أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 5 من 5

الموضوع: اللامعقول

  1. #1
    قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : Dec 2008
    المشاركات : 33
    المواضيع : 11
    الردود : 33
    المعدل اليومي : 0.01

    افتراضي اللامعقول

    غير معقول , ولكنه حدث , وله بالذات ! عليه أن يكابد هذا كل ليلة , وهو الذي كان يرتجف لمجرد السماع عنه . لو حكي لهم ما يحدث له كل ليلة , لاتهموه بالجنون , برغم أنهم يحكونه و يسمعونه مرارا بلا ملل .
    اسمه عم سعيد . ويعرفونه علي الموقف باسم سعيد المغنواتي . بالمقهي حيث يجلسون بانتظار الدور اعتادوا أن يسمعوا دندنته . صوته مريح , هادئ , خفيض . لا يفهم أحد ما الذي يغنيه بالضبط ولا يريدون . يريدون فقط الجلوس بالقرب منه , ليتسني لآذانهم أن تهدهدها دندنته , والنغم الشجي .
    إن لم يكن في الدنيا للطيبين مكان , فعلي الموقف لا وجود لهم . ولكن الاستثناء موجود دائما . عم سعيد المغنواتي واحد من هذه الاستثناءات . طيبته من نوع خاص , استطاع رفاق الطريق معايشتها و احترامها .
    أن تكون طيبا علي الموقف معناه أن تهان و تُستغفل , ويُؤخذ دورك , ويُزج بك في معارك مصطنعة من أجل السخرية , والاستهزاء , والتسلية .. بك وعليك .
    هذه هي حياة الموقف كما يعيشها سائقوه , أما عم سعيد المغنواتي فيعيشها علي طريقته الخاصة , وقد اعتادو علي الموقف أن يحترموا الرجل بحق , وإن لم يهابوه . هو رجل في حاله , وقد جري اتفاق غير معلن بينهم علي أن يتركوه في حاله .
    في الآونة الأخيرة كف عم سعيد عن الدندنة . لماذا كف عم سعيد عن الدندنة ؟! عم سعيد مهموم ؟ عم سعيد يفكر ؟ عم سعيد ملّ من والدنيا والموقف والعربة و الطريق و الركاب و الزمن الأغبر و العيشة المرة ؟
    خمنوا وتعجبوا وابتلعوا أسئلتكم مع الشاي الأسود ودخان الشيشة , وهواء الموقف الذي ألفتموه فأدمنتوه كالـ... كالأشياء الأخري ! , ولكنكم لن تعرفوا .
    لأن الرجل لن يبوح بسره الرهيب لأحد , ولا حتي لزوجته , ولا حتي لنفسه . يشعر أنه سيجن , و ساعتها ربما .. ربما يثرثر ! . و إلي أن يحدث هذا فهو يدثر سره بالصمت , ويواجهه ليلا - مرغما - وجها لوجه .
    الاعتياد يقتل الخوف . وقريبا سوف يعتاد ويتكيف , وربما يعود يدندن . من يدري ؟ كل شئ ممكن !!
    ولكن الآن بالذات , فالشئ الوحيد الممكن هو الهرب ! . اهرب يا عم سعيد , ادفن نفسك في العمل أكثر , إحرق أكثر وقود العربة , ولكن حاول ألا تفعل بأعصابك نفس الشئ ! . حاول أن تؤخر ميعاد عودتك ما استطعت ولكنك عائد , وها قد جاء الوقت الذي لن تستطيع تجاوزه . تريد أن تبقي ولكنك لن تستطيع . متعب , مكدود , مستهلك كليةً . الحركة بدأت تخف علي الموقف , والانتظار يطول , والعائد غير مجزي , والليل كئيب , والوجوه مسخها التعب وطبعا بطابعه اللعين . لا الركاب سحناتهم تبعث علي الارتياح ولا السائقين . لوحة لا يحب أحد أن يراها اسمها الشقاء !
