، ولا نفرط عليه ولا نطغي، بيننا وبينه ميزان الإنصاف، لا يضيع حبة خردل من الحقيقة، وأمامنا وأمامه كتاب المروءة والعدل، لا يغادر صغيرة من الإبداع ولا كبيرة من جواهر البيان إلا أحصاها.
    فمرحباً بملك الشعراء في مملكة البيان، ونحييه بقوله هو:
    يا فخر فإن الناس فيك ثلاثة مستعظم أو حاسد أو جاهل
    وإذا أتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة لي بأني كامل
    وسوف نقرأ المتنبئ قراءة المتلمس للبيان، المشغوف بالحسن، المتلهف علي الإبداع ، وهو الذي يقول لنا:
    لا تعذل المشتاق في أشواقه حتى يكون حشاك في أحشائه
    وقد أبدع في هذا البيت، وإليك بسطه بالنثر، فهو يقول لك: أرجوك لا تثرب علي المشتاق المحب في تلهفه وتوجعه واحترافه، ولا تلمه علي زفراته والتهاب حشاياه ، واضطراب جوانحه، فإنه معذور بما يحمل من حب، وما يجد من صبابة، فما دام انك لم تذق ما ذاق من اللوعة والأسى، فلماذا ـ رعاك الله ـ تلومه وتؤنبه؛ لأن حالك غير حاله.
    ونحن في قراءة شعر المتنبئ نجد من هذه اللوعة والاشتياق والتأثر ما نرجو معه أن يعذرنا لائمونا، ولا يثرب علينا أحد من الناس هذه النزعة الأدبية، والغرام البياني مع كل لفظ جميل ساحر.
    المتنبئ
    تجاوزنا السيرة الذاتية، وتخطينا التراجم التقليدية، ووصلنا إلي نتاج هذا الشاعر مباشرة؛ فالمتنبئ عندي ملك الشعراء؛ لأن للشعر وزيراً وأميراً وقاضياً وفقهياً ، ولكن مملكة الشعر لملكها احمد بن الحسين المتنبئ لمجموع محاسنه، وكلية إبداعه، وقد يفوقه في قصيدة أو بيت واحد غيره من الشعراء، لكن مجموع شعره لا يفوقه فيه شاعر ولهذا يقول:
    أنا السابق الهادي إلي ما أقوله إذا القول قبل القائلين مقول
    وهذا الشاعر انصهر مع الكلمة، وذاق البيان، وأشرب في قلبه الفصاحة فذابت حشاياه، وغلت مراجل فكره بجواهر من القول فاقت الوصف، والذي يعجبك في المتنبئ هذا الاحتراف والإشراق، فهو محترف بهمومه وهمته وطموحاته، مشرق بعبقرية وإبداعه ونبوغه، وهو كما قال في ممدوحه:
    وإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال
    ولك أن تقف أمام هذا البيت الذي يغنيك عن إسهاب من القول، وحواش من الحديث ، فهو كما يقول لممدوحه: إنك وإن تفوقت علي أقرانك ، وتفردت بصفاتك عن بني جنسك، وتميزت هذا التميز المنقطع النظير ، فلا غرابة في ذلك ، فإن المسك علي ندرته وشرفه وطيب رائحته وارتفاع ثمنه؛ من جنس دم الغزال.
    البطاقة الشخصية:
    أنا الذي نظر الأعمى إلي أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم
    هذه ترجمة موجزة للمتنبئ ، فليس يهمنا معرفة اصله وفصله ونسبه وحسبه، بل نريد إبداعه ولموعه كما قال الشاعر:
    أنا لست مهتماً بأصل قبيلتي ورائي قريش أم ورائي تغلب
    فليست بلادي ببرقاً أو خريطة ولكن بلادي حيث اسطيع أكتب
    فهو يقدم لنا نفسه بهذا البيت علي أنه موهوب ، فرض نفسه علي الناس بشعره وأدبه حتى إن الأعمى الذي لا يبصر شيئاً نظر إلي أدبه، لقوة تأثيره، وسطوع تعبيره، وبلاغة تصويره، والأصم الذي لا يسمع شيئاً أنصت لكلماته النافذة الأسرة الباهرة.
    أما شعره ، فيكفيه أن الدهر أحد رواة شعره، والأيام والليالي أصبحت تردد هذا الإبداع وتغني هذا السحر الحلال:
    وما الدهر إلا من رواة قصائدي إذا قلت شعراً اصبح الدهر منشداً
    فسار به من لا يسير مشمــراً وغني به من لا يغني مفـــرداً
    مطالع قصائده
    المتنبئ يخطف الأضواء ببريق مطالعة القوية النافذة، ومطلع القصيدة كالوجه من الجسم ، والعنوان من الكتاب؛ لأنها اول ما يطرق السمع، ويصل إلي القلب، فهو يختار المطاع بعناية، ويجود أول القصيدة، حتى صارت مطالعة كالأمثال إشراقاً ، واسمع بعض أجزاء لهذه المطالع، ثم بسط القول في ذلك؛ يقولك (( وأحر قلباه ممن قلبه شبم)) ويقول : (0 لكل امرئ من دهره ما تعودا)) ويقول : (( حشاشة نفس ودعت يوم ودعوا)) ويقول: (( باد هواك صبرت أم ام تصبرا)) ويقول : (( لا خيل عندك تهديها ولا مال)) ويقول : (( بم التعلل لا أهل ولا وطن)) ويقول : (( نعد المشرفية والعوالي)) ويقول : (( فراق ومن فارقت غير مذمم)) ويقول : ((لا تعذل المشتاق في أشواقه)) ويقول : (( عدوك مذموم بكل لسان)) إلي آخر تلك المطالع التي تفرض حسنها علي بصائر عشاق البيان.
    فهو لا يبدأ في قصيدته ضعيفاً، ولا متخاذلاً، بل يحتفل بأول كلمة يقولها في قصيدته ، ويمنحها من رشاقة عباراته، وحلاوة منطقه، وطلاوة سحره ما يجعل هذا المطلع محفوظاً سائراً شارداً.
    أراد أن يعاتب سيف الدولة، وأن يتوجع أمامه، وأن يتوجع عنده من حساده ، ,ان يشكو إليه من خصومه؛ فماذا عسي أن يبدأ به لهذه القصيدة، هل يبدؤها بحكمة؟ لا، هل يبدؤها بغزل؟ لا ، بل الأحسن أن يقول في أولها: (( واحر قلباه)) هكذا صارخة قوية متمردة، تتقطع معها كبده وأنيناً ، ويتمزق مع آهاتها وزفراتها ما بقي معه من قلب مكلوم، وروح منهكة مضطربة.
    ودخل علي امير ليهنيه ويبارك له، فليس للغزل والغرام هناك مقام، وليس للحكمة مناسبة،وإنما بدأ معتذراً ومتلطفاً ليقول:
    لا خيل عندك تهديها ولا مال فليسعد النطق إن لم تسعد الحال
    وهو مطلع فائق بكل معاني الكلمة ، آسر بكل مدلول الأسر، غاية في الحسن، وآية في المتعة، حتى صار أنشودة عذبة علي شفاه الرواة، ومثلاً شروداً علي ألسنة الحداة . وكأني به يمد صوته بحرف (( لا)) ثم يرسل البيت ليكون أجمل من الهدية وأثمن من العطية.
    يريد أن يصف همة سيف الدولة، وعلو قدره، وارتفاع درجته بما حققه من نصر، وحازه من مجد فيبدأ بقوله:
    علي قدر أهل العلم تأتي العزائم وتأتى علي قدر الكرم المكارم
    وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم
    وأنت إذا سمعت هذا البيت وقر في خلدك ، واستوي في فؤادك، فسوف تعلم أن الرجل سوف يحلق بإبداعه في عالم الهمة، وسماء التضحية ، ودنيا العظمة، فهو يقدم لك عنوان الكتاب، ومفتاح الباب، ولجام الفرس؛ لتتهيأ لما سوف يبثه من مديح راق ، وثناء عبق وإشادة سامية.
    يريد أن يخبرك بحاله بعد الفراق والبعد ونكسة البال، وضيق الصدر وتكالب الأعداء ، وقلة النصر؛ فيقذف بهذه العبارات أولاً:
    بم التعلل لا أهل ولا وطن ولا نديم ولا خل ولا سكن
    فتفهم أن الرجل محترف بمعاناته ، ملتهب بآلامه، تكاد نياط قلبه أن تتقطع، وتوشك أعصابه أن تتمزق ، فهو يتساءل متعجباً من حاله، لماذا يتعلل ويتصبر وليس عنده أهل يأوي إليهم، فيبثهم وجده، ولهيب صدره، وليس لديه وطن لأنه غريب مرتحل، وليس عنده صديق؛ فقد خانه الكل، وتنكر له الجميع، وما عنده محبوب يبثه نجواه، وينفث فيه شكواه، وأيضاً ليس عنده سكن يضمه ويحتضنه، فهو في حالة أبلغ وصف لها هذا البيت ، وياله من مطلع ذائغ فائق.
    ويذهب طريداً شريداً إلي كافور، وقد تقطعت به الحبال، وضاقت به الآمال، وأظلمت أمامه السبل، فلا يبدأ بالمدح؛ لنه في شغل شاغل عنه، ولا يستفتح بالغزل؛ لأنه يتلظى بالمرارة، ولا يقدم الأمثال؛ لأنه في عالم المعاناة والغربة، وإنما يقذف بهذه الحكمة التي تدل علي ما وراءها من كرب شديد، وحزن بالغ، وبال كسيف أسيف:
    كفي بك داء أن تري الموت شافياً وحسب المنايا أن يكن أمانيا
    تمنيتها لما تمنيت أن تــــري صديقاً فاعيا أو عدواً مداجياً
    يا الله! إلي هذه الدرجة من البلوى يصل هذا العبقري الفذ، إلي درجة يتمني فيها المنايا الحمر الكوالح، ، وإلي حد يري ان دواءه يمكن في الموت، فإذا وصل الحال إلي هذا المستوي ، فحسبك بها بلية كبرى ومصيبة عظمى، حتى إن شاعرنا فقد كل صديق، ولم يجد حتى عدواً مجاملاً ، بل كلهم أصبحوا أعداءه؛ لأنه ناجح فحسب ، وهم كلهم أعداء النجاح.
    أما كافور فيريد مدحه وتبجيله وتفخيم أمره؛ فينفجر بهاذ المطلع الذي كأنه إطلاله بدر من سحب، أو إشراقة نجم من حجب، أو طلعة فجر في الآفاق، يقول:
    عدوك مذموم بكل لسان ولو كان من أعدائك القمران
    ولله سر في علاك وإنما كلام العدى ضرب من الهذيان
    هكذا بدأ قصيدته قوياً لامعاً فياضاً، وانظر إلي قوة الأسر، وبراعة الاستهلال، وإشراق الكلمات، وجزالة الجمل، فكأنه يفصل ثوباً زاهياً علي ممدوحه، أو يضع علي هامته تاجاً مرصعاً ، فهو يحطم شبه أعداء ممدوحه، وينسف أباطليهم، ويدفع اقوالهم بهذا القول البليغ السار، حتى لما سمع أحد العلماء هذا المطلع المرار قال: هذا والله هو الشعر.
    ولكنه يحارب حتى في مصر، وتضيق به الأرض بما رحبت كما وصف حاله:
    غريب من الخلان في كل بلدة إذا عظم المطلوب قل المساعد
    ويصل إليه عيد الفطر وهو في مصر، فلا يفرح بالعيد ولا يبهج به، ولا يحتفي به؛ لأنه غريب شريد طريد مكبوت، بل ينفجر ناقماً غاضباً باسراً عابساً ليقول:
    عيد بأية حال عدت يا عيد بما مضي أم لأمر فيك تجديد
    أما الأحبة فالبيداء دونهم فليت دونك بيد دونها بيـــد
    بهذا المطلع البارع المعبر المصور يبدأ بكاءه، ويستهل عويله، فهو أبداً غاضب كالليث، جاهم كالليل، ثائر كالبركان، عاصف كالريح، يعلن للمشاهدين كل ساعة تمرده وعنفوانه ورفضه ، وهو دائماً معارض، تغلي نفسه بالغصص من زمانه وبني جنسه. إنه عند نفسه مظلوم معتدى عليه مقصود بالإيذاء ، تحبك له المؤامرات، وتنسج له العدوات، وتلفه المصائب من كل جانب، ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت.
    إنها عقوبة من الله لأعدائه كما يقول:
    إني وإن لمت حاسدي فما أنكر أني عقوبة لهـــم
    الشاعر الثائر
    هذا الشاعر محترف متدفق ، له معاناة تمور في صدره ، وعنده صراع داخلي يتفاقم في جوانحه ، فهو كتلة من الغضب علي المخالفين ، وهو شهاب ثاقب علي أعدائه ؛ لأنهم رفضوا الاعتراف به، وصادروا جهوده، وتتكروا ، فهم والزمان والمكان والأصدقاء والسلطان بل الجميع ضده:
    يا من ذكرت علي بعد بمجلسه كل بما زعم الناعون مرتهن
    يا كم قتلت وياكم مت عندكم ثم انتفضت فزال القبر والكفن
    إنه اقوي من أعاصير الخصوم، وأعتي من أراجيف الأعداء، فهم يميتونه وهو لم يمت، ويشيعون نهايته وهو لم ينته، فهو ساكن في ضمائر الجمهور ، خالد في سفر الإبداع، موجود في ديوان العبقرية، إن حساده يريدون شطب اسمه من سجل العظماء ؛ فيغضب ويثور ويحتج ويرفض:
    أبدو فيسجد من بالسوء يذكرني فلا أعاتبه صفحاً وإهوانا
    وهكذا كنت في أهلي وفي وطني إن النفيس غريب حيثما كان
    حسبك الله من شاعر تتحدي الأزمات ، وتدوس المنايا، وتجتاح معاقل الخصوم، وتواجه الموت الكالح بهمة كالدهر وعزيمة كالفجر.
    والرجل مجروح في الصميم، مكلوم في سويداء القلب من أناس ما قدروه حق قدره، وما احترموا منصبه السامي في الأدب:
    سوى وجع الحساد داو فــإنه إذا خل في قلب فليس يحول
    ولا تطعمن من حاسد في مودة وإن كنت تبديها له وتنيل
    هكذا جرب وذاق وجع الحساد، واكتوى بنارهم، وتلظى برمضائهم. إن المتنبئ شاعر مجدد في عالم الشعر، ليس تقليداً علي مذهب شعراء المناسبات، ورواد مقاهى النفاق السياسي، وضيوف حفلات مراسيم تكريم الوفود، فهو لا ينتظر من الخليفة أن يقول: يا غلام أعطه ألف دينار ، وأركبه بغلاً، واهده جارية؛ كلا، بل هو كما قال عبد الله البردوني:
    من تلظي لموعـه كاد يعمي كاد من شهرة اسمه لا يسمي
    من تداجي يا بن الحسين أداجي اوجهاً تستحق ركلاً ولطمـا
    إن هذا الشاعر يرفض أن يسام الخسف:
    من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيـــــــلام
    وهو يري أن الموت علي عز أجل وأشرف من حياة علي مهانة وذلة وخسة:
    وإن لم تمت تحت السيوف مكرماً تمت وتلاقي الذل غير مكرم
    إنه في هذا البحث يريحك من مطالعة كتاب في فن الاستجداء والاستخذاء، لتكون من حفظة متون الذل، ومن طلاب مدرسة الخنوع والجبن، وهو يري أن من مات تحت غبار المعركة لنصرة مبادئه، لا يذوق من طعم الموت إلا كما يذوقه صريع الشهوات وعبد النزوات:
    فطعم الموت في أمر حقير كطعم الموت في أمر عظيم
    وهو معذب بنفسه الطموحة التواقة؛ لأن بداخلها همة عارمة لا يردها شيء:
    لحا الله ذي الدنيا مناخاً لراكب فكل بعيد الهم فيها معذب
    إنه الصمود أبداً، والتفوق دائماً، وهو مذهب الناجحين في الحياة كما وصفه هو بقوله:
    لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتال
    وانظر ما أحسن لفظ المشقة؛ لأنه عالم فائق يندرج تحته كل معاناة وجهد وتعب، ولفظ ساد أجمل من كل لفظ في موضعه، فهو فصيح باهر وضيء ، وهذه ألفاظ زادها القرآن جمالاً وروعةً وإشراقاً، وانظر إلي الإيجاز والاختصار في قوله: الجود يفقر والإقدام قتال: مع حسن التقسيم، وجمال الفواصل، وبراعة الجرس، وحذف الحواشي والمعاضلة ، ويقول عن اندفاعه الجارف، وبعد نظره، وتدفقه العاطفي المزلزل:
    ولكن قلباً بين جنبي ما له مدى ينتهي بي في مراد أحده
    إنه يريد الاعتراف من الناس بنبوغه ومكانته وسموه، حتى يقول في مجلس ممدوحه:
    سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا بأنني خير من تسعي به قدم
    ومهما خالفناه في هذا التبجح المكشوف؛ فإننا نوافقه علي أنه نابغة في عالم البيان، وأعجوبة في دنيا الشعر، ويكفيه هذا الذيوع الأدبي والشيوع الشاعري وهو ما يريده.
    الشاعر الذائغ
    لا أعلم شاعراً فرض علي الناس إنشاد شعره وترديد أبياته كالمتنبئ؛ لأنه عاش ما يقول، وعانى ما يتلفظ به ، وانصهر بالحوادث فصورها شعراً، ولذع بالنكبات فأرسلها أمثالاً، ولابس التجارب فأبدعها حكماً، فصار شاعراً محفوظاً في الذاكرة حاضراً في الأجيال ، خالداً في ديوان الإبداع، وهاك بعض أبياته الذائعة الشائعة يقول:
    ومن نكد علي الحر لابد أن يري عدواً له ما من صداقته بد
    إن من يقول هذا الكلام لابد أن يكون مبدعاً موهوباً، أديباً مجرباً بليغاً عبقرياً، فالإبداع يخترع لك العني الجميل، والموهوب تسعفه ذاكرته بجواهر المعاني، والأديب يصوغها في قوالب أزهي وأبهي من الماس، والعبقري يتفرد عن التقليديين والعاديين والمجرب له مدد من حياته الغزيرة بالأحداث الغنية بالحوادث.
    لو أن متحدثاً أراد أن يقول معني البيت السابق نثراً لقال: إن الدنيا مشؤومة علي الأخيار، تضطرهم أن يحتاج الأخيار فيها إلي الأشرار، فيحملونهم وينافقونهم لجلب الخير ودفع الشر؛ لأنهم مضطرون لذلك؛ فيصبح العدو اللدود عند الضرورة صديقاً يذل له، ويصانع ويداري ويداهن للمصلحة المفروضة، أو الحاجة الملحة، أو الضرورة القائمة، ويكفي هذا ذلة للأحرار، وعلماً بحقارة ونذالة الدنيا، لكن المتنبئ يختزل هذا السيلان، والثرثرة اللفظية في بيت محبوك مسبوك أجمل من نجوم الليل، واثمن من حمر النعم فيقول:
    ومن نكد الدنيا علي الحر أن يري عدواً له ما من صداقته بد
    وتعال معي ـ رعاك الله، وضع أصبعك علي كل كلمة في البيت لتري روعة الاختيار ، وجمال الانتقاء، وانظر إلي كلمة نكد ويالها من لفظة معبرة موحية، تشعرك بالإشمئزاز من هذه الدنيا ، فهي دار النكد والكبد، وهي أبلغ في موقعها من لفظة غيرها مكانها، وكلمة الحر موحية فاتنة؛ لأن فيها معني الأنفة والكبرياء والشموخ، وهي التي بالمقابلة في البيت، ثم أنظر قوله عدواً له، وليس مبغضاً وكارهاً فحسب، بل عدواً كاشحاً النبي صلي الله عليه وسلم ثم يختار كلمة الصداقة، ولو أنه النفاق الظاهري، لكن ليقابل كلمة العدو، ثم يأتي بكلمة بد وقد احتاجت لها القافية حاجة الأرض للمطر، فجاءت في محلها لا و-ولا شطط؛ ليتم هذا البيت الفريد. ولك أن تقول نثراً: إن الحقراء إذا نالوا العظماء فهو دليل علي عظمة هذا العظيم وسمو قدره وجلالة مكانته وخطورة منزلته، ولكن المتنبئ يكسو هذه المعاني حلية باهية ، ويوشيها بحلة زاهية؛ لتبقي وتنقل وتعيش يقول:
    وإذا أتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة لي بأني كامل
    فأنظر إلي كلمتي ناقص وكامل وحسن المقبلة بينها ، وكلمة مذمتي وكلمة الشهادة، ثم ارجع البصر كرتين في سلامة هذا الذوق ، وجودة هذا الخاطر، وخصوبة هذه الذاكرة.
    إن الأمة أصيبت بإعياء في البصيرة ، وكساح في الذوق ، فما أصبح يهزها هذا الخطاب؛ لأن التبلد الذهني مع خشونة الطبع وانطماس العبقرية زادها عمي عن مشاهدة مرابع الجمال والبيان، ومطالعة البهاء والإبداع في هذا السحر من الكلام، والعذب من القول: ) فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً)(النساء: الآية78) ولك أن تفهم الناس بأن نواياهم وحدها لا تكفي بلوغ المقصود، وان طموحاتهم قد تصطدم بموانع لا تسمح ببلوغ مقاصدهم، فكم من أمنية عذبة لم تتحقق، وكم من مراد في الأذهان لم يحصل في الأعيان، لكن هذا الكلام قد يطير هباءً منثوراً ما لم يقيد بقافية جميلة، وكلمة شاردة، وهذا كما فعله المنبئ بقوله:
    ما كل ما يتمني المرء يدركه تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
    فأنظر إلي قوة الفكرة، وحسن الشاهد، وحلاوة السبك في إيجاز من القول، ولطف من العبارة، ورشاقة في المعني.
    إن الشيوع والذيوع للعالم والشاعر والواعظ والزعيم هبة ربانية، ولكن لها أسبابها ومواهبها ، وكان المتنبئ ذائغاً شائعاً حتى ذكر شارحو ديوانه أنه له خمسمائة بيت تدور علي ألسنة الناس، واصبحت بعض أجزاء أبياته كالسكر في الفم، والطل في الزهر، كقوله: (( فإن الخمر معني ليس في العنب)). وقوله: (( ان تحسب الشحم فيمن شحمه ورم))/ وقوله ك (( ما لجرح بميت إيلام)) ، (( إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه))، وقوله: (( علي قدر أهل العزم تأتي العزائم))، وقوله : (( ولا يرد عليك الفائت الحزن)) غلي آخر ذلك السمو البياني والرقي اللفظي والجبروت العاطفي، فهذا الشاعر ليس خاملاً يبحث عن المعاني المبتذلة عند الحاكة والحلاقين والباعة ، وليس بارداً يريد أن يقول كلاماً مقفي وحديثاً موزوناً، ولكنه مبدع حر ليس عادياً، عند عاطفة فوارة، ونفس جياشة ، وهمة مجنحة، وذاكرة خلاقة، مع حياة مليئة بالعبر والتجارب؛ ولهذا كله صار أعجوبة في شعره، شاغل للمجالس؛ حاضر للنوادي وإلا فما معني أن نري لعشرات الشعراء أسفاراً من الأشعار في مجلدات ضخمة وإذا بها خامدة جامدة هامدة ميتة )حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ)(المائدة: الآية3)، ولم يصل لنا من شعر مئات الشعراء إلا عشرات القصائد الشاردة التي هي عيون في الأدب مثل:
    0( قفا نبك ، وهذا الذي تعرف البطحاء وطأته، وعيون المها، والسيف اصدق أنباء، وأمن تذكر جيران بذي سلم، وعلو في الحياة وفي الممات ومجالس وحي مقفر العرضات،..)) مع قليل من القصائد في قوتها ثم تندرس بقية قصائدهم، ولا يدري بها إلا باحث، ولا يعثر عليها إلا منقب متخصص، إلا هذذا المتنبئ الأعجوبة فمجمل شعره ينشد بين الناس، وحكمته تدور بين العلماء، وقوافيه تدور دوران عيون المحبين في مجالس الأنس كما قال هو : (( إذا قلت شعراً اصبح الدهر منشداً)).
    لقد أعفانا المتنبئ من شعر الأعراب الذي ضيع أعمارنا في وصف ناقة عجفاء، وذكر منزل دارس مجدب، وتذكر فتاة في واد الغضا، ومدح شيخ قبيلته لا يحفظ الفاتحة،وسب قبيلة لأنها منعته من وجبة العشاء، فجاء المتنبي فحذف هذه الحواشي، ونسف هذه الحواجز الترابية ليرقي بمقاصد الشعر، مع ما عنده من غلو وإعجاب وتيه، وميزة المتنبئ أنه كبير المعاني جليل الأغراض ضخم المقاصد؛ اسمع بعض ذلك:
    يقول:
    أحقهم بالسيف من ضرب الطلى وبالأمن من هانت عليه الشدائد
    ويقول:
    لا يسلم الشرف الرفيع من الأذي حتى يراق علي جوانبه الدم
    ويقول:
    من اقتضي بسوى الهندي حاجته أجاب كل سؤال عن هل بلم
    ويقول:
    لا يدرك المجد إلا سيد فطن لما يشق علي السادات فعال
    ويقول:
    وإذا كانت النفوس كبـــاراً تعبت في مرادهــا الأجسام
    ويقول:
    ذل من يغبط الذليل بعيش رب عيش ألذ منه الحمام
    ويقول:
    يري الجبناء أن العجز عقل وتلك خديعة الطبع اللئيم
    ويقول:
    جود الرجال من الأيدي وجودهم من اللسان فلا كانوا ولا الجود
    وله في هذا المذهب قطوف دانية من القول الثمين والمعني الرصين.


