جميل بُثينة
حسن أشهر من نار على علم داخل أسوار ثانوية "ليلى العامرية" وخارجها، قيل عنه تلميذ عبقري وقيل عنه نابغة وقيل...ولكن حسن لا يرى في حسن إلا فقيرا بن فقير، أتيحت له فرصة الدراسة وعليه أن يكد ويجتهد ليحقق طموح أبيه الذي يوفر له جزءا من لوازم الدراسة بتعب وعناء لا يطاقان، يعرف جيدا أن أباه مجرد عامل كادح يعيش ويعيش من عرق جبينه وقوة عضلاته، ومع ذلك يفتخر حسن بعمل والده الشريف لأنه لا يمد يده ولا يترك أبناءه يسألون الناس نقيرا.
ما كان لحسن أن يعرفه جل التلاميذ وتحيط به التلميذات لولا علاماته الدراسية التي تميزه عن غيره من تلاميذ المؤسسة، ولهذا لا أحد يبالي بثيابه البالية الرثة : قميص أصفر وسروال فضفاض وحذا طويل، الملابس نفسها كل يوم وحسن يمسك دفاتره في يده يتوجه إلى القسم ثم بعده إلى الخزانة المدرسية ليستبدل كتابا استعاره أمس، ثم يتجه صوب ركنه المعتاد بقاعة المطالعة بالقسم الداخلي. ومما عرف عنه كذلك أنه مشاكس فكري داخل الفصل، يضطر الأساتذة غير ما مرة إلى قمع فضوله ليتمكنوا من إنهاء الدرس في وقته المحدد.
السنة الحالية سنة مهمة وحاسمة لكل التلاميذ، إنها سنة الباكلوريا، وحلمهم جميعا النجاح لتنفتح أفاق أخرى أمامهم، وحلم حسن الحفاظ على تفوقه سعيا إلى تحقيق حلمه الأكبر.
وفي السنة عينها قدم المدير الجديد ووفدت إلى الثانوية "بثينة" ابنة المدير.
بثينة تلميذة نجيبة، وكونها ابنة المدير فهذا يشعرها بنوع من التعالي على بقية الزملاء وكما أخبرت زميلاتها فهي تحتل الرتبة الأولى - دائما- في مؤسستها القديمة. وما كان من الأصدقاء إلا أن ينتظروا ما ستكشفه الأيام في مواجهتها مع حسن، فهي تدعي أنها ستظل في الريادة، وحسن بلغه الخبر دون أن يعلق عليه. ومنذ الدروس الأولى بدا لبثينة صعوبة سحب البساط من تحت أقدام حسن داخل الفصل، فهو متفوق في جميع المواد ومشاركته فعالة في الدروس بل إنه التلميذ المحوري الذي يشارك الأستاذ أكثر من غيره في بناء الدرس.. وبالتالي فهو يحظى بأكبر نصيب من حب الأساتذة وتقديرهم . وتأكد لدى بثينة هذا الإحساس بعد اختبارات المراقبة المستمرة الكتابية،أمر لم تصدقه ابنة المدير مما ملا قلبها غيظا وحقدا لهذا "المتشرد" العبقري.
***
* ذات يوم *
عاد حسن إلى سريره بالقسم الداخلي وفتح دفتره ليراجع دروسه فوقعت عينه على ورقة ناصعة البياض محشوة في دفتره بطاقة جميلة مرسوم عليها قلب أحمر يخترقه سهم أسود وفي أسفل الرسم كتبت عبارة هيجت مشاعر حسن: « I Love You Hassan »
بسرعة طوى الدفتر مخافة أن يراه أحد زملائه، ولكن ما لبث أن أعاد فتحه، وبدأ يتأمل الورقة وقلبه ينبض بقوة وبدنه يقشعر، وسافر بفكره إلى عالم "قيس بن الملوح"و"جميل بثينة"و"روميو وجولييت". وكلما ابتسمت له تلميذة قال في نفسه لعلها هي.
صارت هذه الورقة كتاب حسن المفضل ودروسه المقررة ونسي أو كاد الامتحان الوشيك...ثم تاه حسن.
الكل يستغرب أساتذة وتلاميذ ويردد في داخله لماذا تراجع حسن !؟ وحسن لا يبالي بأحد ولم ينبئ أحدا بما يجري في فؤاده، إنما انصب على كتابة شعر الغزل وقراءة الروايات الغرامية.
أما بثينة فقد احتفلت في خوالجها بنجاح مكيدتها ولمعان نجمها في الثانوية، بعدما تربعت على قمة لوائح الناجحين في الدورة الأولى مخلفة حسن وراء ظهرها.
صُفع حسن صفعة قوية ولم يدر ما يقع له. وبعد انطلاق الدورة الثانية بأيام جاءه صديقه "مخلص" من القسم الآخر رسولا من أستاذ التربية الإسلامية، انفرد الأستاذ بحسن وأصر على معرفة أسرار تلميذه بعدما نبهه إلى تراجع مستواه واضمحلال نشاطه وأفول نجمه، بينما أصر حسن على الكتمان مكتفيا بقطع وعد على نفسه أمام الأستاذ باستعادة بريقه كله...
***
اختلى حسن في ركنه بعد مدة من هجرانه ونظم قصيدة شعرية غرامية تسلب الألباب وتفتت الأحجار وتذوب الصخور، عنونها ب" حبيبة قلبي" وفصل بين كل صدر وعجز بوردة حمراء وفي الأسفل أبدع في رسم قلب كبير واضعا وسطه نقطة سوداء أشار إليها بسهم وكتب "حبك هنا" ووقع الرسالة بلقب "المتيم بحبك".
تجلد حسن وأعاد كتابة الورقة نفسها مرات عديدة، ووزع الورقة على كل تلميذات القسم إما عبر رسائل مجهولة وإما بوضعها خلسة في حقائبهن، ثم تنهد وتنفس الصعداء.
***
لم تتجرأ إحدى التلميذات على إخبار أقرب صديقتها حتى لا تنافسها في حب حسن - إن كان هو صاحب الرسالة- وما إن ينظر حسن إلى إحداهن حتى تطأطئ رأسها خجلا وهي تبتسم.
أنهت بثينة قراءة القصيدة والعبارات المرافقة لها بشوق كبير وضمت الرسالة إلى
صدرها وسافرت بمشاعرها وقالت لنفسها أنا "بثينة" وهو" جميل" .
***
تاهت بثينة فأقبلت على مشاهدة المسلسلات المكسيكية المدبلجة والاستماع إلى موسيقى "الراي".