    كل هذا صحيح , ولكنه ليس السبب في عدم استطاعتك العمل علي الموقف بعد هذا الوقت .
    السبب أن الموقف يتحول في هذا الوقت المتأخر من الليل إلي كائن لا يعرفه عم سعيد , بالسيارات القليلة التي تبقي علي الموقف , والركاب المحدودي العدد غامضي الوجهة , والهدوء المثير للأعصاب و الأذن . والأهم بل والأخطر من كل هذا هو المقهي , الذي يتحول تلقائيا في هذا الوقت إلي وكر , حيث يكفون عن تقديم الشاي لتحل محله أشياء أخري هذا هو ميعادها الرسمي علي الموقف , وتبدأ أحاديث غير التي تدور بالنهار . أبطال أغلبها إما عفاريت الليل أو ... فتياته .
    عدد قليل من السائقين يبقي حتي هذا الوقت . لم يحدث أن كان من بينهم عم سعيد و لن يكون . حتي وهو خائف من العودة , حتي وهو يقدم رجلا و يؤخر رجلا , يحاول ألا يصل ولكنه سيصل . لكل شئ نهاية , فهل لهذا الذي يعانيه نهاية ؟
    ها هو ذا أخيرا علي عتبة بيته . يتوقف قليلا متساندا علي البوابة الحديدية العتيقة , ملتمسا بعض الثواني قبل أن يخطو إلي الداخل , ببطء كي لا يصطدم بها . ها هي ذي كما اعتادها كل ليلة , في ذات الموضع من مدخل بيته الخافتة إضاءته , القادمة من مصباح بعيد نوعا عن هذا الموضع .
    ها هي ذي ثابتة كالجبل , سوداء كأسوأ كوابيسه . ها هي ذي ممدودة في إصرار وتربص وثقة وقسوة . نفس اليد السوداء المبتورة التي لا جسد لها ولا فم , ومع ذلك يسمع الصوت قويا واضحا آمرا يقول في حسم لا يملك حياله سوي الانقياد : ضع نصف الإيراد .
    ومخدرا منقادا مرتجفا يضع يده في جيبه ويخرج إيراد اليوم . يكاد من هلعه أن يضعه كله في هذه اليد ويجري , ولكنه سمع الصوت واضحا : ضع نصف الإيراد , و هو لا ينوي المخالفة و لا يجرؤ أن يفعل . بأصابع كالعجين يضع نصف إيراد العربة في هذه اليد محاذرا أن يلمسها , وبمجرد أن تستقر فيها النقود تختفي كأن لم تكن .
    هذه هي الحكاية إذن ! . هذا هو سرك يا عم سعيد ؟ فقط هذه اللحظات القصار هي ما تؤرقك ؟ فقط هذه اليد السوداء المسالمة التي تأخذ نصف مالك وتختفي هي ما يثير هلعك ؟
    ليس لك حق يا عم سعيد ! . أنت بالذات يجب ألا تندهش لمرأي مثل هذه اليد السوداء . فأنت أكثر من يعرفها . سمعت حكايتها كثيرا ككل سائقي الموقف . الحكاية قديمة وكل الأذن سمعتها وكل الألسنة تداولتها . مع كل عربة جديدة علي الموقف وكل سائق جديد تُحكي , بحيث لم يحدث أن هناك سائقا علي الموقف لم يسمعها ولم يحكها .
    تذكر أول مرة سمعتها ؟ بالضبط يا عم سعيد
    كنت وقتها صغيرا , تركب العربة مع أبيك , وتجمع الأجرة , وتتعلم كل يوم درسا جديدا في القيادة , وتعود فرحا بالمال الذي جنيت و الدرس الذي تعلمت والحكايات التي سمعت . وما أمتع حديث الكبار, الجلوس علي المقهي , والإحساس بالرجولة المبكرة ينبض بكل عرقٍ فيك !