    يتبــــــــــــــــــع
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  2. #2
    الصورة الرمزية عبدالملك الخديدي شاعر
    تاريخ التسجيل : Feb 2006
    الدولة : السعودية
    المشاركات : 3,954
    المواضيع : 158
    الردود : 3954
    المعدل اليومي : 0.60

    افتراضي

    لقد شبعت قصائد كثير من الشعراء موتاً قبل أن تولد، فها هي الدواوين في الأدراج جعلها الناس قراطيس يبدونها ويخفون كثيراً منها، إذا قرأت أكثرها قلت: أحسن عزاء من كتبها في مداده، وعوض الله من طبعها في ماله، حتى قال بعض الأدباء: طالعت ديوان فلان بن فلان ثم أخذته فأوقدت به ناراً، وصنعت عليها رغيفاً من البر، وها هي الصحف والمجلات والدوريات تمطرنا بسيل جارف من القصائد لا تستحق دقيقة واحدة لمطالعتها، ولا تسمح لنا نفوسنا بقراءتها؛ لأنها جمل متراكبة تراكب النمل، مزدحمة ازدحام شعر النيص، ثقيلة ثقل دم الضرس، لا تحرك في السامع شعره ولا تهز فيه ذرة،
    ومع ذلك يوصف هؤلاء الشعراء بالنجوم والامعين واساطين البيان، رحم الله امرءاً عرف قدر نفسه، وغفر الله لمن كان يستحي من الله ثم من خلقه؛ فنحن الآن وقعنا بين شعر يسمي عربياً وهو أعجم من العجمي، حروفه عربيه ومعانيه سوقية، يذوب سخفاً، ويندي حقارة وخسة، وبين شعر عامي شعبي يصلح لأهل البادية الذين لم يشاهدوا سبورة ولا طبشورة؛ ولم يحملوا قلماً ولا ورقة، ويظنون أن حدود العالم ما بين خيامهم ومرعى أغنامهم، لعل مقصودنا من دراسة المتنبئ أن نقول لرواد الأدب وشداة البيان وحداو القافلة: حلقوا في سماء افبداع واختاروا الأروع والأحسن ، وارتقوا غلي مستوى فهم كتاب ربكم جل في علاه، الكتاب الذي أعجز العرب العرباء، وأسكت الأدباء ، وأفحم الشعراء )ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيه)(البقرة: الآية2) ، ودعونا من هذا الهزال الأدبي ، والكساح الخطابي ، الذي ليس له عمر مديد، ولا مسقتبل عامر؛ لأنه ميت منذ ولادته، محكوم عليه بالفناء من لحظة وجوده ) فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْس)(يونس: الآية24).
    المتنبئ يلعب النفوس بتوجعه وتفجعه
    إن النفوس لا يحركها أي كلام ، ولا يهزها، أي حديث لأن الله خلقها عارفة مميزة، تفرق بين الجميل والقبيح والجيد والرديء، والشعراء درجات في اقتدارهم علي مخاطبة النفوس، وأظن المتنبئ بلغ الغاية في إلهاب نفوس سامعيه، وتحطيم الحواجز بينه وبين محبيه، لقد سبقه كثير من الشعراء إلي تلك المعاني الني جاد بها ، لكنه كساها رونقاً وحياة ومتعة فهذا أبو تمام يذكر المصلحة من المصائب بقوله:
    والحادثات وإن أصابك بؤسها فهو الذي أنباك كيف نعيمها
    لكن المتنبئ يسوقها في هذه التحفة الرائعة:
    ومن العداوة ما ينالك نفعه ومن الصداقة ما يضر ويؤلم
    فيطوف بعالم المعني الشمل الأعم في لفظ مترقرق بهيج.
    ويقول شاعر إيران السعدي الشيرازي:
    بكت عيني غداة البين دمعاً وأخري بالبكى بخلت علينا
    فعاقبت التي بالمدع ضنت بأن أغمضها يوم التقينــا
    لكن المتنبئ سبقه فحفر في ذاكرة الأجيال، ونقش في ضمائر الناس قوله:
    إذا اشتبكت دموع في خدود تبين من بكى ممن تباكي
    ويقول دانتي شاعر إيطاليا: إن السخفاء يجدون لذة في تتبع عثرات العظماء، ولكن المتنبئ يتفوق عليه ببيته الذائع المهيمن:
    وإذا أتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة لي بأني كامل
    وميزة المتنبئ كما اسلفت تفجعه وتحرقه بما يقول، وانصهار روحه بمعاناته، وذوبان حشاشته بقضاياه يقول: واحر قلباه، ثم يسكت، فكأن قلبه يريد أن يغادر محله، وكأن ضلوعه تريد أن تنقض ، ويقول:
    أصخرة أنا مالي لا تحركني هذي المدام ولا هذي الأغاريد
    فتشعر أن الرجل حلت به أزمة طاحنة، وكربة ساحقة ، وبلية ماحقة، ويصيح باكياً:
    صحب الناس قبلنا ذا الزمانا وعناهم من شأنه ما عنانا
    وتولوا بغصة كلهم منتـــ ـه وإن سر بعضهم أحيانا
    تسمع هذا فتحس بتعاطف وتضامن معه، فتشاركه هذا الأنين المكبوت، والعبرة المسفوحة، ويضج بحاله ويضيف من عيشه فينفجر شاكياً:
    أما تغلط الأيام في بأن أري بغيضاً تنائي أو حبيباً تقرب
    فتعتقد أن الرجل ضاقت به الأرض بما رحبت لما اعتراه من هموم وغموم، وتشاهد لوحة من لوحاته الحزينة وإذا به يرسم فيها:
    أريد من زمني ذا أن يبلغني ما ليس يبلغه من نفسه الزمن
    ولكنه وللأسف لم يحظ بنيل حظوظه، وإدراك رغباته، لأن مقاصده تنعكس، ومرارته تتقلب خاسئة حسيرة إليه، ويرثي أحد أصحابه فيبدأ البكاء بقوله:
    الحزن يقلق والتجمل يردع والدمع بينهما عصي طيع
    فتجد مع ألم المصيبة روحاً وثابة، وهمة جامحة، ونفساً صامدة، ولكنها موجعة منهكة.
    ويحتج علي الحمي ويصيح في وجهها:
    أبنت الدهر عندي كل بنت فكيف وصلت أنت من الزحام
    فإذا الرجل مضرس بالأنياب ، مجرح بالمخالب ، تنهشه النوائب من كل جهة كما يقول::
    رماني الدهر بالأزراء حتى فؤادي في غشاء من نبال
    فصرت إذا اصابتني سهام تكسرت النصال علي النصال
    فهو يحسو كأس المعاناة قطرة قطرة، ويتجرع غصص الكربات غصة غصة، وسامحه الله، ليته رد الأمر إلي فاطر السماوات والأرض، وسلم له أمره وردد )قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا)(التوبة: الآية51)إن الناس ليسوا بحاجة إلي كلام بارد ثقيل، يطفئ جذوة الخاطر، ويميت إشراق النفس، لكنهم بحاجة لم يترجم مآسيهم، ويشاركهم أحزانهم، ويعزيهم في مصابهم، ويخفف عليهم من ويلاتهم:
    ولابد من شكوى إلي ذي قرابة يواسيك أو يسليك أو يتوجع
    إن الشعر التقريري الإخباري أشبه بأخبار الطقس ، وأقام الأسعار ، ودرجات الحرارة )وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ) (صّ:34) .
    إن المتنبئ عاش نعمة الألم، ولذة المعاناة، وسرور الحرمان فقال:
    ذو العقل يشقي في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
    فلا حياة الله لذة في جهل، ومتعة في ذل، وحياة في خضوع، ومرخباً بموت علي عز، ومصيبة علي كرامة، وتضحية معها مجد، يقول هو:
    جزي الله المسير إليك خيراً وإن ترك المطايا كالمزاد
    فكل مشقة في سبيل هينة، وكل تعب من أجل المجد راحة، يقول:
    يهون علينا أن تصاب جسومنا وتسلم أعراض لنا وعقول
    فما دام العرض مصون ، والعقل محفوظ، فجرح الجسم سهل يسير.
    شاعر الحنين وأستاذ الوفاء
    لأبي الطيب طعم خاص في عالم الحنين إلي أهله وشبابه وموطنه، حتى مع من طرده، وأقصاه ونفاه، يقول لسيف الدولة بعدما فارقه إلي مصر:
    رمي واتقي رميي ومن دون ما اتقي هوى كاسر كفي وقوسي واسهمي
    ومعني البيت أن سيف الدولة رماني ـ سامحه الله ـ بالجفاء والإبعاد وأنا لا أستطيع أن أرميه؛ لأن له في قلبي محبة دفينة، ووداً دافئاً، وميلاً كامناً، كلما أردت أن أرميه وأنتقم منه كسر هواه وحبه في قلبي كفي وقوسي وأسهمي، ولكن انظر إلي نصاعة البيت وحلاوته وانسيابه.
    ويفارق أحبابه فيصرخ:
    يا من يعز علينا أن نفارقهم وجداننا كل شيء بعدكم عدم
    يعني يوم ارتحلنا عنكم مكرهين أظلمت أمامنا الطرق، وسدت في وجهنا الأبواب ، ما عاد شيء يبهجنا، وما صار لدينا متعة تسلية ، ولا منظر يعجبنا. بل قال عن وفائه وحفظه للعهد:
    خلقت ألوفا لو رجعت إلي الصبا لفارقت شيبي موجع القلب باكياً
    يا الله ! إلي هذا الحد وصل بك الوفاء يا شاعر العربية. إن الإيحاء الشعري فوق قضية البحر والوزن والقافية والروي، إنه سحر يجري في الأبيات ، وسحر يكمن في القصائد ، يفعل بالرواح فعل الغرام الهائج، أو الهيام المائج، وللمتنبي في باب الحنين مقامات مثيرة وشجون آسرة يقول:
    نحن أدري وقد سألنا بنجد أطويل طريقنا أم يطول
    وكثير من السؤال اشتياق وكثير مــن وردة تعليل
    لله درك يا بن الحسين، يا صاحب البديهة الحية والقافية الذائعة، لقد سكبت علي قلوبنا فيوضات من الشجون الذي لا ينتهي، والحنين الذي لا يهدأ.
    أما أولئك الشعراء الذين يملؤون بطونهم من طعام الخليفة، حتى إذا أتخم أحدهم قام ينظم قصيدة طويلة ثقيلة باردة سمجة، فلن تقرأ لهم جزاء وفاقاً علي بلادتهم وغباوتهم.
    ويقول أبو الطيب وهو يحن لمدوحه، يعد بحسن تعاهده، وحفظ مودته:
    أروح وقد ختمت علي فؤادي بحبك أن يحل به سواكاً
    فانظر كيف أغلق قلبه وسد منافذه لئلا يصل إليه محبوب آخر، واسمع إلي دفء هذا الحنين:
    ما لاح برق أو ترنم طائر إلا انثنيت ولي فؤاد شيق
    إن مرهف الإحساس النبي صلي الله عليه وسلم صافي الروح، تذكره المشاهد أحبابه، فيذكر ملاعب الصبا، ومراتع الشباب، ومعاهد الطفولة، ومنازل الصحاب، وخيام الجيران، أما المعاق نفسياً ، الميت عاطفياً، فله حديث مع الخبز، وقصة مع الفول، وقصيدة مع التمر الهندي:
    من لم يبت والحب ملئ فؤاده لم يدر كيف تفتت الأكباد
    وقديماً قال أحدهم:
    ولو كنت عذري المحبة لم تكن بطنيا وأنساك الهوى كثرة الأكل
    وقال آخر:
    ولما دعيت الحب قالت كذبتني ألست أري الأعضاء منك كواسيا
    وقال آخر:
    يبكي علينا ولا نبكي علي أحد لنحن أغلظ أكباداً من الإبل
    أما المتنبئ فقد ذابت حشاشته مما به من الحنين يقول:
    وعذلت أهل العشق حتى ذقته فعجبت كيف يموت من لا يعشق
    ويقول:
    كفى بجسمي نحولاً أنني رجل لولا مخاطبتي إياك لم ترني
    المتنبئ والحب
    الحب أرق كلمة في قاموس الحياة، وأجمل لفظة في دفتر الوجود، وأبهي عبارة في ديوان المعرفة، إنه صلة الروح بالروح، وضم القلب بالقلب، وعناق النفس للنفس، وأعرف بمعاني الحب وأسراره هم الشعراء؛ لأن عواطفهم جائشة، وجوانحهم مجنحة ، ومنهم كبيرهم الذي علمهم سحر الكلمة وهو المتنبئ.
    وتعال معي في بهو الحب ومع أبي الطيب إذ يقول:
    أرق علي أرق ومثلي يأرق وجوى يزيد وعبرة تترقرق
    جهد الصبابة أن تكون كما أري عين مســهدة وقلب يخفق
    فأنت تري أنه كلام خبير بالحب ، بصير بمذاهبه، غامض علي حقائقه، وانظر إلي تفننه وعجيب اقتداره في الرقيب، وخيانة الضمير، وغيض الدمع وابتداره يقول:
    حاشى الرقيب فخانته ضمائره وغيض الدمع فانهلت بوادره
    وكاتم الحب يوم البين منهتك وصاحب الدمع لا تخفي سرائره
    فهو ليس صانع كلام، ولا مزخرف قول، بل ذائق عارف، ويقول في مطلع قصيدة:
    باد هواك صبرت أم لم تصبرا وبكاك إن لم يجر دمعك أو جري
    فهو يصف لك ظاهرة من ظواهر الحب، وهو تجلد المحب وكتمانه لحبه، ولكن دمعه يفضحه رغم حبسه.ويقدم لك نفسه علي أنه مصاب بداء الحب، قتيل بالأعين النجل:
    فمن شاء فلينظر إلي فمنظري نذير إلي من ظن أن الهوي سهل
    ثم تشرق نفسه بمعني بديع من معانيه الفائقة:
    كأن رقيبا منك سد مسامعي عن العذل حتى ليس يدخلها العذل
    وهو معني معروف عند الشعراء ، يقول محمد بن داود:
    كأن رقيباً منك يرعى خواطري وآخر يرعى ناظري ولساني
    ثم يأتي بصورة خلابة تفرد بها ـ فيما أعلم ـ يقول:
    قالت وقد رأت اصفراري من به وتنهدت فأجبتها المتنهـــد
    فهو شاعر ثري التجربة، عامر الموهبة، صحيح المحبة، يقول:
    خريدة لو رأتها الشمس ما طلعت ولو رآها قضيب البان لم يمس
    فانظر إلي حضور الصورة في ذهنه، وجودة خاطره بالموصوف ، وسرعة استحضاره للمشاهد، ويقول:
    نثرت ثلاث ذوائب من شعرها في ليلة فأرت ليالي أربعا
    واستقبلت بدر السماء بوجهها فأرتني القمرين في ليل معا
    إن صاحب هذه البيات له ذاكرة وقادة، وطبيعة منقادة، فليس بارد المشاعر، جاف العواطف، بل هو أحق بقول القائل:
    وقاد ذهن إذا سالت قريحته يكا يخشى عليه من تلهبه
    وكلما غير قافيته خضرته صورة من الحب والنسيب في حلل وارفة من بديع الوشي، وغالي النسيج، يقول في مقام آخر:
    عجبنا فأذهب ما أبقي الفراق لنا من العقول وما رد الذي ذهبا
    سقيته عبرات ظنها مطـــراً سوائلاً من جفون ظنها سحبا
    إنه التفرد في الجودة، والتوحد في الآله، حتى يفرض عليك الاستماع له، والإعجاب بنتاجه الرصين ، لأن الرجل عميق في فنه ، موهوب في عطائه ، واصيل في موهبته، وانظر إلي قصيده وهو يناجي الأرواح بما يحمله من حب وحنين وشوق ولوعة، يقول:
    ليالي بعد الظاعنين شكول طوال وليل العاشقين طويل
    فانظر إلي حسن تأتيه للمعني، وبراعة استهلاله، واكتمال هذا البيت، حتى صار كالعنوان علي الكتاب، والوشم علي الكف، وأنصت لهذا الالتياع والوجد للمنازل في هذا المطلع الخلاب:
    لك يا منازل في القلوب منازل أقفرت أنت وهن منك أواهل
    فتبقي تردد معه مشدوها بطريقة اختياره وجمال بنائه، وهذا مطلع أنيق يظهر مادة الغرام في نفس هذا الشاعر الموهوب يقول:
    وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمه بأن تسعدا والدمع اشفاه ساجمه
    فهو يمزج الكلمة بالحب العاطفي بالحنين مع سهولة راقية في اللفظ. وجزالة وارفه في المعني. ومذهب سديد في الإبداع ، فحب المتنبئ ميل إلي الجمال، وإعجاب بالحسن، وشغف بالبهاء، وهو ليس وقفاً علي المرأة، بل حب وفاء لأصحابه ، من ملك، أو صديق، أو منزل، أو دار، لأنه ألوف يحفظ العهد. ويرعى الذمة، ويتعاهد الذكريات، ويرعى الوداد، ويبكي بكاء البطال، ويتفجع تفجع الشجعان ، ويتوجع توجع العظماء، ولكنه في النهاية إنسان له قلب ضعيف. وعواطف متأجحة، ودموع حارة، ونفس تذوب للجمال ، وتطير إلي الكمال، وتعشق الحسن.
    العلماء يستشهدون بشعر المتنبئ
    ما رأيت عالماً فذاً جاء بعد المتنبئ إلا استشهد بشعره في معرض حديثه، من موعظة وتفسير، أو سلوك، أو تربية، أو تاريخ، وقد مسحت كتباً كثيرة شهيرة فإذا للمتنبئ عشرات الأبيات منثورة في غصون هذه المجلدات، مثل إحياء علوم الدين للغزالي فله عنده قرابة عشرين بيتاً، وابن الجوزي مغرم في كتبه بالمتنبئ، وابن حزم مولع بشواهده، وابن تيمية يهش لنوادره، ويورد بدائعه، وابن القيم ينتقي مقطوعات ثمينة في كتبه، وعلماء التراجم يوشحون السير بشعره، والمؤرخون تسعفهم أبياته عند العرض والاستنتاج، والوعاظ يهزون الناس بقوافيه ، والملوك يديرون أدبه في مجالسهم، والأدباء يضمنون نتاجهم فيض المتنبئ، والكتاب يزينون مقالاتهم بتحفه الغالية، وبالجملة فلا أعلم شاعراً عربياً قديماً أو حديثاً شرق وغرب شعره، وخلد نتاجه كهذا الشاعر، شهادة يؤديها الأدباء ، ويقوم بها الشعراء، ويصدقها أرباب البيانن وكأن المتنبئ يعني هذا لما قال في شعره:
    إذا قلت لم يمتنع من وصوله جدار معلي أو خباء مطنب
    وقصدي من هذا الفصل إخبارك أن الشاعر الفذ هو من بقي حضوره، ودام ذيوعه، وفرض احترامه علي محبيهن ووجوده علي حاسديه، وكذلك كان المتنبئ ، فهو أشهر شاعر سمع به الناس، واحتفلت بشعره المنابر، وهضمت جمله الدفاتر، وتشنفت بقوافيه الآذان، ولعلت بقصائده المجالس ليصح في شعره قوله:
    أن الذي نظر الأعمى إلي أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم
    جواهر ثمينة في عقد المتنبئ
    أهدي المتنبئ للأدب العربي جواهر ثمينة من غالى الكلم، يعرف قيمتها هواة الحرف ، فغيره من الشعراء أحسن من بعض أبياته، ولكن هذا الشاعر أحسن في قصائده، وهذه جماليات فاتنة من جيد شعره، لا يحدها فن من وصف او غزل أو مدح أو حكمة، خذ قوله في الصفح الجميل:
    وفيك إذا جنى الجاني أناة تظن كرامة وهي احتقار
    فأنت لو ذهبت تنثر العقد الفريد، لجعلته كلاماً منثوراً لا يحفظ، ولا ينقل، وإنما سبيله الإهمال والإغفال، ولكن طالع إلي سبقه للمعني، وسبكه للفظ، ورشاقته في العرض ، وعلي قوله تعالي عن الأعداء: )لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً)(آل عمران: الآية111) يقول:
    ويحتقر الحساد عن ذكره لهم كأنهم في الخلق ما خلقوا بعد
    وهذا غاية المدح في عظيم يمتهن أعداءه، ويحتقر حساده ، إلي درجة أنه يعاملهم معاملة المعدوم الذي لم يخلق بعد، وهل لهذه سابقة لهذا المتفرد اللوذعي.
    وفي الذكر الحسن وتصويره بالحلل الجميلة التي تستر الجسم في بهاء، وتظهر الملبوس في سناء يقول:
    ورفلت في حلل الثناء وإنما عدم الثناء نهاية الإعدام
    فهو حائك يجيد نسج الكلام بعناية، ويختار الكلمات بقصد، ويعمد إلي أجل المعاني بترصد وتعمد.
    وفي باب كل حلاف مهين، يفاجئنا بنظرية تربوية ونفسية لا أعلم أحداً سبقه إليها فقال:
    وفي اليمين علي ما أنت واعده ما دل أنك في الميعاد متهم
    فكثرة الحلف مظنة الكذب )وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) (القلم:10).
    هل البلاغة إلا أصابت كبد العني بإيجاز من القول، مع سلامة من الإعياء اللفظي، ونجاة من الإسفاف ، وترفع عن الرخيص من اللفظ.
    وفي مسألة : وجزاء سيئة سيئة مثلها، تثور ذاكرته الهادرة بهذه الحكمة.
    إذا أتت الإساءة من وضيع ولم ألم المسيء فمن ألوم
    وهذا البيت له قوته وسمو معناه، ما يكفل له الخلود والانتشار؛ لأن الناس يعيشون كل يوم هذه المأساة ، وهي جناية الأنذال ، وحماقات الأشرار الذين يستحقون التبكيت والقصاص المر.
    ويحلق عالياً في المدح؛ ليصف ممدوحيه بالشجاعة، إلي درجة أنهم يرون الموت أمنية، والفناء مطلباً ، والبارود مسكاً زكياً في الأنوف، فيقول:
    كأنهم يردون الموت من ظمأ وينشـقون من البارود ريحانا
    وكأني بالممدوحين وقد ذابت نفوسهم فرحة، وامتلأت صدورهم بهجة وعمت وجوههم نضرة النعيم.
    ويغوص ـ حسبه الله ـ باقتدار وموهبة ذكية علي معني شرعي أدبي فيقول في ممدوحه:
    عليك منك إذا أخليت مرتقب لم تأت في السر ما لم تأت إعلانا
    فهو يصفه بحياة الضمير، وحضور المراقبة، والوضوح المشرق، والبعد عن النفاق والالتواء، وهذا من دقيق فهمه، ومن ثراء مخزونه الثقافي الجياش: لأننا سئمنا المديح المكرر المجوج، الذي توارد عليه الشعراء ، من أن ممدوحه يكرم الضيف، ويضرب بالسيف ، وينحر الناقة السمينة، ويقتل البطل الصنديد.
    وتعال إليه وهو ينوه بنفسه علي عادته في الإعجاب بها، والافتتان بجدارتها، يقول:
    وما كل من يهوى يعف إذا خلا عفافي ويرضي الحب والخيل تلتقي
    فهما تقوى في خلوة حيث لا رقيب إلا الله، ولا حارس إلا الضمير.
    وله فلسفة باهية، ونظرات جسورة، وتأمل دقيق، يقول في الحب:
    وأحلي الهوى ما شك في الوصل ربه وفي الهجر فهو الدهر يرجو ويتقى
    ومع جزالة المعنى حلاوة في اللفظ، ونضارة في القالب، حتى كأنك تمضغ حبات السكر، أو تعب ماء نميراً، أو تذوق عسلاً مصفى.
    وهو بارع في جل حكمه، وفي غالب مدائحه، وفي أكثر مذاهبه الشاعرية، واستمع إليه ليحدثنا عن قضية عاشها الناس جميعاً ولكنهم يغفلون عنها، يقول :
    إذا ما لبست الدهر مستمعاً به تخرقت والملبوس لم يتخرق
    فقف بقلبك أما هذه اللوحة الهائمة الحسناء، وأقرأ جملة لبست الدهر وكلمة تخرقت، ثم تأمل المعني وتدبر مفهوم الكلام؛ لترى عقل شاعر جبار، وأديب خطير، ويتحفنا ـ لا فض فوه ـ بفائدة علمية جليلة، لكنه لا يهديها لنا سامجة بل مزينة معطرة محلاة، فيقول في خشوع القلب:
    وإطراف طرف العين ليس بنافع إذا كان طرف القلب ليس بمطرق
    فالقلب طرف كما للعين طرف، وله إطراق كما إطراق العين، لكن إطراقه أسمي وأجل، فيا لها من صورة بديعة، ومن خيال خصب.
    وله في عالم التمثيل بروز وسبق يناسب تقدمه في فنه، يقول في جودة استماع ممدوحه إذا سئل العطاء:
    كأن كل سؤال في مسامعه قميص يوسف في أجفان يعقوب
    وكأني بك وقفت علي نصف البيت الأول تنتظر المشبه به، وتتحرى صورة بديعة من التمثيل تشبع الخيال، وتملأ العطفة، فيسعفك بهذا الوصف المشرق الوضيء السامق، المنتزع من القرآن الكريم، فيمتلئ الجو بهاءً وسناءً وإبداعاً.
    ويشيع ممدوحه بعدما ارتحل من هذه الحياة فيتوجه بقوله:
    كفل الثناء له برد حياته لما انطوى فكأنه منشور
    فما أبدع ما قال، وما أطرف ما نطق به، وانظر إلي قوله كفل الثناء له برد حياته، فهو لم يمت أصلاً فله من الحضور والذكر الجميل والثناء الحسن ما يجعله حياً بين محبيه، وانظر إلي قوله لما انطوي فكأنه منشور، فهو قماش يطوى وينشر ـ يطويه الموت، وينشره الثناء الحسن.
    ويصف ممدوحه بعلو الهمة والابتعاد عن الكسل والخمول فيقول:
    كثير سهاد العين من غير علة يؤرقه فيما يشرفه الفكر
    فطالع المديح الدقيق، والاحتزاز في قوله من غير عله، ليبعد عن ممدوحه سهاد المرض، كما قال عز وجل: (تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ )(طـه: الآية22). ثم اختياره لكلمة يؤرقه، فهي أجمل من ينبهه ويسهره في موضعها، ثم إن سهر ممدوحه ليس علي معصية أو سلوة أو لهو، بل هو تفكر فيما يرفع ذكره، ويبني مجده ، ويتلطف في بديع مدحه ويقول:
    فلا تبلغاه ما أقول فإنه شجاع متى يذكر له الطعن يشتق
    فارع سمعك لهذه الشفافية المرهفة، والروح المتألقة؛ لتري مدي قوة أسره، ومعرفته بأسرار التأثير.
    ويعتذر لنفسه في الحب، ويلتمس من اللائمين العذر له فيرسل لنا هذه الجوهرة:
    وما كنت ممن يدخل الحب قلبه ولكن من يبصر جفونك يعشق
    فهل سمعت أن شاعراً سبق هذا الإمبراطور إلي هذا الفتح المبين في عالم الشعر، وفي اقتناص درر القريض، والغوص علي جواهره، فحيا الله فصاحة بذكاء، وبياناً بفهم، وبلاغة بعبقرية.
    والمتنبئ سابق في نقل الصورة إلي المشاهد، ورسم المثال في الذهن، فهو أبرع في الرسم من ريشة رسام حذق متمرس، اسمع له يقول:
    ألذ من الصهباء بالماء ذكره وأحسن من يسر تلقاه معدم
    فمذهب التجديد يحمل لواءه هذا الشاعر المصقع؛ لننا بقينا قبله نعيش علي مديح مطرد تقليدي لا يغير ولا يبدل، يوصف فيه الممدوح بالليث والغي وأن كفه غمامة، وبيته منهل ماء، وناره من الكرم لا تنطفئ إلي آخر تلك القائمة المحفوظة عن ظهر قلب.
    وتعال إلي ورقة من دفتر اختراعه، وديوان إبداعه يقول فيها:
    أحقهم بالسيف من ضرب الطلي وبالأمن من هانت عليه الشدائد
    ومعناه أن أولى الناس بأن يتقلد السسف والولاية من ضرب رؤوس الأعداء بسيفه أي شجاعاً ، وأولام بأن يأمن جانب عدوه من هانت عليه شدائد الحياة ومصاعب العلياء وغمرات الحروب، إن بإمكان أي خطيب أن يمطرنا بهذا المعني في نثر بهيج، لكن أن يقدمه لنا في لوحة مائسة ووشي منمنم فهذا من مهمة أبي الطيب شاعر الدنيا.
    وهو يتحفك بتجربة رائدة عثر عليها في حياة المتاعب والعواصف يقول
    وما الخوف إلا ما تخوفه الفتى وما المن إلا ما رآه الفتى أمنا
    فليس الخوف هو ما أتت به الحوادث والنكبات، وإنما شعور المرء بالخوف أعظم من نفس الحدث كما قال أحدهم:
    لعمرك ما المكروه إلا انتظاره وأعظم مما حل ما يتوقع
    ودونك ـ رعاك الله ـ نفحه زكية من حديقة فكره المغدقة:
    وللحساد عذر أن يشحوا علي نظري إليه وأن يذوبوا
    فإني قد وصلت إلي مكان ليه تحسد الحدق القلوب
    فالرجل لا يفارقه جمال العبارة، وخصوبة الخيال، وروعة التعبير، فبديهته حاضرة ، وقلبه شهيد، وريشته تقطر إبداعاً وفتنة. وما سمعنا بشاعر اعتذر لحساده وسامحهم إلا هو، وليس كرماً منه لهم، وإنما نكاية بهم، ورفعة للمدوح بحيلة ذكية.
    وقف قليلاً معه وهو يتحدث مع الزمان، يقول:
    أتي الزمان بنوه في شبيبته فسرهم وأتيناه علي الهرم
    فهو يري أنه متأخر رتبة ، ولو أنه متقدم لفظاً؛ لن الزمان الذي عاش فيه زمان لا يقدر العظماء، ولا يحتفل بالنوابغ، ولا يكرم الأفذاذ، ويقول أيضاً:
    أريد من زمني ذا أن يبلغني ما ليس يبلغه من نفسه الزمن
    فلا زمانه يساعده، ولا أصدقاؤه يعضدونه ، ولا حساد يتركونه، ولا الملوك يحتفلون به، ولكن عزاؤه هذا الشعر السائر الخالد، الذي يبقي عبقة في أنوف الجهابذة، ودوي صوته في آذان الأجيال، فهو أعظم شاهد علي جدارة هذا النابغة، وسطوعه ولموعه، كما قال:
    وتركك في الدنيا دوياً كأنما تداول سمع المرء أنملة العشر
    المتنبئ وجنون العظمة
    المتنبئ شاعر هائج مائج، هدار موار، كالبرهان يرمى بالحمم ، مارد كالريح القاصف العاصف، فهو لا يؤمن بالمهادنة والتروي والانتظار، فهو إما متوجع متفجع، وإما شاك باك، وإما غاضب ناقم، وإما مظلوم مهضوم، وإما ساطع لامع، غير أنه ليس ساكناً كامناً، بل هو في الحقيقة مالئ الدنيا،وشاغل الناس، وبسبب هذه المعاندة والإباء والمشاكسة طار ذكره، وشع بيانه، وساح في الناس أدبه.
    إن الذين يريدون التأثير في الأجيال ، ثم لا ينفضون من حولهم بنتاجهم وعلمهم وأدبهم وخطبم، إنما هم أموات غير أحياء، وما يشعرون إيان يبعثون.
    إن أهل الدعة والخمول نسخ مكررة، يراها الناس ملء الشوارع والأسواق، ولكن العباقرة أندر من الكبريت الأحمر، فهم يشاركون الناس في الصورة الظاهرة ، ويفوقونهم في المواهب والصفات، كما قال المتنبئ نفسه:
    وإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال
    طغى به بيانه وحدثته نفسه بأنه فريد العالم، ووحيد الدهر، ورجل الدنيا، فترجم شعراً، يقول:
    أي محل أرتقـــــي أي عظيم أتقــــــي
    وكل ما قد خلق اللـــ ــه وما لم يخلق
    محتقر في هـمتــي كشعرة في مفرقــــي
    نستغفر الله ونتوب إليه من هذا الغلو الفاحش، والطغيان الجارف، وكما سلف معنا فقد نظر العمى إلي أدبه وسمع الصم كلماته:
    أنا الذي نظر الأعمى إلي أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم
    وهاهو يصف نفسه بأعجوبة الزمان ونادرة الكون:
    إلي لعمري قصد كل عجيبة كأني عجيب في عيون العجائب
    بأي بلاد لم أجر ذؤابتــي وأي مكان لم تطأه ركائبـــي
    وهو عند نفسه وحيد في بابه، لم ينسج علي منواله أحد ، ولن يتكرر وجوده في الناس، وشعره حديث البشر وقضية القضايا:
    أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم
    فالناس مشغولون بشعره، منهمكون في عظمته، مستغرقون في دراسة أدبه، هكذا يتصور ويفكر ويقدر، بل ينصحك أن لا تسمع إلا له، ولا تنظر في شعر سواهن فإن غيره إذا تكلم فسد الكلام ومج الحديث ورخص القول:
    ولا تبال بشعر بعد شاعره قد أفسد القول حتى أحمد الصمم
    ويري أن الشعراء قد عجزوا عن مجاراته، وأفلسوا في السباق معه، ويقول:
    إذا شاء أن يلهو بلحية أحمق أراه غباري ثم قال له الحق
    أي أن سيف الدولة إذا أراد أن يضحك لشاعر ويسخر منه، أراه غبار المتنبئ السابق المتفرد، ثم قال لهذا الأحمق: أدرك ذاك الجواد المضمر وهيهات ، ثم يقول:
    وما كمد الحساد شيء قصدته ولكنه من يزحم البحر يغرق
    فقد غرق الحساد في بحر عظمته، وهو لم يرد ذلك أصلاً، ولكنهم هم الذين تعرضوا له.
    وله في مدح نفسه كلمات سائرة، مرة يثني علي نفسه الجليلة عنده، العزيزة لديه، ومرة يبارك شعره ويتبجح به، وأخري يصب جام غضبه علي أعدائه ويتعجب من جهلهم به وبمقداره ، وعدم اعترافهم بنبوغه وتفوقه. واسمع له يترنح في غمرة عجبه، ويسكر بكأس تبجحح، ويسبح في خيال وهمه الذي أوحي إليه من زخرف القول غروراً جامحاً ، وتيهاً جارفاً ، يقول:
    أطاعن خيلاً من فوارسها الدهر وحيداً وما قولي كذا ومعي الصبر
    واشجع مني كل يوم سلامتي وما ثبتت إلا وفي نفسها أمر
    تمرست بالآفات حتى تركتها تقول أمات الموت أم ذعر الذعر
    وأقدمت إقدام الأتي كأن لي سوى مهجتي أو كان لي عندها وتر
    وكلما أردنا أن نغضب منه لهذا الجموح الطاغي، والتعالي المرفوض، أرضانا بهذا القول الخلاب، والسحر الجذاب، والمنطق السالب للعقول، فسكتنا عاتبين.
    عن العباقرة يجدون تحدياً سافراً من الأغبياء، وظلما ظاهراً من البلداء فتثور ثائرتهم ، وتغلي مراجلهم، وتضطرب جوانحهم، ومنهم هذا الشاعر الذي فتح جبهات مع خصومه، ودخل معارك ضاربة مع حساده، وأصبحت حربه معهم حرب بقاء أو إبادة، حياة أو موت، وجود أم عدم. ليس عند المتنبئ تواضع الصالحين ،ولا إخبات الأولياء، ولا ورع العلماء؛ لأنه طالب شهرة قانص مجد، باحث عن إمارة، ساع يلهث وراء الجاه والصدارة )َ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ)(آل عمران: الآية152).
    ألا بلغ الله الحمى من يريده وبلغ أطراف الحمى من يريدها
    المتنبئ والنجومية
    خاص المتنبئ حرب النجوم في عالم البيان، ورفض الاستسلام لخصومه وأوصى محبيه أن لا يرضوا بغير النجومية:
    إذا غامرت في شرف مروم فلا تقنع بما دون النجوم
    فهو حاذق في معرفة طرق الصدارة، متعب نفسه وغيره في مباراة التحدي وإثبات الذات:
    وإذا كانت النفوس كبـــاراً تعبت في مرادها الأجســام
    ولا يرضيه الرضي بالأقل، والقناعه ببعض المجد ، بل لابد من المجد كله، والكمال أجمعه:
    ولم أر في عيوب الناس شيئاً كنقص القادرين علي التمام
    وهو يفور غضباً ، ويثور بركاناً علي من يريد تحطيمه، والتقليل من شأنهن حتى غنه مر ببعض حساده في الطريق، فألقي عليهم هذه القذيفة:
    لو استطعت ركبت الناس كلهم إلي سعيد بن عبد الله بعرانا
    والويل كل الويل لمن أراد الانتقاص من هذا الأعجوبة ، إنه سوف يبوء بإثمه، ويحسو كأنه ندمه، ولو كان ملكاً مطاعاً، فهو يجر كافور ملك مصر من علي كرسيه بهذه القذيفة:
    لا تشتر العبد إلا والعصا معه إن العبيد لأنجاس مناكيد
    وفي سبيل تحقيق نجوميته فكل شاعر سواه، فإنما هو شويعر حقير صغير، وهو وحده الخطير الشهير الكبير:
    أفي كل يوم تحت ضبني شويعر ضعيف يقاومني قصير يطاول
    فالكريم الذي لا يحتفل بالمتنبئ ، ولا يكرم مثواه ويحسن وفادته، لئيم خسيس:
    جود الرجال من الأيدي وجودهم من اللسان فلا كانوا ولا الجود
    والذي لا يستمع إليه غر بليد، يقول في أحد هؤلاء الأغبياء:
    صغرت عن المديح فقلت أهجي كأنك ما صغرت عن الهجاء
    وهو عند نفسه نادر المثال، لا يتكرر سبيه له، وهو غريب كما يرى في نبوغه وفصاحته:
    أنا في أمة تداركها اللـــــت ــــه غريب كصالح في ثمود
    وهو معدن آخر كما يري، له طينة أخري، فهو كما يعتقد م متفرد متميز:
    وحيد من الخلان في كل بلدة إذا عظم المطلوب قل المساعد
    وكأني به يرى سواه أقل منه رتبة، وأقصر قامة، واصغر قدراً:
    وربما اشهد الطعام معـــي من لا يساوي الخبز الذي أكله
    ولا ينسي أن يذكر أصحابه بأنه نجم:
    وإني لنجم تهتدي صحبتي به إذا حال من دون النجوم سحاب
    ويبشرك أن نفسه وثابة شابة، وبشاشة جياشة:
    وفي الجسم نفس لا تشيب بشيبه ولو أن ما في الوجه منه حراب
    فهو شاب الهمة، فتي العزيمة، متوقد القلب، لا يكل ولا يمل، حتى يبلغ مناه من النجومية، والتحليق عالياً في سماء النجاح، فلديه من الطموح غلي نيل مطالبه، وإدراك مقاصده، ما اتعب جسمه ، وأنهك روحه، وعرضه للمخاطرة وحمله علي ركوب المهالك، وصح فيه قوله من قصيدة له عامرة:
    وأتعب خلق الله من زاد همـــه وقصر عما تشتهي النفس وجده
    وفي الناس من يرضى بميسور عيشه ومركوبه رجلاه والثوب جلده
    ولكن قلباً بين جنبي ما لــــه مدى ينتهي بي في مراد أحده
    يري جسمه يكسى شفوقاً تربه فيختار أن يكسى دروعاً تهده
    رحلة ممتعة في زورق الإبداع
    لابد لعشاق البيان، وهواه جمال الكلمة ونصاعة القول ، من ذائقة فنية وحاسه سادسه للتمتع بطعم التأثير المشرق لسحر الكلام، وإلا فلا فائدة من عرض تحف البيان علي عمي البصائر، وإبراز مخدرات الحسن علي كل أكمه وأعشي، وما أعجبنا في المتنبئ غلوه في مدح نفسه. ولا ثناؤه علي إنجازاته الخيالية، إنما أعجبنا هذا الوهج الفني، والبريق الذي كاد يذهب بالأبصار ، ثم سماء عبقريته، فهو بلا شك صاحب قدح معلي في صياغة الكلمة، ونسج الجملة، حتى يلتفت لها القلب ، ونحن معذورون في إعجابنا بشعره فقد سبقنا أساطين البيان، ودهانقة الفصاحة، وأساتذة البديع،وكلهم معترفون بفصاحة هذا الشاعر ، وتألقه وانفراده ، فيها أخي اركب معنا في زورق الإبداع وربانه أبو الطيب المتنبئ الذي يقول:
    أنا السابق الهادي إلي ما أقوله وعين قد أصابتها العيون
    وسوف نسوق جملاً ندية بسحرهن مخضلة بطلاوته، عبقة بمسك فنه؛ لتكون كالشاهد علي غيرها، والدليل علي سواها، وكفاك غرة الفرس، وثغرة المحب، ونون العين:
    له عين أصابت كل عين وعين قد أصــابتها العيون
    وسوف نقتصر علي نون العين من نتاج هذا الشاعر الثائر الطموح والباقعة المتألق:
    قالوا خذ العين من كل فقلت لهم في العين فضل ولكن ناظر العين
    والآن هاك هذه الفرائد
    وخير جليس في الأنام الكتاب
    يقول أبو الطيب :
    أعز مكان في الدنى سرج سابح وخير جليس في الأنام كتاب
    فأنظر كم اهتدى إلي معني ثمين رائد، ثم أخذه فغسله وكواه، ووضعه وطبعه، وفصله بلفظ ساطع ، وتركيب متناسق خلاب، فهل سبقه شاعر إلي اختراع هذا المعني ؟! إنه يقول لك: إن اشرف موضع يقعد فيه كل ماجد نبيل هو ظهر الفرس، حتى يقاتل العدو، ويحمي الحوزة، ويذود عن العرض، ويدافع عن الكرامة، ويبني المجد، وإن أفضل المجالس لحق الجليس، وإمداداً للعقل، ولكن أعد النظر في رصفه للكلمات الحرة الراقية، وبنائه للبيت بلا نشاز ولا التواء، إن من الشعراء من قد يجود بهذا المعني؛ لكنه يضعه في قالب فج بكثرة حروف الجر والضمائر ، والتقدير، والتأخير ، والإسفاف ، والحشو.
    ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
    يقول:
    ذو العقل يشفى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
    لله دره، هكذا فلتكن الذاكرة الحية، والذهن الخصب الممرع، والتجربة الراشدة، إن العاقل الأريب لا يقر قراره لعطشه، ومعرفته بتغير الأيام، ودوران الليالي، ومفأجاة الحوادث، وهجوم المزعجات، أما الغبي الحافي ، فهو كالبهيمة لا يري إلا موطن قدميه، فهو في شقاوته يتنعم لجهله بالعواقب النبي صلي الله عليه وسلم وقلة خبرته بالنوائب، وانطماس بصيرته عن مشاهدة سنة الحياة؛ من العسر لليسر، والغني والفقر، والسرور والحزن )أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) (الفرقان:44) .
    يقول شكسبير: (( الذكي يعيش من جنته في جحيم، والغبي يعيش من جحيمه في جنة)) ولكن تبقي الريادة للمتنبئ والسبق.
    مصائب قوم عند قوم فوائد
    يقول:
    بذا قضت الأيام ما بين أهلها مصائب قوم عند قوم فوائد
    فتطير هذه الحكمة في الآفاق، وتجري علي الألسنة، وتكون حاضرة علي شفاه الخطباء والحكماء، وتشاهد علي البيت توقيع المتنبئ الخاص الذي يميزه عن غيره، وانظر إلي جملة بذا قضت الأيام ما بين أهلها، فإذا هي عبارة مستقيمة صحيحة لا عوج فيها ولا أمتاً ، ثم أنظر إليه وهو يستفز ذهنك لتترقب الحكمة القادمة فيبادرك بها: مصائب قوم عند قوم فوائد، فتكون هذه الحكمة ناطقة بعمق الرجل، وذكائه وسعة تجربته، وهو الاستفادة من نكبات الغير، وأخذ العبرة من ذلك ، وهو منطق القرآن ) فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ)(الحشر: الآية2).
    والمتنبئ قدير في جلب الحكمة الصادقة، وفي سبك اللفظ الجميل، فليس شعره من شعراء الأعراب الساذج الباهت، وليس من شعر حفظة المتون العلمية المقننة المتكلف ، بل هو سائغ للشاربين، يسر الناظرين.
    ولا التذكير فخر للهلال
    يوم رثي والده سيف الدولة قال:
    ولو كان النســـاء كمن فقدنا لفضلت النســـاء علي الرجال
    فما التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخـــر للهـــلال
    فأنت تشاهد انسياباً لذيذاً لا يعكره حشو في اللفظ، ولا يكدره غرابة في اللغة، ولا يشوهه تبذل سوقي، بل تشاهد الفخامة، فهو يمهد لك بالبيت الأول حتى إذا تهيأت لسماع النظرية، واستقبال الدليل باشرك بالبيت الثاني في رقة وعذوبة، فكأنك تمضغ سكراً ، أو تمص عنباً، خلاف ما تشاهده في كثير من الشعر الإنشادي الإنشائي أو التقريري الإخباري، أو الغريب الوحشي، ولهذا بز المتنبئ للشعراء في هذا الباب.
    ذكر الفتى عمره الثاني
    يقول:
    ذكر الفتى عمره الثاني وحاجته ما قاته وفضول العيش أشغال
    فهذا ثلاثة مقاطع من الحكمة النادرة، والوعى الراشد، والتجارب المماثلة وما هذا الرجل إلا فيلسوف متأمل ، يستولي علي مكان الإعجاب فيك، وانظر إلي إيجازه وفصاحته في قوله: ذكر الفتي عمره الثاني، انتهي المقطع ليكون قطعة ماس، أو حبة لؤلؤ مائسة ، تقلبها في يدك فتزداد شرفاً وبريقاً، ولك أن تحدث العقلاء في مسألة الذكر الحسن فتقول: ذكر الفتي عمره الثاني، فتقنع الجميع بجلالة هذا الأمر والترغيب فيه، ثم تقول : وحاجته ما قاته، فتطبع درساً في القلوب، درساً لا ينسى في علم القناعة، بأقل لفظ، وأخف قولن واصدق عبارة، ثم تقول: وفضول العيش أشغال، فتزهد الناس في التكاثر ، والانهماك في الجمع والتكالب علي الدنيا، فإذا عبارة وفضول العيش أشغال كتاج مرصع علي هامة كريمة، أو خاتم علي رسالة، أو عنوان علي كتاب، وانظر إلي قدرته في طي مسافات المعنى في اقتصاد من القول، وأبهة من البلاغة.
    إن الثناء علي التنبال تنبال
    يقول:
    وقد أطال ثنائي طول لابسه إن الثناء علي التنبال تنبال
    ومعنى كلامه أنني قد أطلت الثناء علي هذا الممدوح لكثرة مناقبة، وجلالة قدره، وغزارة خصاله؛ فلذلك وجدت مجالاً للكلام، بخلاف التنبال الذي هو القصير القزم التافة، فإنالثناء عليه قصير وشحيح؛ لأنه لا مجال للإسهاب في وصفه ومدحه، وقد أراد في هذا البيت أن يعتذر من الإطالة ، فأتي بأحسن المدح في ممدوحه ، ثم ختم البيت بقضية عادلة، وكلمة سائرة، وهي أنه بحسب الممدوح كرماً ولؤماً، يكون المدح طولاً وقصراً، كما أن الثياب تفصل علي طول الناس وقصرهم، فكذلك الثناء ، وهذا من دقيق نظره، وجدارته من اقتناص المعاني.
    إذا أنت أكرمت الكريم ملكته
    يقولك
    إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
    معناه: أن الكريم تملك وده ووفاءه بالإحسان إليه؛ فيكون لك موالياً مصافياً حافظاً لجميلك، ذاكراً لإحسانك ، بخلاف اللئيم، فلا يزيده الإحسان إلا تمرداً وتنكراً؛ لخبث طبيعته، وسوء سيرته، ولؤم خلقه، وغالب الناس يعرفون هذا المعني ، لكن تقديمه لهم في عبارة شاردة، وحكمة فائقة، مطلب يهش له العقلاء، ويتوق له الأدباء، وقد قلنا لك: إن المتنبئ لا يعاضل بين الكلام، ولا يثقل البيت بالضمائر ، وحروف الجر، والتقديم والتأخير ، كما يفعله صفاف الشعراء ، الذين يثقلون السامع بحشو الكلام، وزائد القول. وكم سمعنا من عامة الناس من يردد هذا البيت فضلاً عن طلبة العلم، وما ذاك غلا لاستيلاء هذا الشاعر علي عرش الشهرة، وامتلاكه ساحة الأدب، وامتيازه بالأسر والتأثير .
    غرقت فيه خواطره
    يقول في ممدوحه:
    إذا تغلغل فكر المرء في طرف من مجده غرقت فيه خواطره
    فهو هنا يترقى بك عن مدح الأعراب المكشوف إلي مدح دقيق، ومعنى عميق، يدل علي علو كعبه في سعة الاطلاع، ورحابة المعرفة مع جودة الخاطر يقول هنا: إن هذا الممدوح إذا غاص فكر الإنسان في جزء واحد من مجده الواسع، مواهبه الجمة؛ استغرقت هذه الصفات كل خواطر هذا الإنسان واستولت علي ذهنه وحيرته، فكيف بباقي صفاته وسائر خصاله، وهو ثناء نادر وقوعه في المدائح لدقته وغرابته، ولكنه لذيذ تعشقه النفوس لأنه فريد متوهج.
    الرجل يتقطع أسفاً ويعلن التمرد علي حياته
    تمن يلذ المســتهام بذكــره وإن كان لا يغني فتيلاً ولا يجدي
    وغيظ علي الأيام كالنار في الحشا ولكنه غيظ الأسير علي القد
    هكذا يغلي غصباً ، ويصرخ نادماً ، لكنه لا حيله له، بل هو مثل الأسير في قيده، لا ينفعه غصبه من هذا القيد، وهو مشحون بالسخط من بني زمانه؛ لأنهم أنانيون وطماعون ليس معهم حل إلا السيف، حتى يحكم الله بينه وبينهم وهو خير الحاكمين:
    من الحلم أن تستعمل الجهل دونه إذا اتسعت في الحلم طرق المظالم
    وأن ترد الماء الذي شطره دم فتسقي إذا لم يسق من لم يزاحم
    ومن عرف الأيام معرفتي بها وبالناس روى رمحه غير راحم
    فليس بمرحوم إذا ظفروا به ولا في الردى الجاري عليهم بآثم
    هذا رأيه الصريح في بني جنسه وفي زمانه، إن الرجل ملتاع ملدوغ من حساده، منكوب من الأعداء، مضطهد من الملوك، ولكن كان لهذه النوائب نفعاً من إذكاء قلبه، واشتعال ضميره بهذا العطاء الجزل من البيان الجليل، والأدب النبيل، ولو أن المتنبئ سلم من هذه النكبات، لكان شعره مثلجاً كشعر المئات من الشعراء الباردين الثقلاء، الذين أغلوا علينا الأوراق والحبر، وخدعوا القارئ البسيط بحسن طباعه دواوينهم ليجد فيها غثاء من رخيص القول، وزبداً من تافه الحديث.
    يتبــــــــــــــــــــــ ـع

