قصة قصيرة من التراث الفلسطيني:
انشرها لانها هادفة ولها مغزى في هذه الايام‘
بينما كان المختار أبو صايل** يسير مع أبنائه قرب ساحة الساعة المشهورة والمسماة بالدوار في مدينة جبل النار (نابلس العتيقة) في يوم صيف قائظ شديد الحرارة من أيام عام 1936 سنة الإضراب العام من بعد ما أنهى زيارته إلى مريض قريب له منوم في المستشفى الوطني‘
وبينما كان متجها إلى محطة الحافلات القريبة من مبنى البلدية المعروف في المدينة‘ لكي يستقل حافلة بلدته مع مرافقيه من أبناءه‘ أحس فجأة بتعب وألم في ساقيه شديدين أثناء سيره على رصيف الطريق‘ فتوقف قليلا ونظر خلفه إلى أبناءه ومرافقيه ممن كانوا يسيرون وراءه كالعادة دون أن يشعرهم بتعبه وقال لهم: دعونا نسترح قليلا في قهوة السوق القريبة لنحتسي فنجان قهوة وشربة ماء بارد‘ وكتم عنهم ما كان يشعر به وهو الشيخ الجليل الطاعن في السن نحيف البنية واهن العظم مريض السكر‘
ولم يشأ أن يخبرهم بحالة الإعياء التي ألمت به لكي لا يربكهم‘
لأنه كان "جمل المحامل" كما يقولون في الأمثال حيث كان دائماً يؤثر الآخرين على نفسه وكيف لا يؤثر من كانوا معه وهم أبنائه وأقرباؤه؟
وكان هذا سر عظمته‘ وبالفعل اتجهوا جميعا إلى المقهى وجلسوا على طاولة أمام المقهى في الظل قرب الرصيف ‘
وقبل أن يطلبوا المشروب من النادل إذا برجلٍ تبدو على وجهه علامات الشر واليأس والقنوط قد هب من على كرسيه مسرعا نحو المختار ليمسك بتلابيبه ويشده بعنف وقوة وهو يصرخ بأعلى صوته قائلاً: يا مختار ادفع الدين الذي عليك ادفع لي العشرة دنانير التي اقترضتها مني من قبل سنة‘
فهب أبناء المختار على عجلٍ لكي يبطشوا بالرجل على فعلته الحمقاء تلك‘ لإدراكهم بان والدهم ميسور الحال وليس بحاجة لعشرة دنانير ولا مئة‘ ومِنْ مَنْ؟ من شخص بالي الثياب مرتديا بنطالاً وقميصا ونعالاً أكل الدهر عليهم وشرب‘
وهم لا يعرفونه ولم يشاهدوه من قبل‘ علاوة على أن لهجته من لهجات أبناء المدن ولا تمت إلى لهجة الفلاحين أصحاب المروءة بصلة‘
فكيف له أن يعرف والدهم الشيخ؟‘
وبينما هم ممسكين به من تلابيبه ويديه ورقبته يحاولون جره إلى خارج المقهى ليؤدبوه على فعلته الحمقاء تلك‘
إذا بأبيهم المختار الوقور يأمرهم بأن يتركوه فورا قائلاً لهم: دعوه يا أولاد اتركوه معه حق‘
نعم إن له عندي عشرين دينارا لا عشرة‘ واخرج عشرين دينارا من محفظته ونادي الرجل‘
قائلا: يا بني تعال خذ فلوسك أنت ناسي إن لك عندي عشرين ديناراً لا عشرة أنا آسف لقد تأخرت عليك بسدادها اعذرني‘ معك حق أن تغضب وتطلبها كيفما تشاء ومدها عليه‘
كان لتلك المعاملة الكريمة من المختار وقعاً مثل الصاعقة على ذلك الرجل وكأن الشيخ الكريم قد أطلق رصاصة من مسدسه المعلق على كتفه بين عيني ذلك الرجل المتطفل والمتجني عليه وهو المختار الكريم الشهم‘
وكان أيضا كوقع الصاعقة على رؤوس أبنائه وكل الحاضرين من رواد المقهى‘ وعم الذهول على الجميع‘ وساد صمتُ رهيب ووجومٌ وحيرة‘ وتساؤل: كيف؟
الرجل يطلب عشرة دنانير والمختار يعترف له بعشرين دينارا ويمدها عليه بكل طيب خاطر وكرم نفس ‘
عند ذلك أُسقط في يد الرجل المتجني فاقبل مسرعا على المختار وانكب على يده يقبلها ويقبل رأسه معتذرا منه‘ قائلا: يا شيخ يا سيدي أنا آسف والله إني لا أعرفك واني لم أراك من قبل هذا اليوم‘
إنما أنا رجل فقير الحال وأولادي جياع وليس لدي ما أطعمهم وذاك الرجل المسن المحترم وأشار إلى رجل طاعن في السن يجلس داخل المقهى هو الذي قد نصحني عندما أخبرته بحالي قبل قدومكم بان قال لي
عندما أقبلتم من بعيد انظر إلى ذلك الشيخ الجليل القادم مع أبنائه انه مختار قرية (الكرم والجود) وهو شهم وكريم أجودي إن طلبت منه نقودا فسوف يعطيك فورا دون أن يسألك او يستفسر منك لان حالك تغنيه عن سؤالك‘ ولكني خجلت أن أمد يدي إليك طالبا برجاء لأني لست متسولا وتأبى عليَّ كرامتي أن أتسول‘ ولم أتعود أن استجدي من أحد‘ ولولا ظروف الحياة القاسية وطلم الاستعمار البريطاني والحصار والإضراب العام في بلادنا والذين آتيا على الأخضر واليابس سيما ونحن في عام 1936 وأنت تعرف الباقي‘
لذا فقمت بهذه الحركة التمثيلية لأني أدركت من ملامحك عندما رايتك بأنك رجل كريم أجودي ولا تنزل إلى مستوى سفاسف الأمور‘
لكن كيف تعطيني عشرين دينارا وأنا مُتبلٍ عليك بعشرة دنانير‘
فقال له الشيخ: يا بني لقد أدركت انك محتاج ولو جادلتك لشك الناس في ذمتي واعتقدوا أن لك علي دينا وأنا أتهرب من سداده‘ وهذا يسيء إلى سمعتي ومقامي وكرامتي يا بني‘
على كل خذ النقود فإنها حلال عليك ‘ اشتري لأبنائك دقيق وطعام بارك الله فيك‘
وأصبحت تلك الواقعة الحقيقية حكاية يَتندر بها أهل فلسطين إلى حتى الآن.
• إخوتي أخواتي ما أشبه أعداء اليوم بأعداء الأمس وحصار اليوم بحصار الأمس وجوع اليوم بجوع الأمس‘
• لنا الله وحده لا شريك له.
** أبو صايل مختار بلدة طوباس الأسبق وهو من وجهاء فلسطين عاش ما بين 1870 – 1945م
العقيد/المهندس فهمي حمدالله - ساعر الارض-أبو المعتصم3-10-2008