    ما زلت تذكر ذلك اليوم الذي سمعت الحكاية فيه لأول مرة من فم أبيك , وما زالت نفس الرهبة تشملك كلما سمعتها أو جاء دورك لتحكيها . ولا تعرف لماذا أنت بالذات تؤثر فيك جدا هذه الحكاية بينما الجميع يلوكونها بلا أدنى اكتراث .
    الحكاية تقول أنه في يوم من الأيام لم يؤرخ له أحد , اتفق رجلان علي شراء سيارة أجرة يتناوبان العمل عليها علي الموقف و يقتسمان إيرادها آخر اليوم , ولقد كان . إلى أن طمع أحدهما ذات يوم في العربة وفي الإيراد . لماذا يقتسم الإيراد مع شريكه وبوسعه أن يحظى به كله ؟! . هكذا حدثته نفسه الأمارة بالسوء . زينت له الحرام فطمع . قالت له تستطيع أن تحظى بالمال كله فصدق . قالت له اقتل فأطاع . قتل الرجل شريكه وأصبحت العربة له بالكامل . وحدث ما لا يوضع أبدا بالحسبان . في أول يوم يعمل القاتل علي العربة منفردا و يحظى بلإيراد كاملا , تبرز له يد مخيفة من العدم وتأمره بصوت لا يمكن أن يكون من دنيانا : ضع نصف الإيراد . وهنا تحتال حياة القاتل سودا مقيما وجحيما مطبقا . كل ليلة تبرز له اليد وتطالبه بنصف الإيراد و بهلع لا حدود له يستجيب . استمر هذا إلى أن أوشك الرجل علي الجنون فقرر التخلص من العربة . كان متلهفا علي البيع وبأي ثمن . ولقد استغل الشاري هذا وبخسها ثمنها . وباع القاتل العربة بأقل من سعرها بكثير . في الواقع لقد باعها بنصف قيمتها الحقيقية بالضبط ! . ولكن الحكاية لم تنته عند هذا الحد , فاليد السوداء واصلت الظهور وواصلت الممطالبة بنصف الإيراد , ولكن من الشاري هذه المرة . استمر هذا يوميا حتي أخذت اليد السوداء من الشاري ما قيمته بالضبط نصف ثمن العربة , ثم اختفت تماما وإلى الأبد .
    هل خطر ببالك يوما يا عم سعيد أن يحدث هذا فعلا ؟ ولك بالذات ؟
    الحق أن الذي يحدث لعم سعيد قاسٍ جدا . وإنه ليسأل - ومعه حق - لماذا هو بالذات . لماذا اختارته هذه اليد السوداء الشقية التي قررت أن تغادر الحكاية القديمة إلى مدخل بيته ؟ لماذا هو ؟ ثانية يطرح السؤال على نفسه , وهو راقد على فراشه يجتر الذكريات ويحدق في السقف بعينين خاصمهما النعاس . لماذا هو بالذات الذي اختاره ذلك الرجل من بين كل سائقي الموقف ؟
    - لأنك رجل أمين وطيب . سمعت عنك الكثير يا عم سعيد . قالوا لي أنك خير من أثق به
    - ولكن ...
    - ولكن ماذا يا عم سعيد ؟ هل ستخذلني لأني غريب ؟ أنا لا أعرف أحدا في بلدكم هذا , وليست لي خبرة بالموقف ولا بالسيارات ولا بالسائقين ولولا أني سمعت عنك كل خير واطمئننت عندما رأيت وجهك السمح لتركت البلد وبحثت عن رزقي في مكان آخر .
    - يا بني أنا لا أخذلك . حاشا لله ! ولكني أعمل علي عربة الحاج منصور , والرجل لم يسئ إليّ كي أتركه .