  3. #3
    الصورة الرمزية عبدالملك الخديدي شاعر
    تاريخ التسجيل : Feb 2006
    الدولة : السعودية
    المشاركات : 3,954
    المواضيع : 158
    الردود : 3954
    المعدل اليومي : 0.60

    افتراضي

    لكن أبا الطيب أنضجته المعاناة، فصارت تسيل علي شفته قواف سائرة، تدعوك إلي العيش في ظلالها، وتأمل جمالها والتمتع بخمائلها، ونحن نعلم أن سبب هذا الهيجان العاطفين والثوران النفسي، إنما هو لعدم نيله مطالبه الدنيوية الرخيصة، من منصب وصدارة وإمارة، فهو مغرم بهذه المقاصد، متيم بهذه الهوايات، ويحسبها أجل ما يناله المرء؛ لأن الرجل شاعر، وليس لديه من علم الوحي، وفقه الديانة، ونرو الملة، ما يعصمه عن هذا المذهب، ويدله علي ما هو أنفع وأرفع، وهو رضوان الله عز وجل )مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ )(النحل: الآية96).
    حلاوة وطلاوة علت قوافيه الماتعة
    إن كان ملك القلوب فإنـــه ملك الزمان بأرضه وسمائه
    الشمس من حساده والنصر من قرنائه والسيف من أسمائه
    أين الثلاثة من ثلاث خلاله ومن حسنه وإبائه ومضائه
    مضت الدهور وما أتين بمثله ولقد أتي فعجزت عن نظرائه
    يا لطيف! ما هذا الكلام الشريف، ارجع البصر كرتين إلي هذه الأبهة اللفظية كقوله: ملك القلوب ، وما فيها من قوة واسر ونفث سحر، وهذا ليس معروفاً عند شعراء الصحراء، وضعاف الأدباء، فإن ملوك القلب أعظم من ملك الأبدان، ثم جعل هذا الملك مسلماً للمدوح ، وإنما أثبت له ملك الزمان بأرضه وسمائه، ثم طالع تشبيهه للمدوح بالشمس في الحسن،والنصر في الإباء، والسيف في المضاء، ولكن في تقسيم شاعري رائع، يناديك من أطراف قلبك إلي التيقظ، والتمتع بمسارح الجمال، ومرابع الخيال، في قالب فني كله رواء وطلاء، يذوب رقة، ويندى رشاقة، ويسكب لطفاً، وهذا سر أهمله كثير من الشعراء؛ لأنهم يأتون إلي معني مكشوف بلفظ سادج، ليس عليه حلة من الإبداع ، كقوله جرير في ممدوحه:
    تعود صالح الأخلاق إني رأيت المرء يلزم ما استعادا
    والحمد لله علي السلامة، فما زادنا جرير علي أن وزن لنا كلاماً لو تركه بلا وزن كان أسهل ، أو كقوله:
    أقلي اللوم عاذل والعتابا وقولي إن أصبت لقد أصابا
    فانظر إلي هذا التقرير البارد والشعر الإخباري الثقيل.
    وهذا ابن دريد يقول لنا في مطلع مقصورته:
    يا ظبية أشبه شيء بالمها ترعى الخزامى بين أشجار النقا
    فقد أفادنا أن الظبية مثل المها ـ ما شاء الله ! ـ وأنها ـ والحمد لله ـ ترعي الخزامى بين أشجار النقا، هذا كل ما في البيت، فلا تتعب نفسك في الغوص علي معانيه، وإخراج جواهره، فليس فيه إلا ما ذكرت.
    وهذا الرازي يقول:
    نهاية إقدام العقول عقال وغاية سعي العالمين ضلال
    فأنت أما كلام منطقي قانوني مدون، ليس له حلاوة، ولا طلاوة، ومعناه يفهمه الحاضر والباد.
    وأين هذا من قول المتنبئ :
    وأنا الذي اجتلب المنية طرفه فمن المطالب والقتيل القاتل؟!
    فما أبدع ما قال! وما أمتع ما نطق به! فهنا يحق للذهن أن يتأمل النبي صلي الله عليه وسلم وللروح أن تنتشي، فهو يقول لك:
    أنا المتسبب بنظري إلي الجمال حيث جنى طرفي علي، وأوردني حياض الموت، فلن أطالب أحداً بديتي، ولو كنت قتيلاً، فأنا القاتل في الحقيقة؛ لأنني نظرت بطرفي فقتلت.
    وأين أقوالهم من قوله:
    قد كنت أشفق من دمعى علي بصري فاليوم كل عزيز بعدكم هانا
    فشكراً لهذا الإبداع والتألق الفني، واللهيب والجذب، وكأنها أمثال في الذيوع والانتشار، وضع يدك علي قلبك واقرأ معي قول أبي الطيب:
    وما شرفي بالماء إلا تذكـراً لماء به أهل الحبيب نزول
    يقول: أنني إذا غصصت بالماء وأنا اشربه علي المائدة، فسبب تذكري ماء نزل به أهل الحبيب ، فلما ذكرت ذلك شرقت بهذا الماء، واختفت من شدة الأسى واللوعة. وقد أكرر هذا البيت كثيراً فأغالب دمعي، واعصر غصصاً كامنة في نفسي.
    شاعر يرسم بريشته الأحداث
    يقول في سيف الدولة بعدما عوفي من مرضه:
    المجد عوفي إذا عوفيت والكرم وزال عنك إلي أعدائك الألم
    إلي أن يقول:
    وما أخضك في برء بتهنئة إذا سلمت فكل الناس قد سلموا
    وكأني بهذا المريض المعافي يترنح طرباً، ويطير شوقاً من هذه التهنئة الحافلة ، والأنشودة الراقية، التي انهمرت علي الممدوح كغمامة هلت ماءها في صيف متوقد.
    فهو يخبره أن المجد مرض بمرضه، وعوفي بعافيته، وكذلك الكرم، ثم يدعو الله أن ينقل ألم الممدوح إلي أعدائه، ثم يهنئ الناس كلهم بعافية هذا الماجد الشهم النبيل.وأرعه سمعك وهو يقول لسيف الدولة:
    هو البحر غص فيه إذا كان ساكناً علي الدر وأحذره إذا كان مزبدا
    فإني رأيت البحر يعثر بالفتــي وهذا الذي يأتي الفتي متعمـدا
    تظل ملوك الأرض خاشعة لــه تفارقه هلكي وتلقاه سجـــدا
    هذا مدح تنصت له أذن الدهر، وتهش له الجبال حفاوة واحتفالاً، ولن اشرحه هنا لأنه قريب منك؛ لكن في إباء سهل، لكن في امتناع مفهوم، لكن في عمق.
    تحليق في سماء الإبداع
    من الشعراء من يمشي علي بطنه، ومنهم من يمشى علي رجلين،ومنهم من يمشى علي أربع ، ومنهم من يطير كالمتنبئ، لكن بارتفاع سبعة وثلاثين قدماً عن سطح البحر، فهو دائماً محلق، وإن اقترب أحياناً من الأرض، كما يقول هو عن العلو:
    ذي المعالي فليعلون من تعالي فكذا هكذا وإلا فلا لا
    شرف ينطح النجوم بروقيــ ـه وعز يقلقل الأجيالا
    فالرجل صاعد بموهبته، ولا يريد أن تقارنه بغيره من الشعراء:
    أجزني إذا أنشدت شعراً فإنما بشعري أتاك المادحون مرددا
    ودع كل صوت غير صوتي فإنني أنا الطائر المحكي والآخر الصدى
    فهو يطلب منك أن تفرده بالاستماع والإعجاب وحده؛ لأنه محلق وسواه ماش.
    والآن يريد أن يخبرك بصعوبة المجد، وثمن التضحية، ومهر المعالي، فيقول:
    تريدين لقيان المعالي رخيصة ولابد دون الشهد من إبر النحل
    فتصف البيت مقدمة خطابيه، والنصف الآخر دليل وبرهان، ولكن يسمو في أمثاله، فهو يستعمل التشبيه المعروف، ولكنه الراقي الذائغ، وأراد أبو فراس الحمداني نفس المعاني فقال:
    تهون علينا في المعالي نفوسنا ومن طلب الحسناء لم يغله المهر
    وأنا أري أن بيت المتنبئ أجمل وأكمل ، وأما بين أبي فراس فهو علي شهرته به جدري في وجهه؛ لأنه قال لم يغله المهر أي أراد لم يغل عليه المهر، فلا يرقى إلي سمو شاعرية المتنبئ وتدفق ذاكرته الخلابة الخصبة .
    ويقول في باب آخر:
    وما صبابة مشتاق علي أمل من اللقاء كمشتاق بلا أمل
    فهو يخترع معني بديعاً في الحب، ويوجد فارقاً معقولاً بين الشوق مع أمل اللقاء والشوق بغير أمل، فبيته أسمى وأرقى من قول الشاعر:
    أحدث نفسي باللقاء وقربه وأوهمها لكنها تتوهم
    فإن البيت الأخير علي جمال فيه سادج مكشوف، وأحسن منه قول الشاعر:
    أحدث النفس بالآمال أرقبها ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
    وأحسن من هذا وأجمل قول الشاعر:
    منى إن تكن حقاً تكن أحسن المنى وإلا فقد عشنا بها زمناً رغدا
    ولكن جرس المتنبئ وموسيقاه لها طعم آخر، ومذاق يختلف عن كل مذاق.
    حتى إنك إذا سمعت قوله:
    وأنا الذي اجتلب المنية طرفه فمن المطالب والقتيل القاتل؟!
    فإنه يطريك ويعجبك لأنه يغوص علي المعني، ثم يوشيه لفظاً أجمل من زهر الرياض، ثم يختار المفرد فيأسر قلبك، وأنت إذا أمعنت النظر في بيته المتقدم، لا تدرك المعنى من أول وهلة، حتى تتأمل وتمعن النظر، وتعيد البصر كرتين، لأن المعنى المتبذل المكشوف رخيص، كالبضاعة المعروضة بعرض الطريق، من خشب وحجارة، بخلاف الذهب والماس، فإنه يوضع خلف الأبواب عليه الأقفال لارتفاع ثمنه.
    وقد طرق الأرجاني معني المتنبئ :
    أعيني كفا عن فؤادي فإنه من البغي سعي اثنين في قتل واحد
    وبيت المتنبئ أرق وأمتع ؛ لأن بيت الأرجاني فيه محاكمة قضائية وخصومة .
    وقال آخر:
    عوقب وجنى ناظري وربما عوقب من لا جنى
    وهذا بيت رث غث ليس له إشراق وروعة كبيت أبي الطيب. وفي الغالب لا تقارن أبا الطيب بشاعر آخر إلا وجدت له تفوقاً وارتفاعاً، اسمعه يقول في وصف شجاعة ممدوحه:
    تعود أن لا تقضم الحب خيله إذا الهمام لم ترفع جنوب العلائق
    ولا ترد الغدران إلا وماؤها من الدم كالريحان فوق الشقائق
    فما أجمل الوصف، وما أجمل المدح، وقارنه بقول ابن عنينك
    وتعاف خيلهم الورد بمنهل ما لم يكن بدم الوقائع أحمرا
    فإنك تجد المتنبئ أرقى صورة، وأشد تاثيراً ، واسمع إليه في هذه الثلاثة الهائمة الساحرة:
    إن كوتبوا أو لقوا أو حوربوا وجدوا في الخط واللفظ والهيجاء فرسانا
    كأن ألسنهم في النطق قد جعلت على رماحهم في الطعن خرصانا
    كأنهم يردون الموت من ظمأ أو ينشقون من الخطي ريحانا
    واسمه غيره يقول:
    كأن الهام في الهيجا عيون وقد طبقت سيوفك من رقاد
    وقد صغت الأسنة من هموم فما يخطرن إلا في فــؤاد
    وقال حساده إنه سرق المعاني من منصور النميري إذ يقول:
    وإن موقعه بجمجمة الفتي حذر المنية أو نعاس الهاجع
    وقول المهلهل:
    الطاعن الطعنة النجلاء تحسبها نوماً أناخ بجفن العين يغفيها
    وقول ابن المعتز:
    أين الرماح التي غذيتها مهجا مذ مت ما وردت قلباً ولا كبدا
    وقول أبي تمام:
    كأنه كان ترب الحب مذ زمن فليس يعجزه قلب ولا كبد
    وليس عليهما جميعاً ما يقال له طيب، غير أبي الطيب، وأين فضل الطل من الوابل الصيب، فشاعرنا متفرد متوحد متميز.
    مداخلات مع المتنبئ
    في شارع رئيس من شوارع الرياض، مكتوب في لوحة إعلانية بارزة(( وخير جليس في سهرة رمضان الإم بي سي!!)) ، وقصدهم إلغاء بيت المتنبئ الشهير : (( وخير جليس في الأنام كتاب)) وما اخذوا هذه العبارة إلا لشهرتها، ومعرفة الناس بها، وجاذبيتها، ويكفي المتنبئ شيوعاً أن أبياته صارت تحرف لمصالح دعائية وتجارية، وهذا هو الشرود الأدبي ، والشيوع الثقافي الذي فرض حضوره علي الناس.
    بإمكانك أن تجعل من أشعاره جواباً لحوارتك مع محدثك؛ إن كنت فظناً ذا بديهة حية وذاكرة حاضرة.
    فإن لامك علي حب فقل : (( لا تعذل المشتاق))، وإن سأل عن حالك فقل: ((واحر قلباه)) وإن شكى إليك تعب المعالي فقل : (( لولا المشقة))، وإذا شكى إليك الدنيا فقل : (( لحى الله ذي الدنيا))، وإن مدح لك رجلاً موصوفاً بالفضل فقل: ((وإن تفق الأنام))، وإن ذكر لك لؤم أحد الأنذال فقل: (( وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا)). وإن أخبرك بمجاملاته لأعدائه فأنشده : (( ومن نكد الدنيا علي الحر))، وإن قال لك لقد تعبت في سفرك إلينا فقل له : (( جزى الله المسير إليك خيراً))، وإن شكى إليك الحساد فقل: (( إني وإن لمت حاسدي فما أنكر أني عقوبة لهم وأن أخبرك ببعض المشكلات التي تواجهه فأنشده : (( إذا اعتاد الفتى خوض المنايا فأهون ما يمر به الوحول))، وإن مدح لك امرأة بالدين والعقل والعلم فقل: (( ولو كان النساء كمن فقدنا لفضلت النساء علي الرجال)).
    لغة البكاء عند المتنبئ
    لهذا الشاعر الأعجوبة رحلة طويلة مع البكاء، فهو مصاب في والديه؛ إذ عاش يتيماً، مصاب في وطنه؛ فهو مشرد منفي، ومصاب في مقاصده؛ فلم يتم له ما يطمح إليه من إمارة باذخة ومنصب عال. ثم إن فراق الأحبة مزق قلبه حتى قال:
    لولا مفارقة الأحباب ما وجدت لها المنايا إلي أرواحنا سبلا
    ويصبح باكياً من وحشة فراق أحبابه:
    سهرت بعد رحيلي وحشة لكم ثم استمر مريري وارعوي الوسن
    والرجل ملذوع بهذا النوى والشتات الذي أبعده عن أحبابه، وأقصاه عن أصحابه:
    فراق ومن فارقت غير مذمم وأم ومن يممت خير ميمم
    لكن المتنبئ علي رغم ظهور نفسه الجسورة، وروحه الطموحة في شعره، يمتلك نفساً رقيقة، عنده دموع غزيرة حارة، يدخرها للنكبات ليسفكها علي فراق من يحب يقول:
    قد كنت أشفق من دمعى علي بصري فاليوم كل غزيز بعدكم هانا
    ويقول:
    عشية يعدونا عن النظر البكا وعن لذة التوديع خوف التفرق
    ويخاطب نفسه فيقول:
    باد هواك صبرت أم لم تصبرا وبكاك إن لم يجر دعك أو جرى
    والحقيقة أن شعراء العربية بدعوا في فن البكاء ، وتفننوا في هذا الغرض، فأجود فن لديهم الرثاء؛ لنه الصادق الذي لا رياء فيه، ولا مداجاة. فهذا الصمة القشيري يتفجع بقوله:
    بكت عيني اليمنى فلما زجرتها عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معاً
    وهو معني لطيف ظريف، وقد وافقه الأعور السلمي في بيتين مؤثرين إذ يقول:
    بكيت بعين ليس فيها غضاضة وعين بها ريب من الحدثان
    عذيرك يا عيني الصحيحة والبكا فما لك يا عوراء والهملان
    وتلطف الشاعر السعي الشرازي، فأبدع وأحسن ما شاء أن يحسن فقال:
    بكت عيني غداة البين دمعاً وأخري بالبكاء بخلت علينا
    فعاقبت التي بالدمع ضنت بأن أغمضــتها يوم التقينا
    ولولا الاستطراد لأوردت أمثلة كثيرة علي روعة هذا الفن عند الشعراء وإجادتهم له.
    والشاهد أن المتنبئ يبكي في مواطن، شأنه شأن الشاعر ذي العاطفة الجياشة، والقلب الرقيق، والروح المرهفة، كيف لا وهو الذي يقول:
    خلقت ألوفا لو رجعت إلي الصبا لفارقت شيبي موجع القلب باكياً
    فهو يبن لك أن نفسه المتوثبة إلي المجد، الثائرة علي الأعداء ، لها عالم آخر من الحنين والعطف واللوعة ز فالرجل إذا بكى، بكى بنفس مكلومة، مفجوعة منهكة، مصابة بسهام الحوادث كما قال:
    رماني الدهر بالأزراء حتى فؤادي في غشاء من نبال
    فصرت إذا أصابتني سهام تكسرت النصال علي النصال
    إن بكاء المتنبئ ليس مفتعلاً، بل بكاء رجل ملذوع، ملسوع ملدوغ، فلا تتهمه في اصطناع البكاء، وتكلف الدموع، بل هي براهين علي ذوبان نفسهن واحتراق جوانحه.
    رحلة مع المتنبئ والشعراء : مقارنة ومفاضلة ومشابهة
    أبو الطيب له أصدقاء وأعداء، شأن العباقرة اللامعين، والجهابذة الساطعين، فهو عند أصدقائه فرد في بابه، نجم في سمائه، أسطورة من أساطير الشعر، وهو ملك القافية عندهم، ورسول الإبداع، ولكنه عن أعدائه سارق من كيس غيره، عالة علي سواه، يعدو علي نتاج الشعراء، ويختلس معانيهم، ويزور أبياته، ويزخرف كلماته، وليس له جهد إلا نظم ما سبق النبي صلي الله عليه وسلم وهكذا وقع الخلاف علي هذا الشاعر، وهكذا فلتكن العظمة. وأريد أن أذهب بك أيها القارئ في رحلة طويلة مع المتنبئ والشعراء، نستمع إليه وإليهم، ونقارن بين ما قالوه؛ لنرى من هو السابق منهم واللاحق.
    يقول أبو الطيب كما ذكر ذلك الكندي وليس في ديوانه:
    أبعين مفتقر إليك نظرتني وأهنتني وقذفتني من حالق
    لست الملوم، أنا الملوم لأنني أنزلت آمالي بغير الخالق
    وهذا المعني لهج به الشعراء وأكثروا منه، لكن صياغة المتنبئ للمعني فائقة وشائقة، وهذا غالب شعره، فإن المعني قد يسبقه إليه شاعر؛ لكنه يكسو المعنى مطرفاً جميلاً، فكأنك ما سمعته من قبل، وعلي ذلك البيتين السابقين فقد قال الشاعر:
    وكنت كالمتمني أن يرى فلقاً من الصباح فما أن رآه عمي
    وقال غيره:
    لما بدا العارض في خده بشرت قلبي بالنعيم المقيم
    وقلت هذا عارض ممطـر فجاءني منه العذاب الأليم
    فانظر غلي عذوبة ألفاظ المتنبئ وتميزها علي ما ذكرته من أبيات ، وهذا يدلك علي قوة تخيله، وبراعة ذهنه، وجودة اختيار ، ولله في خلقه شؤون!!
    ولكن هذه العبقرية الشاعرية لها كبوات وعثرات، شأن العمل البشري، فإنهم شبهوا إنتاج العباقرة بالبيت ، فيه مجلس للضيوف، وغرفة للأهل، ودار للطبخ، وهكذا ، فتجد في عمل هؤلاء النابغين الإبداع الراقي الذي يخلب الألباب، ثم تجد السفول والابتذال، والمعني الرخيص، واللفظ المزدري.
    ومن سقطات العبقرية قول المتنبئ:
    كفي بجسمي نحولاً أنني رجل لولا مخاطبتي إياك لم ترني
    فكيف يخاطب ممدوحه وقد محي خلقه، وذاب شخصه، واندرس هيكله، وهذه مبالغة ممجوجة، استخف بها النقاد وحق لهم ذلك.
    ويقول أبو الطيب:
    فقلقلت بالهم الذي قلقل الحشا قلاقل عيس كلهن قلاقل
    وقال بعض الأدباء لما قرأ البيت: كأن الرجل فقد عقله لما قال هذا البيت وقال آخر : ليته أراحنا من هذا البيت فقد أتعبنا وأضنانا.
    ومثل هذا اللغو الخطابي، والغرابة الموحشة قول الأعشي:
    وقد غدوت إلي الحانوت يتعبني شاو مشل شلول شلشل شول
    وهذا كلام سامج سادج، سخيف ثقيل علي السمع؛ لأن الإشراق والفصاحة مطلب بياني ومقصد شاعري.
    ويذكرني هذا بيت أبي تمام الذي سهر ليلة كاملة، ثم فتح عليه فقال مع الفجر وليته ما قال:
    سلمى سلمت من العاهات ما سلمت سلام سلمى وما قد أورق السلم
    فانظر كيف سبكه ولبكه وحبكه وهاسه وداسه، وهذا ليس بشعر أو كما قال صفي الدين الحلي:
    يا بلي البال قد بلبلت بالبال بالي لنوى زلزلتني قد زال عقلي زوالي
    وأعاذنا الله من هذه اللوثة والغثيان والسقط في القول. والمقصود أن المتنبئ كغيره من الشعراء، له عثرات في شعره مضحكة، حتى انه لما قال في وصف الجبان:
    إذا رأي غير شيء ظنه رجلا
    قال النقاد غير شيء ليس موجداً فكيف يراه؟! وهذا يخالف العقل، وقال في بيت آخر:
    وعففت عما في سراويلاتها
    فقلنا : ما هذه العفة الدنيئة والغط والسقط والشطط؟! وليته سكت عن هذا الهذيان، وقال في قصيدة لعضد الدولة:
    فما يسمي كفنا خسر مسم ولا يكنى كفنا خسر كاني
    وكأن الرجل يتكلم بالأردو أو بالبشتو، ولعل العجيب في هذا البيت سوء التعقيد والوحشة.
    ويقول في موطن آخر في ممدوحه:
    العارض الهتن ابن العارض الهتن ابـ ـن العارض الهتن ابن العارض الهتن
    فانظر كيف تقيا هذا الكلام ولو بقي فيه لقتله.
    وقال عن سيف الدولة يصف أجداده:
    فحمدان حمدان وحمدون حارث وحارث لقمان ولقمان راشد
    وهذا هو التكلف والنزق والطيش والسفه، والحمد لله علي السلامة.
    وهذا لا يعني أن هذا الشاعر عاجز فاتر، بل هو أبو الشعر ، وأستاذه بلا منازع: لكن أردت أن أخبرك بعثرة العظماء، وسقطة العباقرة، ونقص العمل البشري. وإلا لذهبنا نمعن النظر في لوحات أبي الطيب الجميلة، ورسومه الشاعرية الساحرة، لأخذنا العجب وأسرنا الإبداع. وله باع طويل في الفنون الشعرية، فهو إذا ذهب إلي الغزل أشجى، وإذا ذكر الديار أبكى، وإذا مدح كفى، وإذا وصف شفي، وإذا هجا كوى، وكل هذا دليل علي تمكنه، وقوة ذاكرته، وخصوبة خياله، وجودة خاطره، وسيولة ذهنه، وصفاء قريحته.
    وتعال إلي شيء من رثائه وعويله وصراخه في الدنيا، وتفجعه من الفراق ، وذكره للموت، واسمع ماذا يقول هذا الأعجوبة :
    يقول في رثائه لشجاع:
    الحزن يقلق والتجمل يردع والدمع بينهما عصى طيع
    فيا له من مطلع عجيب ، ومن بداية مؤثرة ساطعة، تحرك الشجون، وتستمطر العيون.
    ويقول باكياً شاكياً من الدنيا:
    لحا الله ذي الدنيا مناخاً لراكب فكل بعيد الهم فيها معذب
    فانظر إلي هذا الإيقاع المؤثر ، والنشيد الصادق ، والحكمة الثاقبة ، مع سهولة الجمل، وحلاوة اللفظ.
    وله قصيدة زهدية رثائية حزينة من أبياتها:
    أبني أبينا نحن أهل منـازل أبداً غراب البين فيها ينعق
    نبكي علي الدنيا وما من معشر جمعتهم الدنيا فلم يتفرقوا
    أين الأكاسرة الجبابرة الأولى كنزوا الكنوز فما بقين ولا بقوا
    من كل من ضاق الفضاء بجيشه حتى ثوى فحواه لحد ضيق
    فهو هنا متمكن مما يقول ، مؤثر بشاعريته، متفاعل بعواطفه، وقد يوجد من يتفوق عليه في بعض القصائد، أو في فن فنون الشعر، لكن في جملة شعره، وفي مجموع قصائده هو الأول، فمثلاً أبو الحسن الأنباري في قصيدته:
    علو في الحياة وفي الممات بحق أنت إحدى المعجزات
    أقوى وأعلى من المتنبئ في مراثيه.
    وابن عبدون الأندلسي في مرثيته الشهيرة التي فيها:
    وليتها إذ فدت عمراً بخارجة فدت علياً بمن شاءت من البشر
    هذه المرثية عندي أجمل من مراثي المتنبئ.
    وكذلك قصيدة عدي بن زيد:
    أيها الشامت المعير بالدهر أأنت المبــــــرأ الموفور
    لكن هؤلاء الشعراء لهم في الإبداع القصيدة والقصيدتان، لكن أبا الطيب له مائة قصيدة أو اكثر بديعة جميلة رائعة.
    فهو عندي كطالب عبقري يدرس عشرين مادة، يحصل في كل مادة علي خمس وتسعين درجة في المائة، وكل زميل من زملائه لم ينجح إلا في مادة واحدة، حصل علي الدرجة نفسها أو مائة في المائة، ورسب في المواد الأخرى جميعاً.
    فالمتنبئ مجيد في المدح، آية في الثناء علي ممدوحه، حتى تشعر بأريحية ,أنت تطالع مديحهن وتتمنى أنك كنت الممدوح لجودة ما أمطر به هذا الشاعر الأعجوبة.
    يقول لسيف الدولة:
    وقفت وما في الموت شك لواقف كأنك في جفن الردى وهو نائم
    تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ووجهك وضاح وثغرك باسم
    فلله دره أي مديح؟! وأي ثناء هذا؟! وأي شعر هذا؟!.
    ويقول في كافور:
    عدوك مذموم بكل لسان ولو كان من أعدائك القمران
    ولله سر في علاك وإنما كلام العدى ضرب من الهذيان
    إلي أن يقول :
    قضى الله يا كافور أنك أول وليس بقاض أن يرى لك ثان
    فانظر إلي هذا المديح الذي يسلب العقول، ويخلب القلوب ، وليس تفوق المتنبئ في المدح حتى يفضل علي غيره، بل في مجموع فنونه وكل قصائده مجتمعة كما أسفلت، وإلا فقد حفظ التاريخ مدائح قد تفوق في مفردها مديح المتنبئ ، فمثلا قول زهير في هرم:
    تراه إذا ما جئته متهـــللاً كأنك تعطيه الذي أنت سائله
    غاية في المديح.
    وقول علي بن جبلة العكوك في أبى دلف:
    إنما الدنيـــــا أبو دلف بين بادية ومحتضــــرة
    فإذا ولــى أبو دلــــف ولت الدنيــا علي أثــره
    قمة في الإبداع والثناء الجميل:
    وقول أبي تمام في عبد الله بن طاهر:
    يقول في قومس صحبي وقد أخذت منا السرى وخطا المهرية القود
    أمطلع الشمس تنوى أن تؤم بنا فقلت كلا ولكن مطلع الجــود
    وقد أخذ ذلك خلسة من مسلم بن الوليد إذ يقول:
    يقول صحبي وقد جدوا علي عجل والخيل تستن بالركبان في اللجم
    أمطلع الشمس تبغي أن تؤم بنا فقلت كلا ولكن مطلع الكـــرم
    فمسلم بن الوليد البادي، وأبو تمام هو العادين ولكن هذا من اجمل المدح وأرقه وأجزله، والشاهد، أنه قد يتفوق شاعر من الشعراء في جزئية علي أبي الطيب ، ولكن كلية الشعر الجميل تبقي لأبي الطيب، وله دولة القافية، وهو ملكها المتربع علي عرشها.
    نفيسة أبي الطيب في شعره
    أصدق ما يعبر عن المرء لسانه، والشاهد علي الإنسان كلامه، وأعظم بينه عليه اعترافه، وأبو الطيب يقدم لنا أسرار نفسه، وخبايا جوانحه في شعره، ويمكنك أخذ صورة كاملة لبي الطيب من شعره، وسوف اضرب أمثلة من قريضه لنفهم هذا الشاعر أكثر . يقول:
    فثب واثقاً بالله وثبة ماجد يري الموت في الهيجا جنى النحل في الفم
    فالرجل طموح سبوق ، مغرم بالمعالي، عاشق للمجد، مخاطر في سبيل مراده، وليس بليداً قاعداً مهزوماً، كبعض الشعراء الذين ألقوا بأيديهم إلي التهلكة، يقول:
    لولا مفارقة الأحباب ما وجدت لها المنايا إلي أرواحنا سبلا
    فهو رهيف الإحساس ، حي العاطفة جياش الفؤاد، وليس ثخين الطبع، بارد المشاعر، ميت الروح.
    يقول:
    عش عزيزاً أو مت وأنت كريم بين طعن القنا وخفق البنود
    فرؤوس الرماح أذهب للغيـــ ـظ وأشفى لغل صدر الحقود
    لا كما قد حييت غير حـــميد وإذا مت مت غير فقيــــد
    فاطلب العز في لظى ودع الذ ل ولو كان في جنان الخلود
    فهذه فلسفته في الحياة، وهي الكفاح من أجل العزة، ورفض الذل، وهجر الحنوع والاستخذاء، ولو لقي الإنسان في سبيل ذلك الألاقي، ولو نهشته الرماح، وعضته شفرات السيوف، فهو يري أن الحياة هي الجهاد والبذل والتضحية، والمشقة هي جنة الدنيا،وبستان العمر الوارف، وأن حياة الذل والقهر والكبت جهنم العيش، ولظى الدنيا، فلماذا لا يغامر الإنسان ويركب المصاعب؟! ويستهين بالحوادث؟! حتى يصل إلي مراده ومبتغاه .ويقول:
    من كل أبيض وضاح عمامته كأنما اشتملت نوراً علي قبس
    دان بعيد محب مبغض بهج أغر حلو ممر لين شرس
    ند أبي غر وأف أخي ثقة جعد سري نه ندب رضاً ندس
    وقبل أن أوضح الحديث عن نفسيته من خلال هذه المقطوعات، أذكرك بقوة لغته، وتمكنه من المفردات، واقتداره علي الصياغة، وسهولة اللفظ في لسانهن وإنسياب الجمل معه، وهذا هو الشاعر الذي تطاوعه اللغة ، ويسعفه الكلام، وتمطره الحروف بوابل من التراكيب والصور، وتراه في المقطوعة السابقة يدعو إلي صفات متضادة، لكنها كمال في موطنها، وجمال في مجموعها، فهو يريد إنساناً دانياً من أحبابه، مبغضاً لأعدائهن حسن الطلعة لأصدقائه، جميل المحيا لمعرفه، حسن السجايا لمن يحبه، ولكنه مر الطعم لمن يعاديه، وشرس الطباع لمن يخالفه، كريم سخى، صاحب وفاء ، شريف نفس، عاقل يفهم عنك، ويحيط بمن حوله، ويدرك مراد من يحدثه، وهذه صورة الرجل المثالي المقبول عند أبي الطيب فهو مغرم بخصال الحمد، محب لمعاني النبل في الرجال، أما عدوه فهو البخيل الجافين ساقط الهمة الجبان البليد، ولكن هذا الشاعر المصقع النبي صلي الله عليه وسلم اختزل اللفظ، وأوجز في الكلام، وعصر الفضفضة الوصفية في اختصار لطيف شريف.
    يقول:
    أرق علي أرق ومثلي يأرق وجوى يزيد وعبرة تترقرق
    فانظر إلي هذه القلقة المطرية المعجبة التي يتراقص معها البدوي مع تمكن اللفظ من موضعه، فليس قلقاً في مكانهن ثم انظر لجودة المعني؛ فإنها ذكر حال المحب في أرقة الدائم، واحتراق حشاياه بنار الوجد، وغزارة دمعته مع جمال المطلع واختيار المفردة، فهي تناسب الحب والوجد والغرام، ويختم إحدى قصائده ببيت ذائغ في المدح فيقول:
    ألا كل سمح غيرك اليوم باطل وكل مديح في سواك مضيع
    فانظر إلي حسن الختام، وإغلاق دائرة القصيدة، مع روح الحكمة وجزالة اللفظ فكأن المعاني معروضة أمامه يختار منها ما يشاء، ويترك ما يشاء، ثم انظر إلي حسن التقسيم في البيت، فكل نصف تام كامل ، لا يحتاج إلي النصف الآخر، ثم إن كلمة سمح، وباطل، ومديح، ومضيع ، منتقاة فصيحة وليست ركيكة متبذلة.
    ويقول:
    ومن يبغ ما أبغي من المجد والعلى تساوي المحايي عنده والمقاتل
    فهذه حكمة شاردة، وبيت فريد، فنصفه الأول توطئه، والنصف الثاني نص مقصود، أو مقدمة ونتيجة، ثم إن البيت فيه علو الهمة، وجلالة المقصود، وارتفاع القدر ما يدل علي الطوح، وشرف النفس، وهذا ظاهر في شعره، وفي البيت استقرار الكلمة وكأنها حلقت لهذا الموضع فلو قلت للناس: ( تساوي المحايي عنده) ثم سكت لأكملوا وقالوا: ( المقاتل).
    ويقول:
    ليس التعلل بالآمال من أربي ولا القناعة بالإقلال من شيمي
    فإنه قابل وزاج وضاد، فقابل بين التهلل والقناعة، ويجمع بينهما معني الاكتفاء، وقابل بين الآمال والإقلال، وبين قوله:( أربي وشيمي) فأتي البيت تماماً علي الذي أحسن، وأبو الطيب يفعل هذا وأكثر، وهو صاحب البيت البهيج الذائغ الشايع،إذ يقول:
    أزورهم وسواد الليل يشفع لي وأنثني وبياض الصبح يغري بي
    فقابل بين أربعة بأربعة: أزورهم مع وأنثني، وسواد الليل مع بياض الضبح، ويشفع مع يغري، ولي مع بي، وهذه هي الموهبة الجياشة للقلب الحي والعقل الذكي، ويقول:
    ردي حياض الردي يا نفس واتركي حياض خوف الردى للشاء والنعم
    فهي همته المتوثبة، ونفسه التواقة، يشرحها لنا في قوالب من السحر، ويقدمها لنا في باقات من الشعر.
    ومن خصائص هذا الشاعر أنه فريد في تركيب معانيه، وقد يسبقه الشعراء إلي المعنى، لكنه يفوقهم في حسن العرض، وجمال التركيب وبراعة الإخراج، حتى تجزم انه لم يسبقه أحد لهذا المعني،وهذا الذي حير النقاد في شعره، وأوقفهم مذهولين أما قصائده.
    يقول في ممدوحه وقد دخل مدينة حمص:
    دخلتها وشعاع الشمس متقد ونزر وجهك بين الخلق باهره
    في فليق من حديد لو قذفت به صرف الزمان لما دارت دوائره
    فهو مهما صعبت القافية مرن في جذبها، متمرس في التعامل معها، حاذق في مطارحتها، بعيد عن معاضلة الكلام، وزيادة الضمائر وحروف الجر المقحمة إقحاماً كما يفعله ضعاف الشعراء، فلا حشو في شعره، وأعد النظر في البيتين السابقين، فقوله، : ( دخلتها وشعاع الشمس متقد) تجد أن كلمة اختلت مكانها الطبيعي دون إعادة ضمير، أو زيادة حرف، أو افتعال حشو لا داعي له، وانظر كيف أنهي نصف البيت، ليصبح كاملاً تاماً، غير محتاج إلي كلام آخر، وهذه هي البلاغة بعينها.
    ويقول في قصيدة أخري:
    جرى حبها مجري دمي في مفاصلي فأصبح لي عن كل شغل بها شغل
    كأن رقيباً منك سد مسامعي عن العذل حتى ليس يدخلها العذل
    فأنت تشاهد قصيدة للمعاني في أي مذهب سلك، فإن قصد الغزل أتحف وشنف ، وشدك بصور من عالم الحب، ودنيا الهجر والوصال، وديوان الغرام والعشق، وإن مدح خلع علي ممدوحه مطارف من أبهي الشعر قبله ولكنه مبتكر، سيال القريحة، متجدد العطاء، ولو أمعنت النظر في البيتين السابقين لوجدت المعني جديداً، ولو إن بعض أجزائه سبق إليه، لكن التركيبة الكاملة، والكلية الواحدة للمعني مبتكرة من هذا الشاعر المتمكن.
    يتبـــــع

