النفاق الأوروبي
وازدواجية المعايير

د / لطفي زغلول – نابلس


ليس ثمة فرق كبير بين الولايات المتحدة الأميركية ، والإتحاد الأوروبي ، فيما يخص الإستيطان الإسرائيلي في القدس والأراضي الفلسطينية الأخرى . الإستيطان بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية مفتوح على مصراعيه . وليس ثمة ما يحول دون استكمال مشروعه . والقدس ، وإن كانت رسميا لم تعلن عاصمة أبدية لإسرائيل ، إلا أنها تعامل على أنها العاصمة الفعلية لها .
أما الإتحاد الأوروبي فإن له سياسة أخرى ، سياسة أشبه بالإلتفاف والدوران على الهدف . فهو من ناحية لا يعترض على المشروعات الإستيطانية الست الكبرى ، ولا حتى ما يتم من إضافات لها ، أو حتى توسعتها . ولكنه في أفضل حالاته يعترض على البؤر الإستيطانية المقامة عشوائيا على الأراضي الفلسطينية ، والتي يهيأ للبعض أن الصراع حولها هو الأساس . وبطبيعة الحال فإن المشروعات الست الإستيطانية الكبرى ، تظل خارجة من إطار أية تسوية في نظر هذا الإتحاد .
يتضح أن الإعتراض على المشروعات الإستيطانية الكبرى في الأراضي الفلسطينية والقدس ، لم يكن ولن يكون لها داخل أي إطار تسوية من تللك التسويات التي تبشر بها الولايات المتحدة الأميركية والإتحاد الأوروبي . وتظل الأمور معلقة فيما يخص بؤرا إستيطانية هنا ، وأخرى هناك ، أقيمت على مدى اثنتين وأربعين عاما من عمر الإحتلال الإسرائيلي بغية المساومة عليها مع الفلسطينيين .
إن المخصصات المالية التي تقدمها دول الإتحاد الأوروبي ، وأخص بالذكر كلا من بريطانيا ، وألمانيا ، وفرنسا ، وإيطاليا ، وإسبانيا ، وبعض الدول الإسكندنافية ، لا يمكن معادلتها بما عاناه الفلسطينيون على مدى سنوات الشتات العجاف من مآس وكوارث بأي شكل من الأشكال . إن هذه الأموال لا يمكن لها أن تكون بديلا لهم على الإطلاق ، وإلا لما كانوا على هذه الحال .
ولا داع لتذكير العالم بأن الشعب الفلسطيني ، قد شرد من دياره وهجر ، وبات نزيلا مستداما للخيام والمخيمات . وهذا القول ينطبق على الذين هجروا من بلادهم إلى العراق إلى العراق الذي ما زال يعاني جراء الإعتداء عليهم بالقتل والإعتقال والمطاردة والتشريد من الديار . وفي ذات الوقت ينطبق على مهاجري لبنان الذين كانوا وما زالوا محرومين من ممارسة أكثر من سبعين مهنة وحرفة ، لا يعرفون لها شكلا ولا لونا .
ولا يعلم إلا الله كم يعاني أبناء القضية الفلسطينية من مرارة الهجر والتشريد وشظف العيش في الأردن وسوريا ، وبقية أنحاء العالم . وإذا كان هناك من يدعي أن الشعب الفلسطيني قد وجد بديلا له في بقاع الدنيا الواسعة ، فإنه مخطىء كل الخطأ . فليس هناك أرحم من صدر الوطن ولا قلبه . وليس هناك نسمة تنعش قلب الإنسان الفلسطيني غير أنسام الوطن ، وأريج بياراته .
وهكذا فإن الفلسطينيين والعرب المهتمين بالقضية ، وهم قلة ، سوف يفتحون أعينهم على واقع مرير ، يمكن قراءته واستقراء كل معطياته على أنه اللامبالاة الأميركية ، والنفاق الأوروبي وازدواجية معاييره . أما ما يخص القضية الفلسطيينة التي حلم الفلسطينيون بها ، فها هي تتلاشى شيئا فشيئا من أمام عيونهم ، ولم يبق منها إلا النذر اليسير .
وقبل الخوص في سياق هذا الموضوع ، لابد من الإشارة إلى واقع الرؤيا العربية الحالية للعلاقات عامة مع أوروبا . فالأنظمة العربية تعطي الأوروبيين في كثير من الأحيان حجما ووزنا أكبر بكثير من حجمهم ووزنهم الفعليين . في حين أنها لا تجهل أن مفاتيح الحل والربط في هذا العصر هي في أيدي الولايات المتحدة باعتبارها القوة الأحادية القطب .
وبرغم ذلك فهذه الأنظمة ما زالت تراهن على الحصان الأوروبي وتعلق كثيرا من الآمال عليه ، وتجري لاهثة وراءه . وعلى أفضل تقدير ومنذ أن احتكرت الولايات المتحدة الأميركية رعاية العملية السلمية ، فقد عملت على لجم هذا الحصان وتحجيم حركاته . وفي الحقيقة أنها أخرجته من أهم ميادين السباق السياسية . والأنظمة العربية تعامل الأوروبيين وكأنها هي المستفيدة في الدرجة الأولى ، في حين أن العكس هو الصحيح . وبالتالي تنساق لتوجهاتهم وتتجاوب مع رؤاهم ومفاهيمهم ومطالبهم ، وتقدم لهم تسهيلات أكثر بكثير مما يستحقون في الواقع .