    - أنا أحتاجك أكثر منه . أرجوك ياعم سعيد ! أنا الدنيا كلها خذلتني . تعرف لماذا تركت بلدي . بعد ما مات والدي - الله يرحمه - أعمامي أكلوا حقي . قالوا لي ليس لك عندنا شئ . استحوذوا علي الأرض والمواشي و أموال التجارة . الأوراق والعقود وكل ما يثبت حقي عندهم .لم يبق لي إلا البيت ومبلغ صغير . أكلوا حقي ومالي وميراثي - منهم لله - لم أستطع العيش بينهم . بعت كل ما قدرت علي بيعه وتركت لهم البلد . جئت إلي بلدكم وكلي عشم أن أجد ناسا غير الناس . اشتريت هذه العربة لأسترزق منها . فرحت لما سمعت عنك يا عم سعيد . قلت ربي يحبني وسيكتب لي الرزق في هذا البلد .
    - ربنا يرزقك ويعوض عليك , ولكن يا بني هناك ألف من يتمني أن يعمل علي عربتك .
    - وكيف أضمن أنهم لن يسرقوني مثلما سرقني أهلي ؟
    - وكيف تضمن أنني ....
    - سيرتك تسبقك يا عم سعيد . وافق أرجوك .. وافق ولك كل ما تريد ... وافق ولك نصف الإيراد !
    - ولكن يومية السائق عندنا هي ربع الإيراد !
    - السائق يأخذ نصف الإيراد ويسرق أكثر من نصفه . معروف أنه ليس هناك سائق ذمته نظيفة مائة بالمائة . ثم أني راض يا عم سعيد . خذ نصف الإيراد أو أكثر إذا أردت , ولكن لا تخذلني بالله عليك !
    - اتركها لله يابني . سأكلم الحاج منصور , وربنا يقدم ما فيه الخير.
    أغلق عم سعيد عينيه , ولكن النوم أبى إلا أن يعانده . وتزاحمت المشاهد في عقله , ثم توارت جميعا وراء صورة ذلك الشاب العجيب . لقد ظهر في حياته جالبا معه الخير. إن نصف إيراد العربة رفع دخله بصورة لم يكن يحلم بها , ولكنه اختفي فجأة كما ظهر فجأة , وليس هذا ذنب عم سعيد . لقد سال عنه طوب الأرض كما يقولون . ذهب إلي بلدته , أهله قالوا لم نره منذ توفي والده وباع ما يملك وترك البلد . سأل عنه عند من كان يسكن عندهم , قالوا خرج ولم يعد . سأل عنه علي الموقف , علي المقهي .. لا شئ , لا حس و لاخبر . الرجل اختفي كما تختفي اليد السوداء بعدما تأخذ نصف الإيراد !
    ليس هذا ذنبي , والله العظيم ليس ذنبي ! فمن يخبر هذه اليد السوداء اللعينة ؟! .
    في كل الليالي التالية واصلت اليد السوداء ظهورها , وواصلت المطالبة بنصف الإيراد , إلي أن بدا وكأن هذا سيستمر إلي الأبد , ولكن العجيب حقا هو هذا الثبات الذي بات عم سعيد يضع به النقود كل يوم . والأعجب هو هذا الارتياح الذي يبدو مفترشا ملامح عم سعيد بعد أن يضع نصف المال في هذه اليد , وكأنه يتخلص من حمل ٍ ثقيل !
    علي كل حال انتظمت حياة عم سعيد , واعتاد وجود اليد السوداء في حياته التي - وبرغم كل شئ - لا يكرهها . فالشمس تطلع صباحا في الشرق , واليد السوداء تطلع مساءا في مدخل بيته ! وعاد عم سعيد يدندن , ويبتسم .
    ولكن الدنيا لا تبقى على حال .. إنها أبدا لا تفعل ! هو الألم الذي لابد منه أو ربما ملح الحياة التي لا تستقيم بدونه . إذن لابد أن يمرض ابنك يا عم سعيد لأنه مكتوب . ولا بد أن يكون دخلك أهزل من أن يواجه وحش المصاريف لأنه قدر . المرض خطير كما وصفه الأطباء , والأصدق منهم هو وجه ابنك الذي رسم عليه المرض خارطة للألم لن يتوه فيها أب مثلك يا عم سعيد . العلاج سيطول ... هكذا قالوا . والتأخيرخطير ... هكذا قال وجه ابنك الذي تنطفئ حيويته يوما بعد يوم . تدفع يا عم سعيد كل ما تملك . ينفذ مالك . تزيد عدد ساعات عملك لتغطي المصاريف . يزيد تعبك , ولكن كل شئ يهون من أجل الضنا . يزيد دخلك , ويزيد أيضا ما تأخذه منك اليد السوداء .