  4. #4
    الصورة الرمزية عبدالملك الخديدي شاعر
    تاريخ التسجيل : Feb 2006
    الدولة : السعودية
    المشاركات : 3,954
    المواضيع : 158
    الردود : 3954
    المعدل اليومي : 0.60

    افتراضي

    شهداء علي تفرد هذا الشاعر
    أدلي أرباب البيان وأساطين اللغة وجهابذة الشعر بشهادتهم عن هذا الشاعر الفذ، معترفين بسموه وعبقريته وتفرده، يقول الواحدي إمام اللغة والتفسير، وأحسن من شرح ديوان المتنبئ: ( عن الناس منذ عصر قديم ولوا جميع الأشعار صفحة الإعراض، مقتصرين منها علي شعر أبي الطيب، ناسين عما يروى لسواه).
    وحسبك بهذه الشهادة من أستاذ باقعة في معرفة الشعر، آية في تذوق البيان، ولو ذهبت تفكر في مدلول شهادته لوجدتها صادقة، فإن شعر هذا الرجل صار سمر الأدباء، ونشيد المسافرين، وسلوة الناس في مجالسهم ومذاكرتهم، وما رأيت عالماً جهبذاً، ولا أديباً بعد المتنبئ، إلا وقد استشهد بشعره وردد أبياته.
    وقال العكبري:( ولم يسمع بديوان في الجاهلية ولا في الإسلام شرح مثل هذه الشروح الكثيرة، ولا تدوول في ألسنة الأدب من نظم ونثر أكثر من شعر المتنبئ). وهذا كلام يشهد له الواقع، فقد غرقت أقلام الباحثين في دراسة شعره، واستخراج درر بيانه، والغوص في أعماق نتاجه، وهذا هو الشيوع والذيوع.
    ويقول أبو بكر الخوارزمي: ( إن المتنبئ أمير شعر العصر، ولو لم يكن له إلا قوله:
    أري كلنا يبغي الحياة لنفسه حريصاً عليها مستهاماً بها صبا
    فحب الجبان النفس أورده التقي وحب الشجاع النفس أورده الحربا
    لكفاه).
    وقد وصفه المستشرق (( غوث)) بشاعر العرب الكبير النبي صلي الله عليه وسلم ويقول كاتب العربية مصطفي صادق الرافعي في مجلة المقتطف: ( إن هذا المتنبئ لا يفرغ ولا ينتهي، لأن الإعجاب بشعره لا ينتهي ولا يفرغ، وقد كان نفساً عظيمة خلقها الله كما أراد، وخلق لها مادتها العظيمة، علي غير ما أرادت، فكأنما جعلها بذلك زمناً يمتد في الزمن، وكان الرجل مطوياً علي سر القى الغموض فيه من أو تاريخه، وهو سر نفسه، وسر شعره، وسر قوته).
    وقال الربعي: ( كان يقرأ ديوان المتنبئ علي النحاة والأدباء حرفاً حرفاً،ويروونه عن بعضهم، وقد ضبط الديوان علي المتنبئ ، وصحح عليه ، وما ذاك إلا لعظم هذا الشعر وتفرده).
    وقال ابن العديم في بغية الطلب: ( وكان أبو الطيب شاعراً مشهوراً مذكوراً محظوظاً من الملوك والكبراء الذين عاصرهم، والجيد من شعره لا يجارى فيه ولا يلحق).
    وترجم له ابن عساكر المؤرخ المشهور، ومجد شعره، واثني علي حكمه، وشرح ديوانه ابن جني بكتاب سماه (( الفسر)) وكتاب (( اللامع العزيزي))، و (( معجز أجمد)) لأبي العلاء المعري، غاص فيه علي درر المتنبئ، وشرح ديوانه الواحدي بشرح مجيد فريد في بابه، هو أمتع وأنفع الشروح.
    وشرح ديوانه التبريزي في كتاب (( الموضح)) ودرس شعره أستاذ البلاغة عبد القاهر الجرجانين وتكلم عن شعره أبو منصور السمعاني، والعالم الإفليلي، والأديب أبو الحجاج الأعلم، وعلق علي شعره عبد الرحمن الأنباري، وكتب الحسن بن محمد بن وكيع كتاب(( المنصف)) تناول ما للمتنبئ وما عليه، ومثله وأحسن منه كتاب (( الوساطة)) للقاضي علي الجرجاني، وشرح ديوانه أبو البقاء العكبري وكتب عنه أبواليمن زيد بن الحسن الكندي النحوي المشهورن وكذلك عبد الواحد بن محمد بن علي بن زكريا، ومحمد بن علي الهراسي الكافي،وأبو الحسن محم بن عبد الله الدلفي، وكمال الدين الواسطي، وغيرهم كثير، وعقب علي شعره أساطين البيان ورواد اللغة، كأبي بكر الخوارزمي، وعبد الرحمن بن دوست النيسابوري، وأبي الفضل العروضى، وابن فورجة في كتاب(( لبتجني علي ابن جنى))، وكتاب (( الفتح علي أبى الفتح)) ومعاني أبياته لابن جنى، والتنبيه للربعي، وكتاب ((قصائد المتنبئ)) للأعلم الشنتمري، وكتاب (( نزهة الأديب في سرقات المتنبي من حبيب)) لحسنون المصرى، وكتاب (( الانتصار المبني عن شعر المتنبئ )) لأبي الحسن المغربي، و (( التنبه المنبي علي رذائل المتنبئ)) لأحمد المغربي، وبقية (( الانتصار المكثر من الاختصار)) للمغربي أيضاً ، و(( الرسالة الحاتمية)) لأبي الحسن الحاتمي، وكتاب (( جبهة الأدب)) للحاتمي أيضاً ، وكتاب (( المآخذ الكندية من المعاني الطائية))، و(( الاستدراك علي ابن الدهان)) لابن الأثير الجزري، وكتاب ((الإبانة)) للصاحب العميدي.
    وقال ياقوت الحموي : ( ولم نسمع بديوان شعري في الجاهلية ولا في الإسلام شرح هكذا بهذه الشروح الكثيرة سوى هذا الديوان، ولا بتدوال شعر في أمثال أو طرف أو غرائب علي ألسنة الأدباء في نظم أو نثر اكثر من شعر المتنبئ).
    وترجم له المقريزي في كتابه (( المقفي)) ترجمة طويلة، وأورد من روائعه شيئاً كثيراً، وترجم له الذهبي مؤرخ الإسلام، وأشاد بشعره، وذكر سيرته ابن كثير ونوه بنبوغهن وأما المفسرون بعد المتنبئ فنشروا شعره في تفاسيرهم ، وبدعوا في الاستشهاد بأدبه، واكثر أهل اللغة والأدب من دراسة شعره ما بين مادح وقادح، وكتب عنه في كل مجلة أدبية ، وتحدث عنه في كل مهرجان شعري، بل خصص له مهرجان كامل باسمه، وعقدت له ندوات خاصة، وأقيمت أمسيات لأبي الطيب وحده، واعدت دراسات عنه وعن شعرهن وقدمت رسائل في الماجستير والدكتوراه عن هذا الشاعر العظيم، وضمن الشعراء بعده شعره في قصائدهم، واكتسبوا منه، ومدحوه بقصائد كاملة، واستشهد الخطباء بأبياته علي المنابر، وفي المحافل، وقرئ ديوانه في مجالس العلماء، ومنتديات الأدباء ، وذيل الحكماء رسائلهم بشعره، وصدر الوزراء والأمراء والكتاب خطاباتهن بأبياته، وترجم شعره إلي اللغات الحية، وأقيمت مسرحيات باسم المتنبئ، واختصر ديوانه ، ومنهم من جمع حكمه ، ومنهم من شرح شواهده، ومنهم من أفرد روائعه، ومنهم من درس جانباً من جوانب شاعريته، ومنهم من رد عليه وعارضه، ومنهم من طارحه وجاراه، ومنهم من ألف في معاناته، ومنهم من فضله علي كل شاعر ، ومنهم من فضل كل شاعر عليه**!!
    وشرح وشكل شعره ابن سيده علي بن إسماعيل وجمع معظم شروح شعره عبد الرحمن البرقوقي، وما له وما عليه، وشرج ديوانه بالفارسية المحببي محمد أمين بن فضل الله بعنوان(( محبي شرح ديوان متنبي)) وطبع بالهند وشرحه مولانا عبد الله العبيدي بعنوان ((تصويب البيان في شرح الديوان)) وهو شرح بالأوردية، وهجم علي شعره الصاحب بن عباد بعداوة مكشوفة في كتابه(( الكشف عن مساوئ المتنبئ)) وأغار علي شعره ابن وكيع بمؤلف سماه(( المنصف في نقد الشعر وبيان سرقات المتنبئ ومشكل شعره)) وهو أبعد ما يكون عن الإنصاف، وكتب الصاحب بن عباد رسالة ثانية بعنوان(( الأمثال السائرة من شعر أبي الطيب المتنبئ)) فيها اعتدال وإنصاف . وترجم للمتنبئ الأديب البارع أبو منصور الثعالبي في يتمية الدهر ترجمة وافية كافية شافية ضافية، وألف أبو القاسم الاصهباني كتاب(( الواضح في مشكلات شعر المتنبئ )) ونقل عنه عبد القادر البغدادي في (( خزانة الأدب)) وفيه عداوة وتحايل علي المتنبئ.
    وقد جمع ما تفرق من أخبار المتنبئ عبد الله الجبوري في كتاب (( أبو الطيب المتنبئ في آثار الدارسين )) وألف عنه محمود محمد شاكر كتاباً ذائغاً شائقاً عجباً بعنوان (( المتنبئ رسالة في الطريق إلي ثقافتنا)) وهو من أجمل وأكمل وأجل الكتب في بابه. وكتب عنه عبد الوهاب عزام كتاب ((ذكري أبي الطيب بعد ألف عام)) وشرح ديوانه في ألمانيا المحدث الكبير تقي الدين الهلالي.
    وكتب عنه طه حسين كتاب(( مع المتنبي)) وبحث في شعره جمع من الأدباء والمؤلفين، كجاسم محسن عبود ومارون عبود وشوقي ضيف ومحمد عبد الرحمن شعيب ومصطفي الشكعة وعصام السيوفي واليازجي وغيرهم .
    وغالب الشعراء المعاصرين مدحوه بقصائد أو أبيات ودبجوا قصائدهم ببعض جمله وأبياته وحكمه.
    وكتب عنه فريق من المستشرقين وأدباء الغرب.
    وقال كوركيس عواد: ( كتب عن المتنبئ دراسات فرنسية وإنجليزية وإسبانية وألمانية وإيطالية ولاتينية وروسية وبولندية).
    وقد درس ديوان المتنبئ المستشرق بلاشير في أطروحته (( أبو الطيب المتنبئ دراسة في التأريخ الأدبي )) ترجم إبراهيم الكيلاني جزءاً منها وترجم الجزء الآخر أحمد أجمد بدوي.
    ودرس المتنبئ عمدة المستشرقين سلفستر دو ساسي وأولي شعره عناية فائقة وأهم مؤلفاته عن هذا الموضوع (( المنتقيات العربية)) وجمع دراساته في كتاب سماه (( الأنيس المفيد للطالب المستفيد وجامع الشذور من منظوم ومنثور)).
    وكتب عنه المستشرق دولا كرانج كتاباً بعنوان (( نخب الأزهار في منتخبات الأشعار))
    وتحدث عن أبي الطيب المستشرق شلومبرجر وأبرز القيمة التاريخية لشعر المتنبئ . أما ماسيتيون فقد عرض في كتابه(( عناصر إسماعيلية في شعر المتنبئ)) وقال بأن المتنبئ باطني إسماعيلي )) وقد جانب في ذلك الصواب ، وركب الصعاب، وأخطأ في الجواب، ومن أكثر المستشرقين عناية بالمتنبئ بلاشير لأنه درس حياته وشعره ونذر شطراً من عمره لبحث أدب هذا الشاعر.
    وكان أندريه ميكال في كتابه (( المتنبئ شاعر عربي: بعض التأملات من أكثرهم دقة وتحريراً وضبطاً، ولم يقلد غيره في التعصب والتحامل وكتب عن أبي الطيب الكاتب الألماني رايسكه بحثاً بعنوان(( مختارات من الشعر العربي غزليات ومراث من ديوان المتنبئ)).
    وكتب هامر النمساوي كتاب (( المتنبئ شاعر العربية الأكبر)) وقد ترجم ديوانه كاملاً إلي الألمانية.
    ومن أجمل من درس أراء المستشرقين ودراساتهم عن المتنبئ الدكتور حسن الإمراني في كتابه(( المتنبئ في دراسات المستشرقين الفرنسيين)).
    وما زالت الدراسات والبحوث، والندوات، والمحاضرات، تكتب وتقام وتعقد في شعر هذا الرجل وأدبه، ولم أجد شاعراً عند العرب قديماً وحديثاً وجد حظوه عند الناس كما وجد هذا الشاعر، وهو عند العرب في الشعر كشكسبير عند الإنجليز ، ويمكن جمع مكتبة كاملة فيما قيل فيه من شعر ونثر وشرح ومقالات وبحوث وكأنه يقصد نفسه بقوله:
    إذا تغلغل فكر المرء في طرف من مجده غرقت فيه خواطره
    أو كأنه المقصود بقوله:
    هو الجد حتى تفضل العين أختها وحتى يصير اليوم لليوم سيدا
    غرره ودرره
    ذا من يغبط الذليل بعيش رب عيش اخف منه الحمام
    المعني: من راقته حياة الذليل، وأعجبه ما هو عليه من سوء الحال فتمنى أن يكون نظيره فليس بعاقل؛ لأنه رضي لنفسه منزلة الهوان. فالذليل لا يغبط علي عيشه وإنما يغبط العزيز، والموت أيسر علي النفس الكريمة من الحياة في الذل.
    كل حلم أتي بغير أقتدار حجة لاجئ إليها اللئام
    المعني: الحلم يكون عن قدرة، فإذا رايت العاجز قد اعتصم بالحلم، فذلك برهان لؤمه، فهو إنما ينفي عحزه عن الانتقام بحجة أنه حليم وليس بالحلم، حتى إذا سنحت فرصة نقض الحلم ووثب علي الخصم وانتقم لنفسه.
    من يهن يسهل الهوان عليه ما لجـــرح بميت إيلام
    المعني: الإنسان إذا كان هيناً في نفسه بأن لم يعرف لها حقها من العزة، سهل عليه احتمال الهوان فلا يتألم منه، كالميت لا يتوجع من الجرح الذي كان يتوجع منه وهو حي لفقدان الإحساس.
    وفي اختيار المتنبئ التشبيه بالميت إشارة إلي أن المهين حياته موت، ووجوده عدم، فما أطيب الحياة مع الكرامة، وما أخبثها مع الهوان.
    أفاضل الناس أعراض لذا الزمن يخلو من الهم أخلاهم من الفطن
    المعني: الفضلاء من الناس هدف للزمان، يرميهم بنازلاته وصروفهن ويقصدهم بحدثانه ومحنه، فلا يزالون في أحزان تترى، وأوصاب تتكرر من جراء تفكيرهم في عواقب الأمور، واستفاد وسعهم في مهام الأعمال، وإنما يخلو من الهم من كان خلواً من العقل، غفلاً من الذكاء.
    ومن ينفق الساعات في جمع ماله مخافة فقر فالذي فعل الفقر
    المعني: من أنفد ساعات العمر في جمع المال خشية إملاق، كان ذلك الفعل هو الإملاق بعينه، فإنك إذا لقيت دهرك في جمع المال ولم تنفقه وتتمتع به، فقد مضي عمرك في الفقر.
    ومن نكد الدنيا علي الحر أن يري عدواً له ما من صداقته بد
    المعني: من عسر الحياة علي كريم النفس، أن يحتاج فيها إلي مصانعة عدوه ومداراته؛ ليأمن شره، حيث لا يجد من إظهار المصادقة والمداراة دفعاً لغائلته.
    واكبر نفسي عن جزاء بغيبة وكل اغتياب جهد من ما له جهد
    المعني: أري نفسي أكبر وأرفع من أن أكافي العدو علي إساءته بالاغتياب.
    فإن الاغتياب طاقة من لا طاقة له بمحاربة عدوه، فإنما يغتاب الناس العاجز الذي لا يستطيع أن يثار بنفسه، ولا يقدر أن يداوي بالشر من الشر.
    من الحلم أن تستعمل الجهل دونه إذا أتسعت في الحلم طرق المظالم
    المعني: إذا أفضي حلمك إلى طمع الناس فيك وظلمهم إياك ورأيت أنه قد اتسعت عليك أبواب المطامع، وتشعبت طرق المظالم، فمن الحلم أن تلجا إلى الشدة حتى تكبح جماح الطامعين، وتفل (تكسر) شباة (حدة) الظالمين.
    إذا لم تكن نفس النسيب كأصله فماذا الذي تغْني كرام المناصب
    المعني: إذا كان المرء شريف الأصل دنئ النفس، فلا يفيده شرف أصله مع دناءه نفسه، فالمرء بفضيلته لا بفصيلته، ومن هذا يؤخذ أنه لا ينبغي أن يعتمد الإنسان في فخره وشرفه علي سوى نفسه.
    والهمم يخترم الجسيم نحافة ويشيب ناصية الصبي ويهرم
    المعني: الحزن يفتك بالنفوس فتكاً ذريعاً ، ويحطم الأبدان تحطيماً، ويذهب بجسامة العظيم الجسم ويوقعه في الهزال، وإذا تمكن من الصبي اشابه ، قبل إبان المشيب، وبدل صباه هرماً، وقوته ضعفاً، وصحته سقماً، وكل ذلك ناشي عن شدة الاضطراب من الحادثات، والتأثر بالمرجفات.
    ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
    المعني: العالم البصير بعواقب الأمور شقي في الحياة وإن طاب عيشه، وتدفقت نعمته؛ لنه دائم التفكير كثير الاشتغال بمهام الأعمال.
    أما الجاهل ، فهو ناعم البال، مطمئن القلب لغفلته وجهله بتحول الأحوال وتقلب الحوادث، وإن كان سيئ الحال رديء العيش.
    لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق علي جوانبه الدم
    المعني: العلي المنزلة في قومه محسود لا يزال يرمى بالمكارة، فلا يبرأ شرفه من الأذى حتى يسيل الدم علي جوانبه،إذ قد يبعث الاحتفاظ بالشرف علي سفك الدماء، وإزهاق الأرواح.
    والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم
    المعني : الظلم من طبائع النفوس؛ لأنها مكتنفة بالمطامع، محفوفة بالشهواتن فكانت مجبولة علي الظلم لسد مطامعها، وقضاء شهواتها، فالإنسان ظالم بالطبع، فإذا وجدت إنساناً لا يظلم فذلك لعله دينية أو سياسية، كخوف من ربه أو من حكومته.
    ومن البلية عذل من لا يرعوي عن جهله وخطاب من لا يفهم
    المعني: من البلية علي الحر أن يلوم من أسرف في شهواته، وأفرط في لذاته، واستولي علي حواسه شيطان الغفلة، فلا يجد إلي الانتصاح سبيلاً، ومن البلية كذلك علي الحر أن يخاطب من لا عقل له فلا يفهم ما يقول، فهو والجماد سيان.
    والذل يظهر في الذليل مودة وأود منه لمن يود الأرقم
    المعني: الحاجة ذل تكلف الإنسان ما ليس من طبعه، فقد يظهر الإنسان لمن يبغضه المودة لذلله منه وخوفه، فلا تغرنك ذلة الذليل، يظهر لك المودة، ويبطن لك البغض ،فهو شر من الحية الخبيثة، التي تظهر لمن لامسها عدم الأذى بلين الملمس و( عند التقلب في أنيابها العطب).
    ومن العداوة ما ينالك نفعه ومن الصــداقة ما يضر ويؤلم
    المعني: يقول: رب عداوة جلبت إليك نفعاً ، اقله التحفظ من وقوع المهالك، ورب صداقة اعقبت لك ضراً وألماًن أورثهما عدم التوقي ممن تصادقه، ويدخل في هذا المعني المثل السائر ( عدو عاقل خير من صديق جاهل).
    يرى الجبناء أن العجز عقل وتلك خديعة الطبع اللئيم
    المعني: أن الرجل الجبان الذي يهاب ركوب الغمار في سبل درك المعالي وبلوغ الأماني؛ يري أن عجزه عن ذلك من العقل والحكمة، وليست الحقيقة كما ظن، وإنما هي خدعة يخدع بها نفسه كل رجل خامل الذكر، ساقط القدر، ليطري عجزه ، ويزين خموله.
    وكل شجاعة في المرء تغني ولا مثل الشجاعة في الحكيم
    المعني: الإقدام يغني، والجراءة تجدي في كل حال، فكل شجاعة نافعة للمرء، إلا أن نفعها في الحكيم أتم وأكمل، وذلك أن الشجاعة ربما كانت طريقاً لحتفه وأودت بروحه فيذهب شهيد التهور ، وقتيل ثأر شجاعته الخرقاء.
    وكم من عائب قولاً صحيحاً وآفته من الفهم السقيم
    المعني: إذا مرض فهم المرء ضل في الرأي ، وأخطأ في الحكم ، فيري بفهمه السقيم الكذب صدقاً، والخطأ صواباً ، ويعيب ما لا يعاب.
    والأسى قبل فرقة الروح عجز والأسى لا يكون بعد الفراق
    المعني: لا يحسن بك أن تحزن للموت قبل وقوعه، لأن ذلك ينغص عليك العيش؛ ولأنك عاجز فلا تستطيع أن تدرأ عن نفسك الموت بحزنك، وإذا وقع الموت فلا عليك، إذ لا علم لك بوقوعه حتى تحزن، وفي هذا البيت حث علي الشجاعة ، وتحذير من الجبن ، وتهوين للموت؛ لئلا يخافه الإنسان فيتحاشى الإقدام، وينثني عن اقتحام صعاب الأمور، وفي هذا المعني يقول المتنبئ:
    وإذا لم يكن من الموت بد فمن العجز أن تكون جبانا
    *****
    والغني في يد اللئيم قبيح قدر العجز أن تكون جبانا
    المعني: قبيح بالأيام أن نري فيها اللئيم غنياً والكريم فقيراً، وذلك لأن الغني في يد اللئيم سلاح يحارب به الكرام، ويساعده علي تنفيذ لؤمه، والكريم إذا أملق كان مثله كمثل المنهل العذب إذا نضب ماؤه، أو البدر في الليلة الظلماء إذا احتجب ضياؤه.
    وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام
    المعني: إذا قويت الهمة، وكبرت النفس تعب الجسم، في غاياتها الكثيرة، ومطامعها المختلفة، والبيت من قصيدة يمدح بها سيف الدولة، وقد عزم علي الرحيل عن أنطاكية.
    ولو كان النساء كمن فقدنا لفضلت النساء علي الرجال
    المعني: لو أن نساء العالم بلغن من الكمال والعفاف ما بلغت هذه المفقودة؛ لتفوقن علي الرجال في الفضل، إذ هي اليتمية العصماء في عقد الفضيلة، والبيت من قصيدة يرثي بها والدة سيف الدولة.
    وما التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخر للهلال
    المعني: لا يكون تأنيث المفقودة مدعاة إلي الحط من قيمتها، أو ذريعة علي التقليل من كرامتها، فالشمس مؤنثة، وقد فضلت القمر في الضياء، فنوره مستمد من نورها، وشأوه في الفضل دون شأوها، تلك وسيلة محسوسة تذرع بها المتنبئ إلي تفضيل المرأة علي الرجل وهذا من أحسن الأساليب وأبدع الخيال.
    فإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال
    المعني: يقول ـ وقد انتقل في القصيدة من الرثاء إلي مدح سيف الدولة ـ: أيها الملك العظيم إن فضلت الناس وأنت من جملتهم، وتعيش بينهم، ومشارك لهم في الجنسية، فلا غرابة، فقد يفضل بعض الشيء كله، فالمسك وهو بعض دم الغزال، قد فاق اصله جملة، فرب واحد قد فاق أمة، وبعض قد فاق جملة.
    من كان فوق محل الشمس موضعه فليس يرفعه شيء ولا يضع
    المعني: يقول مخاطباً سيف الدولة: من بلغ من الفضائل غايتها، وحل من المنازل اسماها، وحاز من الشجاعة أقصاها، فلا يرتفع بنصرة أحد، ولا يتضع بخذلانه، وإنك أيها الملك العظيم لكذلك ، فشجاعتك فوق كل شجاعة، وقدرك فوق كل قدر، تواضعت الشمس عن موضعك الذي يشتاقه كل سيد، ويقصر عن إدراكه كل عظيم.
    فقد يظن شجاعاً من به خرق وقد يظن جبانا من به زمع
    المعني: قد يخطئ ظن الإنسان فيطوح به عن الحقيقة، فيتوهم من به حماقة وخفة شجاعاً، ويظن من تعتريه رعدة من الغضب جباناً،فالعبرة بالتجربة، فهي التي تصيب بها كبد الحقيقة، وكأنه يقول لسيف الدولة: إني قد سبرت حالك، فإذا مدحتك بعد التجربة فلا اخطئ في مدحه إياك.
    إن السلاح جميع الناس تحمله وليس كل ذوات المخلب السبع
    المعني: ليس كل رجل يحمل السلاح شجاعاً يقوي علي المبارزة ، كما انه ليس كل ذي مخلب سبعاً يفترس بمخلبه، فقد يتقلد السلاح الجبان، وقد يوجد من ذوات المخالب ما دون السبع، فما كل اصفر ديناراً لصفرته، ولا كل حلو سكراً لحلاوته.
    وما الخوف إلا ما تخوفه الفتي ولا الأمن إلا ما رآه الفتى أمنا
    المعني: الخوف والأمن ناشئان عن اعتقاد الإنسان في الشيء ، رسولان يبعث بهما الوهم، وعرضان يحدثهما الوجدان، فإذا اطمأن قلب المرء إلي شيء صار أمنا عنده ، وإن غير مأمون ، وإذا فرغت نفسه منه صار خوفاً، وإن كان غير مخوف، والبيت من قصيدة يمدح بها سيف الدولة، وكان قد توقف عن الغزو لما سمع بكثرة جيش الروم.
    وحيد من الخلان في كل بلدة إذا عظم المطلوب قل المساعد
    المعني: يقول: أنا منفرد عن الأصدقاء الذين يعتمد عليهم في الخطوب المتفاقمة، والنازلات الشديدة، فما لي من مساعد علي تحقيق ما أطلب؛ وذلك لعظم مطلبي، وإذا عظم مطلوب المرء قل من يساعده عليه، والبيت من قصيدة يمدح بها سيف الدولة.
    بذا قضت الأيام ما بين أهلها مصائب قوم عند قوم فوائد
    إن طبع الأيام سرور قوم بإساءة آخرين ،وما رأينا حادثاً من حوادث اليام إلا سرت به طائفة، وسيئت به أخري، فالدهر يومان، يوم لك، ويوم عليك ) وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ..)(آل عمران: الآية140).
    وفي تعب من يحسد الشمس نورها ويجهد أن يأتي لها بضريب