وحقيقة الامر فان العلاقات العربية الأوروبية قد وصفت مؤخرا بأنها غير متوازنة ولا متكافئة ، وبأن الأوروبيين لا يتورعون أن يقفوا مواقف غير مقبولة وغير أخلاقية ، كتلك التي وقفوها في قمة الشراكة الأوروبية المتوسطية من انتفاضة الشعب الفلسطيني . لقد أعربت الدول العربية التي شاركت عن أسفها لتراجع الدور الأوروبي ، وعدم اعتماد موقف واضح وشجاع في مواجهة العدوان الإسرائيلي .
إن الحديث عن إنهاء فوري لاحتلال الأراضي الفلسطينية ووضع حد لمعاناة الشعب الفلسطيني جراء الإجتياح المتكرر لمدنه وقراه ومخيماته وانتهاك أبسط حقوقه الإنسانية ، مضافا إلى كل ذلك ضمان دولي بعدم تكرار هذه السيناريوهات الإحتلالية بكل مشاهدها الملونة بلون الدم والدمار والخراب ، إن الحديث عن هذا وذاك ينبغي أن يكون فصل المقدمة من كتاب الدولة الفلسطينية حتى تكون الفصول التالية مبنية على أسس عقلانية ونوايا طيبة جادة بعيدة كل البعد عن أجواء الإلهاء والمماطلة والخداع واللف والدوران .
إن الدولة الفلسطينية حق لا منة . وهي سداد دين قديم متجدد على الدوام في أعناق الشرعية الدولية . ويفترض إذا كانت هناك حقا صحوة ضمير ، أن يكون القرار واضحا لا لبس فيه ، وأن يسدد الدين كاملا غير منقوص لأصحابه الفلسطينيين دون لف أو دوران أو مماطلة .
في اعتقادنا أن هذه المواقف الأوروبية ، وإن كانت ناكرة وغير مبررة لا ينبغي أن تحدث صدمة بقدر ما تفرض من ضرورة إعادة النظر في الأسس الحالية التي تقوم عليها ، كون الأنظمة العربية بسياساتها هي المسؤولة عن ما آلت اليه ، وما يمكن أن يكون لها من تداعيات طالما أنها قائمة بشكلها الحالي دون تغيير .
وفي هذا السياق فان الأنظمة العربية في تعاملها مع الأوروبيين وغيرهم مطالبة أن تتفهم بتعمق ماهية الأسس التي تقوم عليها العلاقات الدولية ، وأن لا تتجاهلها . وهي مطالبة أن لا تتوانى عن إقحام قضاياها في معزل عن تعاملاتها وبخاصة الإقتصادية والتجارية والسياسية ، وعليها ان تأخذ بعين الإعتبار أن الدول الأوروبية متحدة في مواقفها السياسية ومتماسكة في شتى المنابر الدولية . وهي في ذلك إنما تحافظ على مسارات مصالحها في كل الإتجاهات مع الأقطار العربية .
وفي الوقت نفسه ، فإن لها مصالح أخرى ارتأت أن ترجح كفتها لاعتبارات خاصة بها ، أو ادعت انها تقوم بعملية موازنة في ما بين هذه المصالح . والأهم
من ذلك أن هذه المصالح تتأثر سلبا أو إيجابا بحجم الضغوطات التي تمارس عليها ، وكذلك بوزن الضاغطين السياسي والإقتصادي على مستوى العالم .
ومن منطلق أن العلاقات الدولية تقوم على المصالح لا على المبادئ والصداقات التاريخية ، ولا حتى الجوار في أحيان كثيرة ، فإن الأقطار العربية ملومة أيضا كل اللوم كونها تحصد ما زرعته في هذا الميدان السياسي . وكان من المفترض أن تخرج إليه وفي جعبتها أدوات التصدي والدفاع عن مصالحها ، وما أكثر هذه الأدوات العربية لو التفتت إليها الأنظمة العربية وقامت بتفعيلها .
ومثالا لا حصرا النفط العربي والأسواق العربية المفتوحة على مصراعيها للبضائع والمنتجات الأوروبية . وعلى ما يبدو أن هذه الأنظمة لا تمارس أي شكل من أشكال الضغوطات التي هي حقا في أيديها ، وهي لا تفرض شروطها . وكما أثبتت الأيام والتجارب فإن الإكتفاء بالعتب والمناشدة والتمني غير مجد إذا لم يكن مقرونا بالمصالح المشروطة المدافع عنها .
كلمة أخيرة . إن على الأنظمة العربية أن تعيد حساباتها في ما بينها ، ومع الآخرين ، وعليها أن لا تخدع نفسها ، وأن لا تتسرع في إعطاء الأوصاف جزافا ، فهذه الأنظمة هي التي تصف الآخرين ، ومنهم الأوروبيون بأنهم أصدقاء ، أما هؤلاء الآخرون فانهم لم يصفوا مرة العرب بانهم أصدقاء بمعنى الكلمة .
وهذا يفسر حريتهم في إصدار القرارات أيا كانت ، ويفسر أيضا خيبة الأمل المتكررة التي تجنيها هذه الأنظمة جراء سياساتها المتخاذلة وضعفها وتقاعسها أمام التحديات التي تفرض عليها ، وقبل كل هذا وذاك خروجهم غير الموحد لملاقاة هؤلاء الآخرين والتصدي لهم بالأساليب التي يمكن أن يفهموها . وتظل القضية الفلسطينية هي المحرك مهما تكالبت عليها الأيام والليالي .