    كنت قد وصلت معها إلى حالة سلام من زمن , أما الآن فأنت في أمس الحاجة لما تأخذه منك يوميا . ويتحرك في صدرك شئ تجاهها , يبدو أنها تستشعره فتطالبك بما تطالبك به يوميا بصرامة أكبر. حالة ابنك تتدهور . تعمل أكثر . النقود لا تكفي . زوجتك تنظر لك نظرات لا تعرف تفسيرها . نظرات فيها رجاء واستعطاف . نظرات تحثك علي شئ لا تدريه وكأنها تطالبك بشئ هي تعلم أنه بوسعك ؟! نظراتها تربكك . هل تراك تتوهم أم أنها تعرف سر اليد السوداء ؟!
    ويرتجف عم سعيد . هل جاء وقت التمرد ؟ هل جاء الوقت الذي يقول فيه لا لهذه اليد اللحوح ؟
    حالة ابنك تسوء يا عم سعيد . الأطباء يقولون انه لابد من جراحة . المبلغ كبير , وما باليد حيلة . فهل تفعلها ؟
    في الليل يواجه اليد االسوداء وقد أضمر أمرا ما . يقف أمامها مترددا . يقول الصوت : ضع نصف الإيراد . يضع يده في جيبه ... يخرجها خاوية ... ضع نصف الإيراد... يغلق عينيه ... يتجمد كتمثال ... ضع نصف الإيراد ..يسمع صداها رنانا مزلزلا في كل أعضائه وخلاياه ... ضع نصف الإيراد ... تخترق روحه ذاتها ... ضع نصف الإيراد ... يضع نصف الإيراد ! ويهرول إلى شقته .. إلي فراشه , وينفجر في البكاء . و عندما يفتح عينيه يجد أن رأسه على كتف زوجته , وأنها تمسح علي رأسه , وأنها تواسيه , وأنها تقول كلاما كثيرا لا يسمعه . ولكن كلمة نقود التي التقطتها أذنه من بين كلامها جعلته يرفع رأسه , ويتطلع إليها بثبات . تقول له في صبر :
    لا تحمل هما يا سعيد . النقود تتدبر , والولد إن شاء الله ربنا لن يخذلنا فيه . سوف نستدين ... نعمل جمعية ... نرهن البيت ... وستفرج .
    ولقد فرجت ! استدانوا .. عملوا جمعية .. وساعدهم الناس .. كل الناس . وأجري الولد الجراحة , وأصبح مثل الحصان . و مرت الأزمة , وجاءت أزمات . وكبر الولد وزادت طلباته . وزادت تكاليف الحياة . وزادت اليد السوداء من إصرارها وصرامتها ! ولم يخالفها عم سعيد . حتى عندما خُطبت أخته , حتي عندما جاء موعد زفافها , حتي وهو يحتال علي الظروف , ويشقى بالعمل , ويحرم نفسه إلى حد الجوع ليؤمن مصاريف جهازها !
    ولكن الأيام كانت تدخر لعم سعيد مفاجأة أخري .. بالأحرى هي المفاجأة الكبرى ! لقد عاد الرجل .. صاحب العربة ! رآه عم سعيد وهو عائد إلى الموقف بعد استراحة الغداء . كان جالسا بالمقهى وحوله ناس كثيرون , وجميعهم يتحدث إليه وهو يتحدث إلى الكل في ذات الآن مستعينا بكلتا يديه لتسعدانه على مخاطبة الجميع ! لم يقترب عم سعيد , بل عاد أدراجه في هدوء قلق . أفكار حارقة يدور في فلكها عم سعيد طوال الطريق إلى بيته . تصطدم أفكاره بالبوابة الحديدية العتيقة . يقف أمامها شاردا . يفتحها ويدخل . يتأكد من إغلاقها جيدا ورائه , كأنما يختبئ من الرجل , ومن أفكاره . الحق أنه يود لو يختبئ من جلده ذاته ! ينتفض إذ يسمع صوت زوجته منتزعا إياه من هوة سحيقة :