    المعني: يقول: إن من يحاول أن يأتي لسيف الدولة بنظير، كمن يحاول أن يأتي للشمس بمثل، فهو بين الناس كالشمس بين الكواكب، فكما أن الشمس لا يعدلها في ضوئها واحد من الكواكب ، كذلك سيف الدولة، لا يعدله في فضائله أحد من الناس، ومن تكلف فهو كمن يرقم علي صفحات الماء.
    ويقول في قصيدة يمدح فيها سيف الدولة.
    ومن صحب الدنيا طويلاً تقلبت علي عينيه حتى يري صدقها كذباً
    المعني: من أحب الدنيا لزيادة ترفن وبسطة رزق، ورفيه منصب، لا يلبث أن يراها قد تقلبت علي عينه، فتريه ع-ما رأي، فيستحيل نعيمه بؤساً، وسعته إملاقاً ، ويتبين له أن الدنيا غاشة لمن استرشدها ، ومغوية لمن أطاعها كما قال أبو نواس:
    إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت له عن عدو في ثياب صديق
    ومن تكن الأسد الضواري جدوده يكن ليلة صبحاً ومطعمه غصبا
    المعني: من اشتد أزره في قومه، وقوي ركنه بينهم، لا تتعرض له في طريق مراده عقبة، ولا تستعصي عليه أمنية، ينال ما يريد من أعدائه قهراً، ويعود له العسير يسراً.
    أعيذها نظرات منك صادقة أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم
    المعني: اعصم نظراتك من أن لا تكون نظرات يقين، فأنت إذا نظرت إلي الشيء بحسب ظاهره تصب منه كبد الحقيقة، فلا تغلط فتكون كمن ظن الورم شحماً، والسراب ماء، وقد أراد المتنبئ بهذا البيت أن يعاتب سيف الدولة، حيث توهم كل من يدعي الشعر شاعراً، وشبه حاله في ذلك بحال من ظن الورم شحماً، والبيت من قصيدة يعاتب بها سيف الدولة في محفل من العرب.
    وما انتفاع أخي الدنيا بناظره إذا استوت عنده الأنوار والظلم
    المعني: ماذا يستفيد الإنسان من البصر إذا تساوت عنده الأشياء واضدادها، فلم يفرق بين الغث والسمين، وبين النور والظلمة، وكأن المتنبئ يقول لسيف الدولة: يجب أن تميز بيني وبين أولئك الساقطين الذين قربتهم من مجلسك، بدعوى أنهم شعراء، كما تميز بين الأنوار والظلم.
    إذا رأيت نيوب الليث بارزة فلا تظنن أن الليث يبتسم
    المعني: إذا رأيت الأسد كشر عن أنيابه فلا تحسب ذلك منه تبسماً، لأن الأسد لا يبتسم ؛ وغنما هو بذلك يتحفز للوثوب، وكأن المتنبئ في هذا البيت قاس نفسه بالأسد ، في أنه إذا ضحك أمام الجاهل، كان ذلك منذراً بقرب الانتقام، ومؤذناً بحلول الافتراس.
    وبيننا لو رعيتم ذاك معرفة إن المعارف في أهل النهي ذمم
    المعني: قد جمعتني وإياكم رابطة الصحبة، وهي عند ذي العقول الراجحة عهد يجب الوفاء به.
    شر البلاد مكان لا صديق به وشر ما يكسب الإنسان ما يصم
    المعني: أسوأ البلاد حالاً بلد لا تجد فيه صديقاً تأنس بوده، وتسكن نفسك إلي كريم فعله، يشاطرك السراء والضراء، وأخبث الربح ما ألصق بك العار، وألحق بك البوار.
    وشر ما قنصته راحتى قنص شهب البزاة سواء فيه والرخم
    المعني: أخبث ربح ربحته في حياتي ما شاركني فيه الرفيع والوضيع، كما أن أخبث صيد ظفر به الصياد ما شاركه فيه البزاة الشهب مع رفعتها واختيارها أطيب الفريسة، والرخم مع دناءتها ووقوعها علي ما أرادأ ما يصاد .يريد المتنبئ أن ما منحه سيف الدولة من العطايا شاركه فيه أهل الغباوة والجهالة ، فليست من المنح الخاصة بنظرائه، والتحف الائقة بمثله. فشبه نفسه بشهب البزاة في الرفعة وعدم الرضى بالدون، وشبه غيره من الشعراء الساقطين بالرخم في الضعة.
    لعل عتبك محمود عواقبه وربما صحت الأجسام بالعلل
    المعني: لعل ما أحدثه الوشاة من لومك إياي محمود العاقبة، مشكور المغبة، فقد يفسد العضو الواحد بالكي، فتصلح به بقية الأعضاء النبي صلي الله عليه وسلم فالعود لا يظهر أريجه إلا بعد أن يحترق، والصديق لا تزيد محبته إلا بعد أن يفترق ، فرب لوم أفضي إلي احتفاء ، ورب علة بعثت علي تعجيل الشفاء، والبيت من قصيدة يعتذر بها إلي سيف الدولة.
    لن حلمك حلم لا تكلفه ليس التكحل في العينين كالكحل
    المعني: يقول مخاطباً سيف الدولة: إن حلمك أيها الملك العظيم حلم طبعت عليه، فلا يتكلفه غيرك من الناس، وحلم الطبع غير حلم التكلف، كما أن خس، الكحل الذي يكون خلقه في العين غير حسن الاكتحال.
    وليس يصح في الأفهام شيء إذا احتاج النهار إلي دليل
    المعني: إذا احتاج أحد إلي إقامة البرهان علي وجود النهار، وقد عم نوره الآفاق، فاحكم عليه أن ليس في ذهنه شيء صحيح من البديهات والنظريات، وقد شبه المتنبئ شعره بالمهارن فمن أنكر فضله فكأنما أنكر وجود النهار، وهذا من أجود التشبهات وأبدع الخيال، والبيت من قصيدة قالها في مجلس سيف الدولة وكان يمتحن الفرسان.
    وما كمد الحساد شيئاً قصدته ولكنه من يرحم البحر يغرق
    المعني: يقول: عن أولئك الحسدة الذين ينازعونني في فضائلي ، رجعوا من ذلك بالغل اذلي أفعم صدورهم، وقطع امعاءهم، علي أنني لم أتعمد الضرر، فكأن مثلهم في ذلك، مثل الذي يتعرض مريج غمار البحر فيغرق، وما كان قصد البحر أن يغرقه، والبيت من قصيدة يمدح فيها سيف الدولة ويذكر الفداء الذي طلبه ملك الروم.
    وإطراق طرف العين ليس بنافع إذا كان طرف القلب ليس بمطرق
    المعني: العبرة بما يلحظه القلب، لا بما تلحظه العين، فالقلب ملك الحواس، وهي مسخرات بأمره ، فلا يكون إلا ما يطلبه ، فإذا اغضت العين عن شيء ، وقد اتجه إليه القلبن فلا يحدي إغضاؤها.
    أيدري ما أرابك من يريب وهل ترقي إلي الفلك الخطوب
    المعني: أتردي تلك الآلام التي ساورتك، وهذه النازلات التي احدقت بك، بمن تحل؟! وممن تنال؟!وكيف تصل إليك الخطوب، وقد ساكنت النجوم جواراً، فكنت في المنزلة نظير فلك السماء، وهل ترقي إلي الفلك الخطوب؟! والبيت مطلع قصيدة قالها عند اشتكاء سيف الدولة من دمل.
    وما قتل الأحرار كالعفو عنهم ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا
    المعني: الحر إذا أنت عفوت عنه زلته، وصفحت عن سقطته، أثر ذلك في نفسه تاثيراً يفوق وحزات السنان، فكأنما قتلته بعفوك وطعنته بعطفك،وقلما تجمعك الأيام بحر يراعي الجميل، ويستبقي المعروف، والبيت من قصيدة يهنئ فيها سيف الدولة بعيد الأضحى.
    إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
    المعني: الكريم إن أنت أوليته منك إحساناً فقد اسرت نفسه ، وملكت قلبه، وأما اللئيم، فإن عطفت عليه، زدته تعدياً وتطاولاً، فإن إكرامك إياه يطعمه فيك، فينهال عتواً وتحملاً.
    ووضع الندي في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندي
    المعني: الحكيم من يفترس في الناس، فيعامل كلاً بما يلائم حاله من لين وشدةن يخاشن في مواضع المخاشنة،ويلاين في مواضع الملاينة، فإذا هو ع-الاية، واستعمل الإحسان في موطن الإساءة، والإساءة محل الإحسان، اضر ذلك بعلاه، وأبعده من بلوغ مناه، وطوح به مهواة لا يسعه النجاة منها.
    وأتعب من ناداك من لا تجيبه وأغيظ من عاداك من لا تشاكل
    المعني: يقول: اتعب حاسديك بمخاطبتهم إياك من ترفعت عن مجاوبته،وتنزهت عن مشافهته، واشد أعدائك عليك حنقاً من لا يماثلك في منزلك ، ولا يضارعك في درجتك، والبيت من قصيدة يمدح بها سيف الدولة عند دخول رسول ملك الروم عليه.
    علي قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي علي قدر الكرام المكارم
    المعني: تكون مطالب المرء التي يعزم عليها، والغايات التي يوطن النفس علي بلوغها، بمقدار ما بلغه من عالي الهمة وقوة الإرادة، فإن كان كبير النفس قوي العزم، كان الأمر الذي يعزم عليه عظيماً،وكذلك تكون علي قدر ذويها،فمن كان من الناس كان ما يأتيه من المكارم أعظم، والبيت مطلع قصيدة يمدح بها سيف الدولة.
    وما الحسن في وجه الفتي شرفاً له إذا لم يكن في فعله والخلائق
    المعني: يبلغ المرء الشرف والرفعة من كماله لا من جماله، ومن حسن مخبره لا من بهاء منظره، فلا يغنيه جميل الخلقة، مع قبيح الفعل والخليقة، والبيت من قصيدة يذكر فيها إيقاع سيف الدولة بقبائل العرب.
    وما بلد الإنسان غير الموافق ولا أهله الأدنون غير الاصادق
    المعني: كل بلد زكا خيره، وطاب هواؤه، ووافقك مناخه، وتوفرت لك فيه أسباب النعيمن فهو بلدك الحقيقي، وكل ناس أخلصوا لك النصيحة ، ومحضوا لك الود، فهم أهلك الأدنون ، وعشيرتك الأقربون، وفي هذا البيت حث علي التغرب عن الوطن،إذا ضاق به العيش، وساءت الحال.
    وإذا لم تجد من الناس كفواً ذات خدر أرادت الموت بعلا
    المعني: يقول: إذا لم تجد ربة العفاف، وذات الخدر والصينة من الأزواج من هو كفو لها في شرفها،ويماثلها في حبسها ونسبها، اختارت الموت لها زوجاً، فهو يتكفل بصيانتها، ويحتفظ بأثيل مجدها، وكريم حسبها، والبيت من قصيدة يعزى فيها سيف الدولة بأخته.
    وإذا الشيخ قال: أف فما مــ ـل حياة وإنما الضعف ملا
    المعني: إذا رأيت كبير السن يتضجر، فلا تظن أنه سئم الحياة، ومل العيش، وإنما هو مل الضعف والهرم، واستكبره الكبر والألم ، تلك العوامل التي تحجب عنه لذة الحياة، وحلاوة العيش، فالحياة تستحب في الشبيبة والكبر، حب الحياة طبيعة الإنسان.
    آلة العيش صحة وشباب فإذا وليا عن المرء ولى
    المعني: إذا انفرد الجبان بأرضه، وبعد عن الأقران بنفسه، طلب المنازلة والمجالدة، وأظهر الرغبة في القتال والمبارزة، حتى إذا جاءه شجاع يبارزه فر عن قرنه، ورجع إلي عادته من جبنه، والبيت من قصيدة يمدح سيف الدولة ويذكر نهوضه إلي الثغر.
    من أطاق التماس شيء غلاباً واغتصاباً لم يلتمسه سؤالا
    المعني: طبع الإنسان علي حب الغلبة والاستظهار، فإذا هو استطاع أن ينال الشيء بالاغتصاب والعنف، أبي أن يلتمسه بالسؤال والرفق، ليبين للناس أنه من ذوي الحول والطول وقد أكد هذا المعني بالبيت بعده .
    كل غاد لحاجة يتمني أن يكون الغضنفر الرئبالا
    المعني: كل ساع وراء حاجة يستفيد فيها منتهي الوسع، ويزاولها بغاية الجهد، يود لو يبلغ قوة الغضنفر الرئبال ـ وهما اسمان للأسد ـ حتى لا يكون في مقدمة الساعين، ومنقطع النظير بين الناجحين.
    الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أول وهي المحل الثاني
    المعني: الرأي له المكانة الأولي من فضائل الإنسان، وللشجاعة المكانة الثانية، فالشجاعة من غير رأي لا تجدي، وربما أودت بحياة صاحبها، لأنها تكون تهوراً صرفاً، والبيت من قصيدة يمدح بها سيف الدولة عند قدومه من بلاد الروم.
    ولربما طعن الفتي أقرانه بالرأي قبل تطاعن الأقران
    المعني: قد ينال الإنسان بعقله ما لا يستطيع ان يناله بشجاعته، وذلك انه ربما طعن الفتي نظراءه برجاحة عقله، واصالة رأيه، قبل الطعن بشفرة السيف، وحد النصال، فينصب لهم الحبائل بتدبيره ، ويحتال للإيقاع بهم والاستظهار عليهم بعقله.
    لولا العقول لكان أدني ضيغم أدني إلي شرف من الإنسان
    المعني: العقل قوة فوق القوى، ومزية دونها المزايا، لولاه لكان أقل حيوان مفترس أقرب من الإنسان إلي الشرف، واوسع منه في النفوذ والسلطان.
    وكل يري طرق الشجاعة والندى ولكن طبع النفس للنفس قائد
    المعني: الشجاعة والندى فضيلتان، لا يجهل أحد طريق الوصول إليهما، ولكن طبيعة النفس تثني عزم المرء عن الشجاعة خشية العطب، ويصده عن الجود مخافة الإملاق ، والبيت من قصيدة يمدح بها سيف الدولة.
    وعاد في طلب المتروك تاركه إنا لنغفل والأيام في الطلب
    المعني: من المتعين علي الحكيم أن يعد لحوادث الأيام عدتها، ويتأهب لدرء نازلاتها، فإذا هو غفل عن ذلك، فالأيام له بالرصد، تطالبه بما ترك، وتحاسبه علي ما فرط، هذا تفسير البيت علي انه من الحكم، أما باعتبار سياق قصيدة الرثاء بموت أخت سيف الدولة الكبرى، فمعناه أن الموت تركها، ثم عاد فأخذها.
    وما قضي أحد منها لبانته ولا انتهي أرب إلا إلي أرب
    المعني: نشأ الإنسان وقلبه مفعم بالشهوات، مزدحم بالغايات، فلا تتقضي له من الأيام حاجات، فإذا ما تمت مأربه سنحت له أخري.
    ومن تفكر في الدنيا ومهجته أقامة الفكر بين العجز والتعب
    المعني: شغف الإنسان بالدنيا ورونقها علي الكد في طلبها، وحرصه علي سلامة نفسه يثني عزمه عنها، فلا يزال بين عاملين يتناوبانه وهما : حب الحياة وحب السلامة، فالأول يحبب إليه التعب والعمل، والثاني يزين له العجز والكسل.
    إذا كنت ترضي أن تعيش بذلة فلا تستعدان الحسام اليمانيا
    المعني: إنما تحمل السيف لتدرأ به عن شرفك ومنعتك، ولتكون رفيع المقام عزيز الجانب، فإذا كنت ترضي أن تعيش ذليلاً ممتهناً، فماذا تصنع بالسف أيها الوضيع؟* والبيت من قصيدة بها كافوراً.
    فما ينفع السد الحياء من الطوى ولا تتقي حتى تكون ضواريا
    المعني: للأسد من بين الحيوانات صولة، يمتاز عنها بأنه يستحيي أن يتعرض لفريسة غيره، فياكل منها ولو بات علي الطوى، لكنه لا يغنيه حياؤه من الجوع شيئاً، إلا إذا نشط وحرج من عرينه ساعياً متصيداً حتى يسد عوزه، كذلك لا يخشي جانبه، ولا يغضي من مهابته، إلا إذا كان مفترساً ضارياً، وفي البيت حث علي السعي وعلو الهمة.
    إذا الجود لم يرزق خلاصاً من الأذى فلا الحمد مكسوباً ولا المال باقياً
    المعني: الجود والمال ذريعة إلي الحمد، والامتنان به أذى يستوجب الذم ، فإذا لم يكن الجود من المن خالصاً، ضاع المال من غير أن يكتسب المرء حمداً، ولم يتخذ علي الجود أجراً.
    وللنفس أخلاق تدل علي الفتى أكان سخاء ما أتي أم تساخيا
    المعني: قد يتكلف الإنسان من الفعال ما ليس من طبعه، فيجود وطبعه البخل، ويتشجع وعادته الجبن، ولكن الخصال إذا تكررت فتباينت، والسجايا إذا تتابعت فتغايرت، انكشف النقاب عن حقيقة ما يأتيه؛ عن كان طبعاً أو تطبعاً، فسرعان ما تتغير الفعال المتكلفة النبي صلي الله عليه وسلم فهي اشد انقلاباً من الريح الهبوب.
    فما الحداثة من حلم بمانعة قد يوجد الحلم في الشبان والشيب
    المعني: صغر السن لا يمنع من أن يكون الإنسان حليماً ، فقد نجد الشاب يستعمل الأناة والحلم، كما يفعل الشيخ، نعم ، وإن كان للشاب نزق وخفة، فليس ذلك أمراً مطرداً، فلكل قاعدة شذوذ والبيت من قصيدة يمدح بها سيف الدولة.
    وما الصارم الهندي إلا كغيره إذا لم يفارقه النجاد وغمده
    المعني: الشيء لا يظهر فضله علي غيره إلا بالتجربة، وكذلك السيف القاطع ما دام في غمدة فلا يفضل السيف المسلول، وإنما يعرف مضاؤه إذا استل من جفنه، وحصل به الطعن ، وقد شبه المتنبئ نفسه بالصارم، حيث جهل الناس فضله، فلم يدركوا الفرق بينه وبين غيره، والبيت من قصيدة يمدح بها كافوراً.
    إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه وصدق ما يعتاده من توهم
    المعني: المرء إذا لؤم طبعه، وساءت فعاله، ساءت لذلك ظنونه بالناس، فيتوهم السوء في كل شيء يراه أو يسمعه ، فكل حركة تقع أمامه من أحد يتوههمها شراً له، وإيقاعاً به، لأنه كثير المساوئ، فهو دائماً يوجس في نفسه خيفة، ويرقب شراً، والبيت من قصيدة يمدح بها كافوراً.
    وأحلم عن خلي وأعلم أنه متى أجزه حلماً علي الجهل يندم
    المعني: إذا فعل الصديق ما لا يليق ، صفحت عنه حلماً،لاعتقادي أن مجازاته بالحلم خير؛ لأنه يبعث في نفسه الندم علي ما فرط منه، فيرعوي عن غيه، ويثوب إلي رشده، ويبادر إلي معتذراً سمعياً مطيعاً، ويعلم أنني نعم الصديق.
    لمن تطلب الدنيا إذا لم ترد بها سرور محب أو إساءة مجرم
    المعني: إنما يسعى الإنسان وراء متاع الحياة من جمع المال، واعتلاء المناصب، ابتغاء سرور المحب ومعونته، أو إساءة العدو ونكايته.
    إنما تنجح المقالة في المر ء إذا صادقت هوى في الفؤاد
    المعني: إنما يبلغ القول النجاح ويفضي غلي المقصود منه إذا وافق هوى في القلب، وميلاً في النفس وإلا فهو صرخة في واد، ونفخة في رماد، والبيت من قصيدة ينفي بها عن ابن الإخشيد الميل إلي ما يقوله الوشاة.
    وكل امرئ يولي الجميل محبب وكل مكان ينبت العز طيب
    المعني: كل امرئ تعود فعل الجميل وإسداء الخير، وبسط الكف محبب غلي الناس، يستميل نفوسهم بإحسانه، ويستعطف قلوبهم بكرمه ، وكذلك كل مكان يجد فيه المرء الترف والعز، فهو المكان الطيب، والبيت من قصيدة يمدح بها كافوراً.
    ولو جاز أن يحووا علاك وهبتها ولكن من الأشياء ما ليس يوهب
    المعني: يقول: إنك قد بلغت من المعالي غاية لا تدرك، ومن الجود شأواً لا يلحق ، ولو كانت علاك مما يوهب لوهبتها، ولكن من الأشياء مالا يسوغ هبته كالمجد والعلا.
    ما كل ما يتمنى المرء يدركه تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
    المعني: أماني المرء شتى، وما كل ما يتمناه يدركه، فقد يتهيأ المرء للشيء ويعد له عدته، فتعترض له عقبات تصده عن إدراكه، وذلك كربان السفية يتوجه بها طريقاً في اليم، فتطوح بها الرياح إلي غير ما قصد، والبيت من قصيدة قالها عندما بلغه أن قوماً نعوه في مجلس سيف الدولة بخلب وهو بمصر.
    غير أن لفتي يلاقي المنايا كالحات ولا يلاقي الهوانا
    المعني: سهل علي نفس الحر أن يتجرع كاس الحمام، ولا يذوق كعم الهوان، فالموت ألم الساعة، والهوان آلام تتري، من قصيدة يمدح بها كافوراً.
    وإذا لم يكن من الموت بد فمن العجز أن تكون جباناً
    (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ)، فالجبان لا ينفعه الفرار، والشجاع لا يضره الإقدام النبي صلي الله عليه وسلم والعاجز من إذا ساورته مهمة الخطر وقدم الحذر.
    ومن هاب أسباب المنية يلقها ولورام أسباب السماء بسلم
    كل ما لم يكن من الصعب في الأنـ ـفس سهل فيها إذا هو كانا
    المعني: يقول: الأمر الشديد إنما يصعب علي النفس قبل وقوعه، فإذا وقع سهل.
    لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتال
    المعني: في الجود والإقدام سيادة الإنسان،ولولا ما يجده من مشقة علي النفس من جرائهما لرأيت الناس كلهم سادة، فالجود يشق علي النفس مخافة الفقر، والإقدام يعز عليها فراراً من القتل، وإن للسيادة قوماً خاطروا من أجلها بالنفوس، وبذلوا أنفس الذخائر ، وقليل ما هم ، والبيت من قصيدة يمدح بها أبا شجاع فاتكاً.
    ولم أر في عيوب الناس شيئاً كنقص القادرين علي التمام
    المعني: لا عيب في الناس أبلغ من عيب من استطاع أن يكون كاملاً في الفضل، والنبل لم يفعل، إذا لا عذر له في ترك أسباب الكمال وفي وسعة تحصيلها، وأنه الأولي بالعيب من الناقص الذي لا يقدر علي الكمال.
    وللسر منى موضع لا يناله نديم ولا يفضي إليه شراب
    المعني: مكان السر من نفسي بحيث لا يبلغ حقيقته الصديق، ولا يدب إليه دبيب الشراب مع تغلغله في البدن، فللسر عندي مكان حزيز، وموضع حصين، واليت من قصيدة يمدح به كافوراً.
    أعز مكان في الدنى سرج سابح وخير جليس في الزمان كتاب
    المعني: أفضل مكان يري فيه الإنسان عزة وسؤدده ظهر السابح، وخير جليس لا يشقي به المرء الكتاب، وذلك أن الفرس مطية الشجاع ورفيق النشيط، وتبلغ عليه ما تريد من نحو التجول في الأرجاء ، ومبارزة الأعداء ، أما الكتاب ، فيقص عليك من أنباء ما قد سبق، ويتحفك بما فيه الكفاية، وينتهج بك سبيل الهداية.
    ومن جهلت نفســـه قدره رأي غيره منه ما لا يري
    المعني: من لم يعرف لنفسه حقها فأتبعها هواها استرسلت مع الشهوات، وغررت به فيما لا تحمد عقباه، وزينت له السوء، فيستحسن من خصاله ما يستقبحه الناس من أمثاله، والبيت من قصيدة يذكر فيها خروجه من مصر.
    أين الذي الهرمان من بنيانه ما قومه ما يومه ما المصرع
    المعني: يقول: أين ذلك الملك المعظم الذي شاد الهرمين الكبيرين والبناءين الشامخين، أقامهما شاهدين بأثيل مجده، ونادر قدرتهن شاب الزمان وهما شابان، ودرست معالم بانيهما، وهما قائمان، وغيبته بطن الأرض، وهما ظاهران، أين قومه علي كثرة عددهم وعددهم، عفت آثارهم، وذهبت رسومهم، وفي هذا البيت تنبيه علي أن كل حي هالك لا محالة، ولا سبيل إلي البقاء ، من قصيدة يرثي بها أبا شجاع.
    تتخلف الآثار عن أصحابها حيناً ويدركها الفناء فتتبع
    المعني: يقول: تبقي آثار المرء بعده حيناً من الدهر لتدل علي بديع صنعه، وواسع علمه، وفرط ذكائه، وغزير فضله، ثم يصيبها بعد ذلك ما أصابه من الفناء، فتذهب تلك الآثار كأن لم تغن بالأمس ، تلك طبيعة الحياة وتصاريفها.
    ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة بين الرجال ولو كانوا ذوي رحم
    المعني: ترك الإنصاف داعية القطيعة، ومجلبة الشقاق بين الناس، وإن كان بينهم صلة رحم، وجامعة قرابة.
    إذا أتت لم تنصف أخاك وجدته علي طرف الهجران إن كان يعقل
    والبيت من قصيدة يرثي بها فاتكاً.
    ذريتي أنل ما لا ينال من العلى فصعب العلي في الصعب والسهل في السهل
    المعني: يخاطب نفسه التي تلومه علي ركوب الأهوال، يقول: اتركيني أيتها النفس أنل من المعالي ما لم ينله غيري مما تكل دونه الهمم، فما كان منها سهلاً قريب التناول فلا يتطلب تعباً، وما كان منها صعباً بعيد المنال فلا يكون إلا بمزوالة صعاب الأعمال، وركوب غمارها، والبيت من قصيدة يمدح بها أبا الفوارس.
    تريدين لقيان المعالي رخيصة ولابد دون الشهد من إبر النحل
    المعني: يقول: أتريدين أيتها النفس نيل العلي عفواً بلا تعب، وهي كالشهد الذي لا يجنيه مشتاره إلا بعد أن يلاقي وخزات إبر النحل، فكأنك تنزعين غلي طلب المستحيل وإدراك ما لا يكون.