    - مالك تقف هكذا يا سعيد ؟!
    - ...............
    تقترب منه , تتفرس في ملامحه
    - مالك مهموما هكذا ؟!
    - لقد عاد صاحب العربة !
    - وماذا في هذا , من الأفضل أنه عاد .
    - وماله ؟!
    - ألن تعطيه ماله ؟!
    ينظر لها بذهول
    - من أين ؟!
    هنا يجئ دورها هي في الذهول . تتسع عيناها على آخرهما . تحدق فيه بدهشة لا حد لها , ثم تلين ملامحها ببطء . تتجاوزه ببضع خطوات . تقترب من بئر السلم , وتشير إلى صندوق حديدي عتيق عليه قفل ضخم وتقول :
    - من هنا
    ينظر لها باستغراب
    - وماذا يوجد هنا ؟
    انفجرت أعصابها مع كلماتها التي تناثرت بسرعة أكبر من قدرته على الفهم :
    - يوجد هنا المال الذي كنت تضعه كل ليلة . ثلاث سنوات وأنت تضع المال هنا كل ليلة . المال الذي كنت تضعه هنا وابنك مريض . المال الذي كنت تضعه هنا وأختك تتزوج . المال الذي كنت تضعه هنا ونحن نرمم البيت . المال الذي كنت تضعه هنا ونحن نستدين . المال الذي كنت تحتفظ به لرجل الله وحده يعلم إن كان حيا أم ميتا . ثم ماذا ؟!! تريد أن تنكرعلى الرجل ماله بعد أن عاد .. بعد أن لم نعد نحتاجه ؟! ما ....
    لم تكمل كلامها لأن من كانت تخاطبه لم يعد واقفا أمامها , لأنه ببساطة لم يحتمل كل هذه المفاجآت فسقط تحت وطأتها . سقط فاقدا الوعي وفاقدا الفهم وفاقدا القدرة على سماع المزيد !
    عندما أفاق عم سعيد وجد نفسه في شقته , وبعد حديث طويل مع زوجته أدرك أنه لم يكن يدرك نفسه جيدا . أدرك أننا سنعيش ونموت دون أن نفهم هذه الحياة !
    أخبرته زوجته بحكاية الثلاث سنوات , بالجانب الآخر الذي لا يعرفه من الحكاية . بدأت معرفتها هي به عندما تأخر في تلك الليلة عن المعتاد . خرجت تنتظره في الشرفة . رأته وهو يفتح البوابة ويدخل فدخلت . انتظرته يصعد فلم يفعل . اعتراها القلق . نزلت لترى ماذا هنالك . أطلت برأسها من على السلم . شاهدته وهو يخرج النقود من جيبه ويضعها في الصندوق القديم أسفل السلم والذي ورثه عن أبيه , ثم يغلق القفل بإحكام . لم تشأ أن تسأله عما رأت . انتظرت أن يخبرها هو فلم يفعل , فصمتت كما صمت هو . رأته بعد ذلك كثيرا يفعل نفس الشئ , وعرفت أنه يفعل هذا يوميا . احترمت سره وصمته , وفي أحلك المواقف لم تنبس عنه ببنت شفة .
    - ولماذا قدرت أنني أحتفظ بالمال لصاحب العربة ؟! ( سألها عم سعيد متظاهرا بالتماسك )
    تنظر لصورة أبيه على الحائط و التي يلمع بركنها الأعلي شريط أسود وتقول ساهمة :
    - لأنك سعيد ابن عم حامد . هكذا أنتم ... المال الذي ليس لكم تخشونه كالسعير!
    إلى أن فتح عم سعيد الصندوق وأمسك النقود بيديه كان ما زال يشك في رواية زوجته . الآن ليس من حقه أن يشك , بل إن هذا هو وقت اليقين ... اليقين بأن اليد السوداء لم تغادر الحكاية القديمة إلي مدخل بيته , بل إلى خياله , وأنها أبدا لم تخرج منه !
    ينظر عم سعيد إلى النقود في يده . يشد قبضته عليها . يحاول أن يعتصر منها اليقين ويرتوي منه , ولكن شيئا ما ينخر في هذا اليقين ولا يريد له أن يستقر بصدره . شئ يقول له في إلحاح أنه لم يكن يهذي , وأن ما رآه لم يكن وهما . ثلاث سنوات يسمعها ويراها ويطيعها ويشعر أن لكل هذا مغزى . من المستحيل أن يكون كل هذا مجرد وهم ! الوهم لا يكون بهذا الوضوح ... بهذا الإلحاح .. أم هل يكون ؟! ثلاث سنوات ؟ ثلاث سنوات من الوهم ؟!
    ولم يهتد عم سعيد إلى شئ . هناك أشياء لا يحسمها التفكير ... أبدا!
    الشئ الوحيد المحسوم والواضح هو هذه النقود التي ترقد الآن على المنضدة المتهالكة بالمقهى , تبللها دموع رجل ينظر لعم سعيد بامتنان ولسان غير قادر على النطق .
    كان عم سعيد قد عرف أنه دخل السجن بسبب شجار كان قد تدخل لفضه بينما كان ينهي بعض المتعلقات مع الرجل الذي اشترى منه العربة . العجيب أنه لا يعرف أيا من طرفي الشجار الذي تطور إلي حد خطير جدا . فقط مروءة لم يعد هذا زمنها هي ما دفع ثمنها من عمره . أحد زملاء السجن أخبره أن أحد أصدقائه خارج السجن يستطيع أن يؤمن له السفر إلى الخارج . توا ذهب إليه بعد ما خرج من السجن , ومن عنده إلى المقهى رأسا .
    - لولا أنني بحاجة إلى المال كي أسافر لما جئت إلى هنا " يقول الرجل " بصراحة لم أتوقع أبدا أن " تتلألأ في عينيه الدموع من جديد " أن يكون في الدنيا رجل مثلك يا عم سعيد . غاية ما طمحت إليه أن أستطيع استرداد العربة وبيعها كي أ ......
    انتفاضة عم سعيد جعلته يبتسم في لطف عندما رأى الإنزعاج وقد التهم ملامحه
    - لا تقلق يا عم سعيد . لن أبيع العربة . إن المبلغ الذى جئتني به أكبر مما أحتاج إليه .
    - مازلت مصرا على السفر ؟
    - وماذا بقي لي هنا ؟ علي كل حال سأترك لك العربة .
    - وسأحافظ لك عليها , ومالك محفوظ حتى .......
    - لا يا عم سعيد . بل هي لك بالكامل , سأسجلها لك قبل سفري بيعا وشراء
    أراد عم سعيد ان يقول شيئا , أي شئ , ولكن الكلام ما إن غادر حلقه حتى تعثر على شفتيه
    - لا تقل شيئا . ليتني أستطيع أن أعبر لك عن شكري بأكثر من هذا . بسببك لن أستطيع أن أقول أنني لم أجد الخير في هذه البلد , بسببك لن أستطيع أن أكرهها . مبارك العربة يا عم سعيد !
    في ليلته الأولى بعد امتلاك العربة , وفي مدخل بيته , يشاهد في الإضاءة الخافتة يدا مفتوحة متربصة و الصوت يقول : ضع نصف الإيراد!
    يبتسم عم سعيد في خبث , ويجذب إليه يد زوجته . يضع فيها شيئا ما ويغلقها عليه , ثم يقبض عليها بحنو قائلا : بل كل الإيراد !
    و يجلجل ضحكهما
    .
    .
    تم