  5. #5
    الصورة الرمزية عبدالملك الخديدي شاعر
    تاريخ التسجيل : Feb 2006
    الدولة : السعودية
    المشاركات : 3,954
    المواضيع : 158
    الردود : 3954
    المعدل اليومي : 0.60

    افتراضي

    عرض وتحليل
    إذا قيل رفقاً قال للحلم موضع وحلم الفتى في غير موضعه جهل
    أي أنه إذا أمر بالرفق بالأقران ، وقيل له أرفق رفقاً، قال: موضع الحلم غير الحرب، يعني: أن الرفق والحلم يستعملان في السلم، وأما الحرب فلا رفق فيها بالأقران، والحليم فيها جاهل كواضع الشيء في غير موضعه، وقد أكثر الناس في هذا المعني ومن اشهر ما فيه قول الفند الزماني:
    وبعض الحلم عند الجهل للذلة إذعان
    وقول سالم بن وابصة:
    إن من الحلم ذلا أنت عارفه والحلم عن قدرة فضل من الكرم
    وقال الخزيمي:
    أرى الحلم في بعض المواضع ذلة وفي بعضها عزاً يسود صاحبه
    وقال الأعور الشني:
    خذ العفو واغفر أيها المرء إنني أري الحلم ما لم تخش منقصة غنما
    وقد ذكره أبو الطيب وقال: من الحلم أن تستعمل الجهل دونهن وقال: كل حلم أتي بغير اقتدار ، البيت قال: إني اصاحب حلمي وهو بي كرم، البيت.
    أهون بطول الثواء والتلف والسجن والقيد يا ابا دلف
    غير اختيار قبلت برك بي والجوع يرضي الأسود بالجيف
    يقول : قبلته لا اختياراً، كالأسد يرضى بأكل الجيف إذا لم يجد غيرها لحماً، وهذا من وقل المهبلي:
    ما كنت إلا كلحم ميت دعا إلي أكله اضطرار
    ومثله لدعبل الحزاعي:
    لعمر أبيك ما نسب المعلي إلي كرم وفي الدنيا كريم
    ولكن البلاد إذا أقشعرت وصوح نبتها رعي الهشيم
    ومثله قول الآخر:
    فلا تحمدوني في الزيارة إنني أزوركم إذ لا أري متعللا
    وأبو دلف هذا كان صديق المتنبئ ، بره وهو في سجن الوالي الذي كتب إليه:
    أيا خدد الله ورد الخدود وقد قدود الحسان القدود
    يقول المتنبئ:
    وحفيف أجنحة الملائك حوله وعيون أهل الاذقية صور
    يقال في جمع الملك الملائكة والملائك جمع علي غير قياس قال حسان:
    بأيدي رجال هاجروا نحو ربهم وأنصاره حقاً وأيدي الملائك
    وصور جمع اصور، وهو المائل يقال: صاره يصوره إذا أماله وصور يصور إذا صار مائلاً، ومنه قول الشاعر:
    الله يعلم أنا في تلفتنا يوم الوداع إلي أحبابنا صور
    يقول: أحاطت بنعشه ملائكة السماء، حتى سمع لأجنحتهم حفيف، وعيون أهل بلده مائلة إليه إما لأنهم يحبونه، فلا يصرفون عيونهم عنه، شوقاً غليه وحزناً عليه ، وإما لأنهم يسمعون حس الملائكة، فيليمون نحو الحس الذي يسمعون.
    كفل الثناء له برد حياته لما انطوى فكأنه منشور
    يقال: انشر الله الميت ومنه قوله تعالي: (ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ) (عبس:22)، ويقال أيضاً نشره، ، يقول : ثناء الناس عليه وذكرهم إياه بعده كفيل برد حياته؛ لأن من بقي ذكره فكأنه لم يمت وهذا من قول الحاردة:
    فاثنوا علينا لا أباً لأبيكم بإحساننا إن الثناء هو الخلد
    وقال التميمي أيضاً:
    ردت صنائعه إليه حياته فكأنه من نشرها منشور
    وقال ـ أيضاً ـ الطائي:
    سلفوا يرون الذكر عيشاً ثانياً ومضوا يعدون الثناء خلوداً
    ***
    سيحيي بك السمار ما لاح كوكب ويحدو بك السفار ما ذر شارق
    أي يخيون الليل بذكرك وحديثك ، والمسافرون يغنون بمدائحك فيحدون الإبل بها ، وقوله: ما لاح كوكب وما ذر شارق من ألفاظ التأبيد، والمعني أبداً ، أي أنت أبداً تذكر في الأسفار، ويحدى بمدائحك في الأسفار ، هذا هو الظاهر، وقوم يقولون: ما لاح كوكب أي ما بقي من الليل شيء، وما ذر شارق ما بقي من النهار شيء تري فيه الشمس، وبهذا قال ابن جني أي يسيرون إليك نهاراً فينشدون مديحك، وإذا جاء الليل سمروا بذكرك، والقول هو الأول؛ لأن الحداء لا يختص بالنهار بل يكون بالليل في أكثر الأمر وغالب العادة.
    إذا بدا حجيت عينيك هيبته وليس يحجبه ستر إذا احتجبا
    يريد أنه شديد الهيبة إذا ظهر للرائين حجبت عيونهم عن النظر إليه كما قال الفرزدق:
    يغضي حياء ويغضى من مهابته فما يكلم إلا حين يبتسم
    وقال أيضاً:
    وإذا الرجال رأوا يزيد رايتهم خضع الرقاب نوا-الأبصار
    وقال أبو نواس:
    إن العيون حجبن عنك بهيبة فإذا بدوت لهن ن-ناظر
    وقوله:
    ليس يحجبــــــه ستر
    يريد أن نور وجهه يغلب الستور فيلوح من ورائها كما قال:
    أصبحت تأمر بالحجاب لخلوة هيهات لست علي الحجاب بقادر
    وذكر ابن جني تأويلين آخرين، أحدهما، أن حجابه قريب لما فيه من التواضع فليس يقصر أحد أراده دونه وإن كان محتجباً ، والآخر انه وإن أحتجب فليس بمحتجب لشدة تيقظه ومراعاته للأمور.
    ونذيمهم وبهم عرفنا فضله وبضدها تتبين الأشياء
    يقول نعيب اللئام، وفضله غنما يعرف بهم؛ لن الأشياء إنما تتبين بأضداها ، فلو كان الناس كلهم كراماً مثله لم نعرف فضله، وقال ابن جني: وهذا كقول المنبجي:
    فالوجه مثل الصبح مبيض والشعر مثل الليل مسود
    ضدان لما استجمعا حسنا والضد يظهر حسنه الضد
    وقال هذا البيت مدخول معيوب: لأنه ليس كل ضدين إذا اجتمعا حسنا، ألا ترى أن الحسن إذا قرن بالقبيح بان حسن الحسن وقبح القبيح، وبيت المتنبئ سليم؛ لن الأشياء باضدادها يصح أمرها. انتهي كلامه وقد أكثر الشعراء في هذا المعني قال أبو تمام:
    وليس يعرف طيب الوصل صاحبه حتى يصاب بنأي أو بهجران
    وقال أيضاً:
    والحادثات وإن أصابك بؤسها فهو الذي أنباك كيف نعيمها
    وقال أيضاً:
    سمجت ونبهنا علي استسماجها ما حولها من نضرة وجمال
    وكذاك لم تفرط كآبة عاطل حتى يجاورها الزمان بحالي
    وقال البحتري أيضا:
    قد زادها إفراط حسن جوارها خلائق أصفار من المجد خيب
    وحسن دراري الكواكب أن ترى طوالع في داج من الليل غيهب
    وقد ملح بشار في قوله:
    وكان جوارحي الحي إذ كنت فيهم قباحاً فلما غبت صرن ملاحا
    وأبو الطيب صرح بالمعني، وبين أن مجاورة المضادة هي التي تثبت حسن الشيء وقبحه ثم أخفاه في موضع آخر فقال:
    ولولا أيادي الدهر في الجمع بيننا غفلنا نشعر له بذنــــوب
    ******
    متفرق الطمعين مجتمع القوى فكأنه السراء والضـــــراء
    يقول: فيه حلاوة لأوليائه ومرارة لأعدائه، وهو مع ذلك إنسان واحد، قواه مجتمعة غير متباينة، وأول هذا المعني للبيد:
    ممقر مر علي أعدائه وعلي الأدنين حلو كالعسل
    ثم تبعه الآخرون فقال المسيب بن علس:
    هم الربيع علي من ضاف أرحلهم وفي العدو مناكيد مشائيم
    وقال علاقة بن عركي:
    وكنتم قديماً في الحروب وغيرها ميامين في الأدنى لأعدائكم نكد
    وقال كعب بن الأجذم:
    بنو رافع قوم مشائيم للعدى ميامن للمولى وللمتجرم
    وقال النابغة الجعدي:
    فتي تم فيه ما يسر صديقه علي أن فيه ما يسوء الأعاديا
    قال ابن فورجة: مجتمع القوى يعني قوي العزائم والآراء، وأنكر القول الأول وهو قول ابن جني .أ.هـ .
    أعدي الزمان سخاؤه فسخا به ولقد يكون به الزمان بخيلا
    قال ابن جني: أي تعلم الزمان من سخائه فسخا به، وأخرجه من العدم إلي الوجود، ولو لاسخاؤه الذي أفاد منه، لبخل به علي أهل الدنيا، واستبقاه لنفسهن قال ابن فورجة:هذا تأويل فاسد، وغرض بعيد والسخاء بغير الموجود لا يوصف بالعدوى، وإنما يعني سخا به علي وكان بخيلاً به، فلما أعداه سخاؤه اسعدني الزمان بضمي إليه وهدايتي نحوه، هذا كلامه، والمصراع الأول مقول من قول ابن الخياط:
    لمست بكفي أبتغي الغني ولم أدر أن الجود من كفه يعدي
    فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغني أفدت وأعدائي فأتلفت ما عندي
    وقال الطائي أيضاً:
    علمني جودك السماح فما أبقيت شيئاً لدي من صلتك
    وقال أيضاً:
    لست يحيي مصافحاً بسلام أنني إن فعلت أتلفت مالي
    وأبو الطيب نقل المعني إلي الزمان ، والمصراع من قول أبي تمام:
    هيهات أن يأتي الزمان بمثله إن الزمان بمثله لبخيل
    الحب ما منع الكلام الألسنا وألذ شكوى عشق ما أعلنا
    روي الألسنا بفتح السين ويكون علي هذه الرواية بمعني الذي يقول : غاية الحب ما منع لسان صاحبه من الكلام، فلم يقدر علي وصف ما في قلبه منه كما قال المجنون:
    ولما شكوت الحب قالت كذبتني فمالي أري الأعضاء منك كواسيا
    فما الحب حتى يلصق الجلد بالحشا وتخرس حتى لا تجيب المناديا
    وكما قال قيس بن ذريح:
    وما هو إلا أن أراها فجاءة فأبهت حتى ما أكاد أجيب
    ويجوز أيضاً أن يكون ما بمعني الذي علي رواية من روي الألسنا بضم السين ، والظاهر أن ما نافية؛ لأن المصراع الثاني حث علي إعلان العشق وإنما يعلن من قدر علي الكلام وكما يقول الموصلي:
    فبح باسم من تهوي ودعني من الكني فلا خير في اللذات من دونها ستر
    ويقول السري الرفاء:
    ظهر الهوى وتهتكت أستاره والحب خير سبيله إظهاره
    أعصي العواذل في هواه جهارة فألذ عيش المستهام جهاره
    *****
    وإذا أتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة لي بأني كامل
    يقول : إذا ذمني ناقص كان ذمه دليل كمالي وفضلي؛ لأن لناقص لا يحب الكامل الفاضل لما بينهما من التفاضل ، وهذا من قول أبي تمام:
    لقد أسف الأعداء فضل ابن يوسف وذو النقص في الدنيا بذي الفضل مولع
    واخذه هو من قول مروان بن أبي حفصة:
    ما ضرني حسد اللئام ولم يزل ذو الفضل يحسده ذوو التقصير
    وأصل هذا من وقل الأول:
    لقد زادني حباً لنفسي أنني بغيض إلي كل امرئ غير طائل
    وأني شقي باللئام ولا أري شقياً بهم إلا كريم الشمائل
    ****
    أبدو فيسجد من بالسوء يذكرني ولا أعاتبه صفحاً وإهوانا
    يقول : من يذكرني بالسوء في غيبتي إذا ظهرت له عظمني، وخضع لي، وأنا أعرض عن عتابه إهانة له، وإنما قال إهوانا لأنه أخرجه علي الأصل ضرورة كما قال الآخر:
    صددت فأطولت الصدود وقلما وصال علي طول الصدود يوم
    يريد فأطلت فجاء به علي الأصل.
    وهكذا كنت في أهلي وفي وطني إن النفيس غريب حيثما كانا
    يقول : كنت وأنا في وطني وفيما بين أهلي غريب ، قليل الموافق والمساعد، ثم قال: وكذلك الرجل النفيس العزيز، غريب حيث كان، كما قال أبو تمام:
    غربته العلى علي كثرة الأهــ ـل فاضحي في الأقربين جنيباً
    فليطل عمره فلو مات في مر ومقيما بهما لمـــات غريباً
    محسد الفضل مكذوب علي أثري ألقي الكمي ويلقاني إذا حانا
    قوله مكذوب عي أثري من قول البرح التغلبي:
    يغتاب عرضـــي خاليا وإذا تلاقينــــا اقشعرا
    ومن قول سويد بن أبي كاهل:
    ويحييني إذا لاقيتــه وإذا يخلـــو له لحمي رتع
    وتقدير الكلام مكذوب علي أثري، أي يكذب علي إذا قمت وخرجت من مشهد ومجمع، والشجاع إذا حان حينه لقيني في المعركة.
    *****
    وأحسب أني لو هويت فراقكم لفارقته والدهر أخبث صاحب
    يريد أن الدهر يخالفه في كل ما أراد، حتى لو أحب فراقهم لواصلوه ، وكان من حقه أن يقول لفارقتني؛ لأن قوله لفارقته فعل نفسه وهو يشكو الدهر، ولا يشكو فعل نفسه، ولكنه قلبه لأن من فارقك قد فارقته فهذا من باب القلب وإنما قال أخبث صاحب، وكان من حقه أن يقول أخبث الأصحاب؛ لأنه أراد اخبث من يصحب ، وما كان اسم فاعل في مثل هذا يجوز فيه الإفراد والجمع، قال الله تعالي: ( وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ )(البقرة: الآية41). يعني لا تكونوا أو من يكف به وأنشد الفراء:
    وإذا هم طعموا فألأم طاعم وإذا هم جاعوا فنش جياع
    فأتي بالأمرين جميعاً، وأشار أبو الطيب إلي أن من أهواه ينأى عني، ومن أبغضه يقرب منى لسوء صحبة الدهر إياي، كما قال لطف الله بن المعافي:
    أري ما أشتهيه يفر مني وما لا أشتهيه إلي يأتي
    ومن أهواه يبغضني عناداً ومن أشناه يشب في لهاتي
    كأن الدهر يطلبني بثأر فليس يسره إلا وفاتي
    ****
    ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
    ذو العقل يشقي في النعيم وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
    يريد أن العاقل يشقى وإن كان في نعمة لتفكره في عاقبة أمره، وعلمه بتحول الأحوال، والجاهل ينعم وهو في الشقاوة لغفلته، وقلة تفكره في العواقب وقد قال البحتري:
    أري الحلم بؤسا في المعيشة للفتي ولا عيش إلا ما حباك به الجهل
    وقال أبو نصر بن نباته:
    من لي بعيش الأغبياء فإنه لا عيش إلا عيش من لم يعلم
    وسابق هذه الحلبة بن المعتز في قوله:
    وحلاوة الدنيا لجاهلهــــا ومرارة الدنيا لمن عقلا
    وأحسن ابن ميكال في قوله:
    العقل عن درك المطالب عقلة عجباً لأمر العاقل المعقول
    وأخو الدراية والنباهة متعب والعيش عيش الجاهل المجهول
    وقد قال القدماء: ثمرة الدنيا السرور، وما سر عاقل قط؛ يراد بتفكره في العواقب وتخوفه إياها.
    المتنبئ في المحكمة الشرعية
    ما عليه:
    1- فمن ذلك أنه شبه حلاوة رشفات محبوباته لفمه بحلاوة التوحيد بقوله:
    يترشفن من فمي رشفات هن فيه أحلي من التوحيد
    وهذا البيت يدل علي رقة دين المتنبئ ، الذي تساوى عنده التوحيد الذي هو أساس الأعمال ، برشفات محبوباته، فهو قول ( كفري) لا يقيم وزناً لدين الله ، بل يسخر منه، وينزله إي أسفل المنازل عندما يشبهه بهذه المعصية التي وقع فيها.
    وقد حاول بعض المتعصبين لأبي الطيب توجيه هذا البيت الذي يشهد بقلة دينه توجيهاً آخر ، فقالوا: بأن التوحيد هو نوع من التمور التي توجد في العراق!!
    وبعضهم اعترف بأن المراد من وقله (( التوحيد )) هو توحيد الله!، ولكنه تمحل في تخريج هذا القول بادعاء أن الدين لا يحكم علي الشعر!، وأنه يجوز للشاعر ملا يجوز لغيره من أنواع التجاوزات!
    يقول القاضي الجرجاني متنبياً هذا الرأي الشاذ (1) في كتابه (( الوساطة بين المتنبي وخصومه )):
    ( والعجب ممن ينقص أبا الطيب، ويغض من شعره لأبيات وجدها تدل علي ضعف العقيدة، وفساد في الديانة .كقوله:
    يترشفن من فمي رشفات هن فيه أحلي من التوحيد
    وقوله(3):
    وابهر آيات التهامي أنه أبوك وأجدى ما لكم من مناقب
    وهو يحتمل لأبي نواس قوله:
    قلت والكأس علي كــــ ــفي تهوي لا التثامي
    أنا لا أعرف ذاك الــــ ــيوم في ذاك الزحام
    وقوله (4):
    يا عاذلي في الدهر ذا هجر لا قدر صح ولا جبر
    ما صح عندي من جميع الذي يذكر إلا الموت والقبر
    فاشرب علي الدهر وأيامه فإنما يهلكنا الدهــر
    وقوله (1):
    عاذلتني بالسفاة والزجر استمعي ما أبث من أمري
    باح لسانس بمضمر السر وذاك أني أقول بالدهــر
    بين رياض السرور لي شيع كافرة بالحساب والحشر
    موقنة بالممات جاحــــدة لما رووه من ضغطة القبر
    وليس بعد الممات منقلـــب وإنما الموت بيضة العقر
    وقوله:
    أأترك لذة الصهباء نقداً لما وعدوه من لبن وخمر
    حياة ثم موت ثم بعث حديث خرافة يا أم عمرو
    وقد روي أنهما لديك الجن.
    وقوله(3):
    فدع الملام فقد أطعت غوايتي ونبذت موعظتي وراء جداري
    ورأيت إيثار اللذاذة والهوي وتمتعاً من طيب هذي الدار
    أحري وأحزم من تنظر آجل ظني به رجم من الأخبار
    إني بعاجل ما ترين موكل وسواه إرجاف من الآثار
    ما جاءنا أحد يخبر أنه في الجنة مذ مات أو في النار
    فلو كانت الديانة عاراً علي الشعر، وكان سوء الاعتقاد سببا لتأخر الشاعر، لوجب أن يمحي اسم أبي نواس من الدواوين ، ويحذف ذكره إذا عدت الطبقات، ولكان أولاهم بذلك أهل الجاهلية، ومن تشهد الأمة عليه بالكفر، ولوجب أن يكون كعب بن زهير وابن الزبعرى وأضرابهما ممن تناول الرسول صلي الله عليه وسلم وعاب من أصحابه بكماً وخرساً وبكاء (1) مفحمين؛ ولكن الأمرين متباينان، والدين بمعزل عن الشعر) (2).
    قلت : كيف يكون الدين بمعزل عن الشعر ، والله عز وجل قد سمي إحدى سور القرآن بسورة ( الشعراء)، فهل هذا إلا لأجل بيان شمول الإسلام وأحكامه للشعراء وأقوالهم؟ وقد قال سبحانه: )مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (قّ:18) وقال صلي الله عليه وسلم : (( إن الله قد عفا لأمتي الخطأ والنسيان وكلام غائب العقل)).


    يتبــــع

  6. #6
    الصورة الرمزية عبدالملك الخديدي شاعر
    تاريخ التسجيل : Feb 2006
    الدولة : السعودية
    المشاركات : 3,954
    المواضيع : 158
    الردود : 3954
    المعدل اليومي : 0.60

    افتراضي

    ومسألة ( علاقة الدين بالشعر) هي مسألة طال فيها الكلام وتشعب، ما بين مؤيد ومعارض، منذ أن بد الشعراء يمارسون تجاوزاتهم الشرعية في أبياتهم الشعرية خائضين في ألوان من الردة والمعصية.
    عندما هب أهل الإسلام معنفين لهم، وزاجرين عن ركوب هذا الشطط، ومفارقة الإيمان وأهله، وقابلهم أناس لم يقدروا الله حق قدره، ولم يعطوا شرعه، نصبوا أنفسهم للدفاع عن تكلم التجاوزات وتبريرها، ثم مفترين مقولة: إن الدين لا علاقة له بالشعر (1).
    قال الدكتور ناصر الخنين ملخصاً لقول الصواب في هذه القضية (2):
    ( وهذا الكلام مجمل ينبغي توضيحه وتخصيصه ؛ فهناك فرق كبير بين أن يقول شاعر مسلم شعراً حسناً لا يحمل معني الكفر، ولا يقود إلي الإلحاد، بل قد يكون فيه خير، أو دعوة إليه، فهذا الأخير لا ضير فيه، ولا خوف في قبول حسنه واستحسانه، وسماعه واستنشاده ، ولنا في رسول الله صلي الله عليه وسلم أسوة حسنه، وذلك حينما استنشد أشعار أمية ب أبي الصلت وسمعها.
    أما الصنف الأول: وهو الأشعار الصادرة عن الملم، فإن إسلام الشاعر لا يشفع لأشعاره جميعاً بأن تكون مسلمة، لا شيه فيها، أو مستحقة للاستماع ، إنما الذي يستحق ذلك ويفوز به أعاره الحسنة المستطابة، التي انطلقت من الإسلام واستنارت به، ولم تصادمه أو تناقضة، فهي بلا ريب مقدمة علي أمثالها من أشعار الكفار، وذلك لمزية إسلام قائلها، ولصدق معانية ، ووضوح تصوره في غالب أحواله؛ لأنه قد استمد هذا الوضوح وذلك الصدق من الإسلام ذاته، لا من خواطره وأهوائه ، ولذلك فإن أثرها علي المسلمين حينما يسمعونها أو يقرؤونها أعظم وأبلغ.
    وبذلك يتبين: أن الأشعار الصادرة عن المسلم وفيها كفر، أو سخرية بشيء من شعائر الدين، لا تستحق الاستماع من المسلمين ، بل إن نفوسهم تتغلق دونها، وقلوبهم تنقبض منها، فينقص قدرها، ولا يكون لها نصيب من العناية، وإن تكن في الذروة الفنية من حيث الصياغة الشعرية.
    ولهذا فقد اختلف العلماء في إقامة الحد علي الشاعر المسلم فيما لو جاء في شعره بما يوجب الحد الشرعي.
    ولا مرية في أن الأشعار التي تحمل الخبث والفسق يبوء صاحبها بها، وتحور عليه، ولكن لا ينبغي تمكينه هو أو غيره من إشاعة أشعار الفسق والمجون في أوساط المسلمين، وحتى لا ييشككهم في دينهم، أو يفسد عليهم أبناءهم أو ينال منهم).
    وقال : - حفظه الله- (1):
    ( ولو كان الشعر ضرباً من الخيال أو نوعاً من العبث اللفظي الذي لا يلقي له بال، ولا يحمل معني ولا يؤدي إليه، ولا يؤاخذ صاحبه عليه لما أعر الرسول عليه أفضل الصلاة والتسليم، اهتمامه إلي شعراء قريش، ولما ألقي لأشعارهم بالاً، حينما هجوه وعابوا عليه دعوته، ولكن الأمر في ذلك مختلف؛ فقد أهدر دم الذين هجوه ، وأمر شعراءه بالرد عليهم والنيل منهم جزاءً وفاقا.
    وهل الدين: إلا أوامر وزاوجر؟ فكيف يقال بعد ذلك كله: ( إن الدين بمعزل عن الشعر؟). اللهم إلا إذا كان لدى قائل ذلك، أو من يسلم بمذهبه، تأويل سائغ لكل ما تقدم، ويعضده الدليل ويشفع له التعليل، فإذا لم يكن ثم شيء من ذلك فقد بطلت تلك النتيجة وسقط ذلك الزعم ، بفساد مقدماته وانعدام بيناته).
    وأقول بعد هذا : إن بيت المتنبئ :
    يترشفن من فمي رشفات هن فيه أحلى من التوحيد
    هو من الأبيات التي عابه العلماء والنقاد الذين يعلمون خطورة الدفاع عن من يحاد الله في شعره، متذكرين قوله تعالي: )هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) (النساء:109)
    وقال التوحيدي في شرحه لهذا البيت:
    ( يقول: كن يمصصن ريقي لحبهن إياي، كانت تلك الرشفات أحلي في فمي من كلمة التوحيد؛ وهي لا إله إلا الله ، وهذا إفراط وتجاوز حد).
    وقال ابن رشيق في (( العمدة)).
    ( فإذا صرت إلي أبي الطيب صرت إلي أكثر الناس غلواً، وأبعدهم فيه همة، حتى لو قدر ما أخلي منه بيتاً واحداً، وحتى تبلغ به الحال إلي ما هو عنه غني، وله في غيره منوحة ، كقوله:
    يترشفن من فمي رشفات هن فيه أحلي من التوحيد
    وقال ابن القيم – رحمه الله-:
    ( فتأمل حال أكثر عشاق الصور تجدها مطابقة لذلك، ثم ضع حالهم في كفه، وتوحيدهم وإيمانهم في كفة، ثم زن وزناً يرضي الله به ورسوله، ويطابق العدل، وربما صرح العاشق منهم بأن وصل معشوقه أحب إليه من وحيد ربه كما قال الفاسق الخبيث:
    يترشفن من فمي رشفات هن فيه أحلي من التوحيد
    2- ومن ذلك قوله (2):
    كل شيء من الدماء حرام شربه ما خلا دم العنقود
    فاسقينها فدى لعينيك نفسي من غزال وطارفي وتليدي
    فهو هنا يحلل شرب الخمر التي يسميها ( دم العنقود) وهذا من التقول علي الله بلا علم، بل هو تحليل لما حرم الله ، واعتراض علي حكمه تعالي.
    وتحريم الخمر ليس مما يجهل، فهي محرمة بنص الكتاب ، وذلك في قوله تعالي: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) (المائدة:91) .
    وتحليل الذي علم تحريمه بالضرورة من الدين ، هو من الأعمال ( الكفرية) التي هوى صاحبها في حفرة سحيقة، قادته إليها نفسه المتعالية المتكبرة علي شرع الله وأوامره.
    3- ومن ذلك قوله (2):
    أبداً أقطع البلاد ونجمي في نحوس وهمتي في سعود
    فهو هنا يؤمن بالنجوم، وأن لها تأثيراً في أقدار الشر، وهذا من الضلال المبين ، وقد قال صلي الله عليه وسلم :(( من اقتبس علماً من النجوم اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد)) (3).
    والعجب أن المتنبئ ق ناقض قوله هذا في شعر آخر له يقول فيه (4):
    فتباً لدين عبيد النجوم ومن يدعي أنها تعقــــل
    ولكنها أخلاق الشعراء الذين يهيمون في كل واد من القول، دون ضوابط أو تذكار لما سلف منهم، فقول أمس منقوض بقول اليوم.
    4- ومنها قوله:
    فاطلب العز في لظي وذر الذ ل ولو كان في جنان الخلود
    وهذا امتهان لجنة الخلد التي وعد الرحمن عباده بالغيب، وهو يعلم أن من دخل الجنة فإنه لا يصيبه فيها ذل ولا خزي، بل هو عزيز في الدنيا، وعزيز في الآخرة، قال تعالي: (َلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ )(المنافقون: الآية8).
    وأما من دخل النار فإنه في ذل وهوان، وقال تعالي عن أصحاب النار: (َتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِي)(الشورى: الآية45).
    ومن كان منهم عزيزاً في الدنيا فإن عزه الموهوم ينقلب ذلاً وخزياً يوم القيامة، وفي ذلك قول الله عن ( كبار) أهل النار: )ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) (الدخان:49) . أي في الدنيا ، وهذا من باب السخرية به، وزيادة حسرته عندما يتذكر عزة السابق . قال ابن كثير: ( أي قولوا له ذلك علي وجه التهكم والتوبيخ).
    5- ومن ذلك قوله (1):
    أنا في أمة تداركها اللــ ــه غريب كصالح في ثمود
    وهذا القول منه في باب التعاظم الذي عرف به الشاعر، وإلا فكيف يشبه هذا الشاعر المسرف نفسه بنبي الله صالح – عليه السلام - ؟!
    6- ومن ذلك قوله (1):
    لم يخلق الرحمن مثل محمد أحداً وظني أنه لا يخلق
    ولقد صدق الشاعر في هذا القول لو كان يقصد بمحمد الممدوح رسول الله صلي الله عليه وسلم فإنه أفضل الخلق بلا شك كما قال صلي الله عليه وسلم : (( أنا سيد ولد آدم ولا فخر)).
    ولكن الشاعر يقصد بمحمد هذا ممدوحه. وهذا القول: كذب عظيم وغلو فاحش ، لا يتفوه به مسلم، وهو من الافتراءات علي الله عز وجل.
    ولكن، قد قلت سابقاً بأن المتنبئ يرتكب العظائم في سبيل تحقيق طموحاته الدنيوية الدنيئة.
    7- ومن ذلك قوله (3):
    ألا كل سمح غيرك اليوم باطل وكل مديح في سواك مضيع
    وقد كذب الشاعر، إن مدح الله عز وجل، ومدح رسوله عليه الصلاة والسلام ليس بمضيع، بل هو مما يدخره الإنسان لنفسه في الآخرة ، وقد قال صلي الله عليه وسلم : لأحد الشعراء لما قال : ( إني قد حمدت ربي عز وجل بمحامدة ومدح) قال صلي الله عليه وسلم : (( أما إن ربك عز وجل يحب المدح)). أي يحب من عبده أن يمدحه ويحمده، فيثبته علي ذلك ولا يضيعه.
    8- ومن ذلك قوله(2):
    يا من ألوذ به فيما أؤمله ومن أعوذ به مما أحاذره
    لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره ولا يهيضون عظماً أنت جابره
    وهذا القول لا يصلح إلا في حق الله تعالي، فهو الملاذ والمستعاذ ، وهو الذي لا يجير الناس من كسر، ولا يهيضون من جبر ، قال شيخ الإسلام في هذين البيتين: ( إنما يصلح هذا لجناب الله سبحانه وتعالي) (3).
    9- ومن ذلك قوله (4):
    أني يكون أبا البرية آدم وأبوك والثقلان أنت محمد
    يفني الكلام ولا يحيط بفضلكم أيحيط ما يفني بما لا ينفد
    وهذا من الغلو الفاحش في المدح، والذي لا ينفد فضله هو الله سبحانه وتعالي، قال عز وجل: (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ )(النحل: الآية96).
    10- ومن ذلك قوله (1):
    دعوتك عند انقطاع الرجا ء والموت مني كحبل الوريد
    دعوتك لما براني البلاء وأوهن رجلي ثقل الحديد
    والمسلم الحق يلتجئ إلي الله عز وجل عند الكرب، ويدعوه عند انقطاع رجائه بالناس، قال تعالي: )أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ)(النمل: الآية62) (2).
    11- ومن ذلك قوله(3):
    يا من نلوذ من الزمان بظله أبداً ونطرد باسمه إبليسا
    والذي يطرد إبليس هو المولى عز وجل، قال تعالي: )فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) . وقال صلي الله عليه وسلم : (( إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين)) (5) فالشيطان يطرد بذكر الله ـ تعالي ـ.
    وهذا البيت من حقه أن يقال في الله عز وجل وذكره، لا في بشر قد يكون ممن قد تلاعب به الشيطان يمنة ويسرة.
    12- ومن ذلك قوله (6):
    أو كان صادف رأس عازر سيفه في يوم معركة لأعيا عيسى
    أو كان لج البحر مثل يمينه ما انشق حتى جاز فيه موسى
    أو كان للنيران ضوء جبينه عبدت فصار العالمون مجوسا
    وهذه الأبيات من السخرية بمعجزات الأنبياء ، وعدم حفظ مكانتهم عليهم السلام.
    فالمتنبئ يزعم – وهو كاذب- أن سيف الممدوح لو ضرب به عازر (1) لما استطاع عيسى عليه السلام أن يحييه!! ونسي الشاعر أن إحياءه عليه السلام كان بإذن الله لا بإذنه. قال تعالي عن عيسي ـ عليه السلام ـ أنه قال : ) وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ )(آل عمران: الآية49).
    وهكذا انشقاق البحر لموسى ـ عليه السلام ـ هو بإذن الله.
    13 ـ ومن ذلك قوله (3):
    وكأنما عيسى بن مريم ذكره وكأن عازر شخصه المقبور
    وهذا من احتقار الأنبياء ـ عليهم السلام ـ عندما يشبه ممدوحه بهم.
    14 ـ من ذلك قوله (4):
    فأعيذ إخواته برب محمد أن يحزنوا ومحمد مسرور
    أو يرغبوا بقصورهم عن حفرة حياه فيها منكر ونكيـــر
    وقد القول من الافتراء وادعاء علم الغيب، حيث يزعم أن هذا الميت سيحييه منكر ونكير في قبره! وهو بهذا القول يزعم أنه يعري ويواسي أهله.. وكان الأحري به أن يعزيهم بما ثبت في السنة الصحيحة، من الدعوة إلي الصبر والرضي بالقدر.
    15- ومن ذلك قوله (1):
    ملك تصور كيف شاء كأنما يجري بفضل قضائه المقدور
    وهذا ادعاء سخيف، حيث يزعم أن القدر يوافق ممدوحه في كل ما يريد. وهذه لم تكن للأنبياء وهم أشرف الخلق وأفضلهم، فكيف بغيرهم ممن قد يكون من السلفة!؟
    وقد قال تعالي لشرف خلقه: ) وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ).
    16- ومن ذلك قوله(3):
    فما ترزق الأقدار من أنت حارم ولا تحرم الأقدار من أنت رازق
    وهذا القول لا يصلح إلا لله عز وجل، فهو الذي إذا أراد رزق عبد من عباده فلن يحرمه أحد هذا الرزق، وإذا أراد حرمانه منه فلن يرزقه سوي الله.
    قال تعالي: )وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ ).
    17- ومن ذلك قوله (2):
    إن المنية لو لاقتهم وقفت خرقاء تتهم الأقدار والهربا
    وهذا غلو قد تجاوز الحد، حيث يزعم أبو الطيب أن الموت يفرق ويخاف من ممدوحه ، والله قد أخبرنا بأن الناس هم الذين يفرون من الموت الذي هو ملاقيهم لا محالة: )قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُم).
    18- ومن ذلك قوله (4):
    ولو يممتهم في الحشر تجدو لأعطوك الذي صلوا وصاموا
    وهذا كذب من القول لا يجيده غير الشعراء! فهو يخبر عن كرم ممدوحيه بأنه قد تجاوز الحد، وأنك لو استمنحتهم شيئاً يوم الحشر النبي صلي الله عليه وسلم فإنه من شدة كرمهم سيعطونك صلاتهم وصيامهمَ!! والله يقول عن ذلك اليوم العظيم: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) .
    19- ومن ذلك قوله(1):
    وأعطيت الذي لم يعط خلق عليك صلاة ربك والسلام
    وهذا القول لا يصلح إلا لنبينا محمد صلي الله عليه وسلم فهو الذي أعطي ما لم يعط خلق غيره، فقد قال صلي الله عليه وسلم : (( أعطيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي))2 وهو الذي يصلي عليه ويسلم، هو وإخوانه الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأما غيرهم فلا يخص بصلاة أو سلام.
    قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ بعد ذكره الخلاف في هذه المسألة ـ : ( وفصل الخطاب في المسألة: أن الصلاة عي غير النبي صلي الله عليه وسلم ؛ إما أن تكون علي آله وأزواجه وذريته أو غيرهم، فإن كان الأول؛ فالصلاة عليهم مشروعة مع الصلاة علي النبي صلي الله عليه وسلم ، وجائزة مفردة.
    وأما الثاني: فإن كان الملائكة وأهل الطاعة عموماً الذين يدخل فيهم الأنبياء وغيرهم؛ جاز ذلك أيضاً ، فيقال : (( اللهم صل علي ملائكتك المقربين وأهل طاعتك أجمعين))، وإن كان شخصاً معيناً، أو طائفة معينة، كره أن يتخذ الصلاة عليه شعاراً لا يخل به.
    ولو قيل بتحريمه لكان له وجه. ولا سيما إذ جعله شعاراً له، ومنع منه نظيره، أو من هو خير منه، وهكذا كما تفعل الرافضة بعلي ـ رضي الله عنه ـ
    حيث ذكروه قالوا: عليه الصلاة والسلام، ولا يقولون ذلك فيمن هو خير منه، فهاذ ممنوع لا سيما إذا اتخذ شعاراً لا يخل به، فتركه حينئذ متعين،وأما إن صلى عليه أحياناً بحيث لا يجعل ذلك شعاراً ، كما يصلى علي دافع الزكاة وكما قال ابن عمر للميت : (( صلى الله عليه))، وكما صلى النبي صلي الله عليه وسلم على المرأة وزجها، وكما روي عن على من صلاته على عمر، فهذا لا بأس به، وبهذا التفصيل تتفق الأدلة، وينكشف وجه الصواب ، والله الموفق) (1).
    20- ومن ذلك قوله (2):
    فلقد دهشت لما فعلت ودونه ما يدهش الملك الحفيظ الكاتبا
    وهذا افتراء على ملائكة الله الكرام ، حيث زعم أنها تدهش من أفعال ممدوح المتنبئ ! والكتبة الحافظون لا يدهشون، وإنما يحصون أعمال بني آدم عليهم. قال تعالي: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (:10) كِرَاماً كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) .
    21- ومن ذلك قوله (5):
    نفذ القضاء بما أردت كأنه لك كلما أزمعت أمراً أزمعا
    والقضاء لم يجر بما يشتهي أنبياء الله ـ عليهم الصلاة والسلام ـ فكيف بمن سواهم ممن يزعم المتنبئ أن القضاء ينفذ حسب ما يريدون!؟
    22- ومن ذلك قوله (1):
    من يزره يزر سليمان في المـ ـلك جلالاً ويوسفاً في الجمال
    وقد سبق مثل هذا ، حيث شبه المتنبئ ممدوحيه بالأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وهو من الغلو.
    23- ومن ذلك قوله (2):
    رجل طينه من العنبر الور د وطين العباد من صلصال
    فبقيات طينه لاقت الما ء فصارت عذوبة في الزلال
    وهذا من غلوه المعتاد في ممدوحه في تصويره بصورة غير البشر الآخرين؛ قاصداً هباته وعطاياه *!
    24- ومن ذلك قوله (3):
    طلبنا رضاه بترك الذي رضينا له فتركنا السجودا
    فقد رضي المتنبئ أن يسجد لممدوحه ـ والعياذ بالله ـ والسجود كما هو معلوم لا يجوز لغير الله، وعندما عاد معاذ ـ رضي الله عنه ـ من اليمن وكان قد شاهدهم لعظمائهم ، أراد أن يسجد لرسول الله صلي الله عليه وسلم فنهاه النبي صلي الله عليه وسلم عن ذلك(1).
    25- ومن ذلك قوله (2):
    لو كان علمك بالإله مقسماً في الناس ما بعث الإله رسولاً
    لو كان لفظك فيهم ما أنزل القـ ـرآن والتوراة والإنجيلا
    وهذا غلو فاحش وقول ( كفري) يقشعر جلد المؤمن من سماعه، حيث زعم الشاعر لممدوحه أن علمه كعلم الأنبياء ، وان لفظه كالقرآن والإنجيل والتوراة!! نعوذ بالله من الكفر والضلال.
    26- ومن ذلك قوله (3):
    متي أحصيت فضلك في كلام فقد أحصيت حبات الرمال
    وإن بها وإن به لنقصـــاً وأنت لها النهاية في الكمال
    وهذا من الغلو في المدح، وإلا فإن النهاية في الكمال ليس إلا لله عز وجل فهو سبحانه (( السيد الذي كمل في سؤدده، العليم الذي قد كمل في علمه والحكيم الذي قد كمل في حكمته، وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد)) (4).
    27- ومن ذلك قوله (1):
    يا بدر إنك والحديث شجون من لم يكن لمثاله تكوين
    لعظمت حتى لو تكون أمانةً ما كان مؤتمناً بها جيرين
    وهذا القول فيه تنقص من جناب جبريل ـ عليه السلام ـ الذي أخبر الله عنه بأنه : (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) (20)مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) .
    فالله عز وجل قد أخبرنا بأمانة جبريل ـ عليه السلام ـ وأنه غير متهم والمتنبئ يزعم أنه قد يخون أنه قد يخون الأمانة!! وهذا القول من الأقوال ( الكفرية) ، ولا يشك في هذا مسلم.
    28- ومن ذلك قوله (3):
    ما يرتجي أحد لمكرمــة إلا الإلـــه وأنت يا بـــدر
    لقد أخطأ المتنبئ عندما ساوى بين ممدوحه وبين الله عز وجل بحرف ( الواو) الذي يقتضي المشاركة والمساواة ، وكان الصواب أن يعطف بحرف ( ثم) الذي ينزل المخلوق عن رتبة الخالق عز وجل، وعندما قال رجل للنبي صلي الله عليه وسلم : ما شاء الله وشئت ، قال له صلي الله عليه وسلم : (( أجعلتني لله نداً)) (4).
    29 – ومن ذلك قوله (1):
    حسبك الله ما تضل عن الحـ ـق ولا يهتدي إليك أثام
    فهو يدعي العصمة لمدوحه ، فهو دائماً علي الحق ، وهو دائماً لا يرتكب الآثام!
    30- ومن ذلك قوله (2):
    فأصبحت أستسقي الغمام لقبرها وقد كنت استسقي الوغي والقنا الصما
    فأحوال القبور وساكنوها لا يؤثر فيهم الأمطار ولا السيول، وإنما هي رحمة الله عز وجل ثم العمل الصالح، فمن عمل خيرا فسح له في قبره، وأتاه من الجنة ما يسره ولو كان مدفوناً وسط صحراء محرقة، ومن عمل شرا ضيق عليه قبره، وأتاه الله من سموم النار ما يسوءه، ولو كان مدفوناً وسط حدائق ذات بهجة.
    وقد أخبر صلي الله عليه وسلم عن المؤمن بعد موته بأنه (( يفسح له في قبره مد بصره)) وأما الكافر والمنافق (0 يضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه)) (3) نسأل الله العفو والعافية.
    31- ومن ذلك قوله (4):
    أما وحقك وهو غاية مقسم للحق أنت وما سواك الباطل
    وهذا قسم بغير الله، وهو شرك أصغر، حذرنا منه رسول الله صلي الله عليه وسلم بقوله: (( من حلف بغير الله فقد أشرك)) وقال صلي الله عليه وسلم : (( من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)) وقال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : (( لأن أحلف بالله كاذباً خير من أحلف بغير الله صادقاً )) وهذا من كمال فهمه ـ رضي الله عنه ـ لأن الحلف بالله كاذباً معصية، والحلف بغيره ولو كان المرء صادقاً فيه شرك، وفرق فيما بينهما.
    والقسم بغير الله هو مما تساهل فيه الشعراء قديماً وحديثاً ، فهم يقسمون بالمحبوب ، وبصفاته الخلقية والخلقية قاصدين تعظيمه بزعمهم.
    32- ومن ذلك قوله (1):
    وتري المروة والفتوة والأبو ة في كل مليحة ضراتها
    هن الثلاث المانعاتي لذتي في خلوتي لا الخوف من تبعاتها
    فقد صرح المتنبئ هنا أن الذي يمنعه من اللذات ليس الخوف من الله عز وجل، وإنما هو المروءة والأبوة . وكان الأجدر به أن يمتنع عن اللذات خوفاً من الله! ليكتب له أجر هذا الامتناع. قال تعالي: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى) (40)فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) .
    33- ومن ذلك قوله (3):
    فآجرك الإله على عليل بعثت إلي المسيح به طبيبا
    وهذا يلحق بسابقه، ففيه لأنبياء الله ـ عليهم السلام ـ عندما يشبههم بغيرهم، أو يبتذل ذكرهم.
    34- ومن ذلك قوله (1):
    يبني به ربنــا المعالــي كم بكــم يغفـر الذنــوبا
    والذنوب لا تغفر بأحد، إنما يغفرها الله برحمته، قال تعالي: ) وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ )(آل عمران: الآية135).
    35- ومن ذلك أنه يعتقد أن علياً ـ رضي الله عنه ـ هو الوصي بعد سول الله صلي الله عليه وسلم ، وهذه عقيدة الشيعة الإمامية والزيدية، ويقول المتنبي في مدح طاهر ابن الحسين(3).
    هو ابن رسول الله وابن وصيه وشبههما شبهت بعد التجارب
    36- وهو يذم أحد الأموات الذين يبغضهم بقوله (4):
    قالوا لنا: مات إسحاق ! فقلت لهم: هذا الدواء الذي يشفي من الحمق
    إن مات مات بلا فقد ولا أسف أو عاش بلا خلق ولا خلق
    منه تعلم عبد شق هامتـــه خون الصديق ودس الغدر في الملق
    وحلف ألف يمين غير صادقة مطرودة ككعوب الرمح في تسق
    ما زلت أعرفه قرداً بلا ذنب صفراً من الباس مملوءاً من النزق
    كريشة في مهب الريح ساقطة لا تســتقر علي حال من القلق
    تستغرق الكف فودية ومنكبه فتكتسي منه ريح الجورب العرق
    فسائلوا قاتليه كيف مات لهم موتاً من الضرب أو موتاً من الفرق
    وهذا القول دليل علي وقاحة المتنبئ، حيث تعرض للأموات في قبورهم بهذا الهجاء المر، والرسول صلي الله عليه وسلم يقول: (( إذا مات صاحبكم فدعوه، لا تقعوا فيه)) (1).
    37- ومن ذلك قوله (2):
    ما رآها مكذب الرسل إلا صدق القول في صفات البراق
    فهو يشبه فرسه بالبراق الذي ركبه رسول الله صلي الله عليه وسلم الإسراء والمعراج، وقال صلي الله عليه وسلم عنه لأنه: (( فوق الحمار ودون البغل، يقع خطوه عند انقضاء طرفه..)) (3).
    فالبراق خلق من خلق الله لا يشبهها شيء من حيوانات الدنيا، مهما ادعى المتنبئ خلاف ذلك.
    38- ومن ذلك قوله (4):
    يا راحلاً كل من يودعــه مودع دينــــه ودنيـــاه
    والراحل أو المسافر لا يأخذ معه إلا دينه هو، أما دين المودعين فهو باق معهم؛ لأنه مجموعة من الأقوال والأعمال الملازمة للإنسان.
    وقد أمر صلي الله عليه وسلم أن يقال للمسافر عند سفره، لا أن يحفظ هو دين الآخرين، كما يزعم المتنبئ.
    39- ومن ذلك قوله (2):
    لحب ابن عبد الله أولى فإنه به يبدأ الذكر الجميل ويختم
    والذي يبدأ به الذكر الجميل ويختم: الله ـ عز وجل ـ فقد علمنا رسوله صلي الله عليه وسلم أن نبدأ أعمالنا باسمه تعالي، وعلمنا أن نختم بذكره تعالي، سواء بالحمد أو الاستغفار.
    40- ومن ذلك قوله (3):
    فلا موت إلا من سنانك يتقي ولا رزق إلا من يمينك يقسم
    وأسباب الموت كثيرة كما قيل: تعددت الأسباب والموت واحد.
    لا كما يزعم المتنبئ بأنه لا موت إلا من سنان ممدوحه.
    وأما الرزق فهو من عند الله عز وجل ، قال سبحانه: (َابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ )(ا)ْ وقال( خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) وصدق على المتنبئ قوله تعالي: (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ) . فهو يعلم أنه لا رزاق إلا الله ، ثم ينسب ذلك إلي غيره.
    41- ومن ذلك قوله عن خيمة سيف الدولة (4):
    فما اعتمد الله تقويضــها ولكن أشار بما تفعل
    وهذا من الافتراء علي الله أنه أراد تقويضها قاصداً توجيه سيف الدولة إلي ملاقاة أعدائه!
    42- ومن ذلك قوله(5):
    ولست أبالي بعد إدراكي العلا أكان تراثاً ما تناولت أم كسبا
    فهو يهدف إلي العلا ،سواء ورثه من آبائه، أو كان كسباً له قد اجتهد في تحصيله، وهذا العلا الذي يعنيه المتنبئ هو علو الصيت بين الناس، وتولي الضيع والإمارات ، فهو الذي أجهد فيه نفسه، وضيع عمره ـ كما سبق.
    43- ومن ذلك قوله في ممدوحه (1):
    الذي ليس عنه مغن ولا منـــ ـه بديل ولا لما رام حام
    وهذا القول لا يصلح إلا لله عز وجل ، فهو الذي ليس عنه مغن ، ولا منه بديل. كما قال صلي الله عليه وسلم : (( الحمد لله كثيراً طيباً مباركاً فيع غير مكفي ولا مودع ولا مستغني عن ربنا)) (2).
    44- ومن ذلك قوله:-
    فومن أحب لأعصينك في الهوى قسماً به وبحسنه وبهائه
    45- ومن ذلك قوله (4):
    وكيف تعلك الدنيا بشيء وأنت لعلة الدنيا طبيب
    وهذا من الغلو في المدح، حيث جعل ممدوحه طبيباً لجميع علل الدنيا، وهذا لا يكون إلا لله عز وجل، فهو (( الطبيب))(5) سبحانه ، هو الذي يشفي عباده، ويصلح أحوالهم ، كما قال إبراهيم ـ عليه السلام ـ : )وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ).
    46- ومن ذلك قوله (1):
    تظل ملوك الأرض خاشعة له تفارقه هلكي وتلقاه سجدا
    والسجود لغير الله لا يجوز ـ كما سبق ـ.
    47- ومن ذلك قوله (2):
    تخر له القبائل ساجدات وتحمد الأسنة والشفار
    48- ومن ذلك قوله (3):
    وما لاقني بلد بعدكـــم ولا أعتضت من رب نعماي رب
    ونقول لأبي الطيب: حتى الله لم تعتض به عن ممدوحك؟! قال تعالي: )وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ) فهو سبحانه رب النعم الذي يستحق التمجيد والتفرد بهذا المدح.
    49- ومن ذلك قوله (5):
    أيا سيف ربك لا خلقــــه وسا ذا المكارم لا ذا الشطب
    كيف يزعم المتنبئ أن سيف الدولة الحمداني هو سيف الله؟!
    وهل كان سيف الدولة يقاتل الأعداء دفاعاً عن دين الله عز وجل، أم كان دفاعاً عن أرضه ودياره؟! والحق أنه لا يطلق هذا اللقب (سيف الله) إلا على من أطلقه رسول الله صلي الله عليه وسلم عليه، كخالد بن الوليد ـ رضي الله عنه (1) ـ أما غيره فلا ندري أكان سيفاً لله أم سيفاً لمصالحة ودولته؟!
    50- ومن ذلك قوله (2):
    أغاية الدين أن تحفوا شواربكم يا أمة ضحكت من جهلها الأمم
    ونحن نعلم كالمتنبئ أن الدين ليس غايته إحفاء الشوارب، وإنما هي سنة وردت عن رسول صلي الله عليه وسلم بقوله: (( أحفوا الشوارب)) (3) فمن عمل بها فقد فاز بالأجر والمغنم، ومن خالفها فقد خالف سنة النبي صلي الله عليه وسلم ومع ذلك لا يجوز لأبي الطيب أن يسخر من هذه السنة النبوية بهذا القول الذي يوحي باحتقارها.
    51- ومن ذلك قوله (4):
    فتمليك دلير وتعظيم قدره شهيد بوحدانية الله والعدل
    وهذا أيضاً من الافتراء علي الله بأنه عادل إذ ملك ممدوح المتنبئ (دلير) وعظم قدره!.
    52- ومن ذلك قوله (1):
    جاء نيروزنا وأنت مراده وورت بالذي أراد زناده
    53- ومثله قوله (2):
    عربي لســانه فلســـفي راية فارسية أعياده
    وهذا من الفرح بأعياد الفرس المشركين الذين يبتهجون بالنيروز (3)ويشاركهم في ذلك مدعو الإسلام (( الرافضة)) من أبناء الفرس، الذين يحنون إلي تراث آبائهم.
    ومعلوم أن الفرح بأعياد الكفار وتهنئتهم بها حرام شرعاً، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
    (( مخالطة غير المسلمين في أعيادهم محرمة؛ لما في ذلك من الإعانة على الإثم والعدوان وقد قال الله تعالي: ) وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ )
    ولأن هذه الأعياد إن كانت لمناسبات دينية؛ فإن مشاركتهم فيها تقتضي إقرارهم علي هذه الديانة ، والرضى بما هم عليه من الكفر، وإذا كانت الأعياد لمناسبات غير دينية؛ فإنه لو كانت هذه الأعياد في المسلمين ما أقيمت ، فكيف وهي في الكفار؟ لذلك قال أهل العلم: إنه لا يجوز للمسلمين أن يشاركوا غير المسلمين في أعيادهم، لأن ذلك إقرار ورضى بما هم عليه من الدين الباطل ثم إنه معاونة على الإثم والعدوان)) (1).
    54- ومن ذلك قوله (2):
    لنا مذهب العباد في ترك غيره وإتيانه نبغي الرغائب بالزهد
    رجونا الذي يرجون في كل جنة بأرجان حتى ما يسئنا من الخلد
    وفي هذين البيتين أفصح المتنبئ بكل وضوح عن هدفه من مدح الممدوح؛ إذ هو يبحث عن ( الرغائب) لا غير، وهو يشبه فعله هذا بفعل العباد الذين يخلصون العباد لله عز وجل طالبين جنته، هاربين من ناره، فالمتنبئ قد حقق ( الإخلاص) في قصد الممدوح وحده دون غيره مبتغياً ( رغائبه)!.
    55- ومن ذلك قوله (3):
    فإن يكن المهدي من بان هديه فهذا وإلا فالهدى ذا فما المهدي؟
    يعللنا هذا الزمان بذا الوعد ويخدع عما في يديه من النقد
    وهذا القول فيه سخرية ثابتة عند أهل السنة والجناعة ، وهي عقيدة خروج المهدي ، وقال صلي الله عليه وسلم : (( لا يكون في أمتي المهدي)) (1).
    أما المتنبئ فمهديه غير مهدي المسلمين، ,وإنما هو ممدوحه الذي قد بان هديه، كما يزعم شاعر المديح!
    56- ومن ذلك قوله (3):
    الناس كالعابدين آلهــة وعبـــده كالموحــــــد الله
    وهذا من الغلو في المدح الذي برع فيه المتنبئ ، ولو كان علي حساب دينه وعقيدته، فهو هنا يشبه حاله مع ممدوحه كحال المخلصين مع الله عز وجل.
    57- ومن ذلك قوله (3):
    ملاعب جنة لو سار فيهـــا سليمان لسار بترجــمان
    وهذا تبذل لاسم نبي الله سليمان ـ عليه السلام ـ وكذب عليه، حيث ادعي أنه سيحتاج إلي ترجمان عندما يسير ي هذا الشعب، والله قد أخبرنا بأنه قد علمه منطق الحيوانات. وقال سبحانه عنه ـ عليه السلام ـ : ) وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْء)
    58- ومن ذلك قوله (1):
    أبوكــم آدم سن المعاصي وعلمكم مفارقـة الجنان
    وهذا تهور من المتنبئ ، حيث زعم أن آدم ـ عليه السلام ـ قد سن لنا المعاصي وارتضاها ، وهو ـ عليه السلام ـ إنما أذنب ذنبا تاب منه، ثم قدر الله عليه مفارقة الجنة، ثم ابتلاه بهذه الدار النكدة؛ ليعود بشوق عظيم إلي الجنة مرة ثانية.
    59- ون ذلك قوله (2):
    فإن الناس والدنيا طريق إلى من ما له في الناس ثان
    وهذا كذب من الشاعر ـ فالذي ماله في الناس ثان هو رسول الله صلي الله عليه وسلم لا ممدوح المتنبئ.
    60- ومن ذلك قوله (3):
    ولولا كونكم في الناس كانوا هراء كالكلام بلا معان
    وهذا يلحق بما مضى من الغلو في المدح
    61 – ومنه أيضاً قوله :-
    ولم أقل مثلك أعنــي به سواك يا فرداً بلا مشبه
    هذا ما تيسر لي من ملاحظات على ديوان المتنبي من أخطاء، تجاوز فيها حدود الشرع، أحببت أن لا يتسامح فيها قراؤه ومحبوه، أو يغضوا الطرف عنها.
    سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام علي المرسلين والحمد لله رب العالمين.


    مصدر الكتاب : موقع الشيخ عائض القرني.

  7. #7
    الصورة الرمزية عمر زيادة شاعر
    تاريخ التسجيل : Aug 2006
    الدولة : فلسطين
    المشاركات : 2,052
    المواضيع : 121
    الردود : 2052
    المعدل اليومي : 0.32

    افتراضي

    ما شااااء الله
    بحث عظيم عن رجل شغل الناس و ما زال
    بعبقريته و بيانه و بلاغته

    شكراً لكَ أيّها الحبيب على هذه الإفادة

    محبتي لك ....
    كلَّ السقوطِ صعدتُّ القلْبَ منكسراً=على عُلوّي مليئاً بالمـدى الخالـي

  8. #8
    الصورة الرمزية عبدالملك الخديدي شاعر
    تاريخ التسجيل : Feb 2006
    الدولة : السعودية
    المشاركات : 3,954
    المواضيع : 158
    الردود : 3954
    المعدل اليومي : 0.60

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عمر زيادة مشاهدة المشاركة
    ما شااااء الله
    بحث عظيم عن رجل شغل الناس و ما زال
    بعبقريته و بيانه و بلاغته
    شكراً لكَ أيّها الحبيب على هذه الإفادة
    محبتي لك ....
    بارك الله فيك اخي عمر زيادة
    وآسف للتأخير في الرد فقد غفلت عن الموضوع ووجدته اليوم صدفة ..
    ولعلها فرصة أيضا لرفعه .
    تقبل تحيتي

المواضيع المتشابهه

  1. قصيدة الشيخ عائض القرني في مدح الجزائر
    بواسطة زكريا زكريا في المنتدى مُخْتَارَاتٌ شِعْرِيَّةٌ
    مشاركات: 9
    آخر مشاركة: 01-02-2011, 12:52 PM
  2. دروس صوتية في البلاغة العربية لفضيلة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله
    بواسطة د. مصطفى عراقي في المنتدى البَلاغَةُ العَرَبِيَّةُ
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 02-04-2010, 09:33 AM
  3. لاتحزن ؛ د.عائض القرني
    بواسطة مينا عبد الله في المنتدى المَكْتَبَةُ الدِّينِيَّةُ
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 09-04-2009, 09:41 AM
  4. أصول أهل السنة الجماعة لفضيلة الشيخ الدكتور صالح الفوزان.
    بواسطة عبدالملك الخديدي في المنتدى الحِوَارُ الإِسْلامِي
    مشاركات: 10
    آخر مشاركة: 25-01-2009, 02:13 PM
  5. برنامج كتاب مختصر مغني اللبيب لفضيلة الشيخ العثيمين
    بواسطة بابيه أمال في المنتدى المَكْتَبَةُ الأَدَبِيَّةُ واللغَوِيَّةُ
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 02-01-2008, 08:14 AM