  2. #2
    الصورة الرمزية سعيدة الهاشمي قلم فعال
    تاريخ التسجيل : Sep 2008
    المشاركات : 1,346
    المواضيع : 10
    الردود : 1346
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

    أختي فدوى استمتعت بها كثيرا، تتبعت الأحداث تتبعا دقيقا لعلي أقف على حقيقة تلك اليد السوداء

    فتفاجأت مثلما تفاجأ العم سعيد بأنها ليست موجودة، قبل أن أصل إلى النهاية دارت بمخيلتي عدة

    احتمالات تلاشت كلها بوقوفي على النهاية، ربما هي يد الضمير.

    لقد صبر العم سعيد وجوزيَ على صبره.

    قصة ذات معنى عميق فيها رصد لبعض المواقف التي تتخلل حياة السائقين.

    تحيتي واحترامي.

  3. #3
    قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : Dec 2008
    المشاركات : 33
    المواضيع : 11
    الردود : 33
    المعدل اليومي : 0.01

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة سعيدة الهاشمي مشاهدة المشاركة
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

    أختي فدوى استمتعت بها كثيرا، تتبعت الأحداث تتبعا دقيقا لعلي أقف على حقيقة تلك اليد السوداء

    فتفاجأت مثلما تفاجأ العم سعيد بأنها ليست موجودة، قبل أن أصل إلى النهاية دارت بمخيلتي عدة

    احتمالات تلاشت كلها بوقوفي على النهاية، ربما هي يد الضمير.

    لقد صبر العم سعيد وجوزيَ على صبره.

    قصة ذات معنى عميق فيها رصد لبعض المواقف التي تتخلل حياة السائقين.

    تحيتي واحترامي.
    سعيدة أستاذتنا بهذه القراءة , وبأنها راقت ذائقتكم
    كل الود

  4. #4
    الصورة الرمزية راضي الضميري أديب
    تاريخ التسجيل : Feb 2007
    المشاركات : 2,891
    المواضيع : 147
    الردود : 2891
    المعدل اليومي : 0.45

    افتراضي

    كثيرًا ما أسمع هذه العبارة " لم يبقَ في الدنيا خير " وتحت ضغط الظروف وبعض المواقف الصعبة التي تعكس مدى السوء الذي وصلت إليه أخلاق بعض أردّدها أنا أيضًا ، لكن الخير موجود وبقوة على ساحة هذا المجتمع الكبير ، بل في أماكن قد لا نتخيل أنْ يكون الخير موجود فيها ، هذا الخير هو الأمانة والضمير الحيّ والثقة التي كادت أن تنعدم بين النّاس ومعها كل ما سبق ذكره .
    قرأتها واستمتعت بها ، والعم سعيد يوجد مثله أناس كثر ، سائقين وعمال وفي كل المجالات ، هناك الشر وهناك الخير ، ما رأيناه يرصد صورًا كثيرًا ، أبرزها أنْ يكون ضمير الإنسان صاحيًا وليس في إجازة مفتوحة كما عند الكثير ، ومن ذاق طعم الحلال وتربى عليه فلن يأكل الحرام حتى لو مات جوعًا .
    لديك قدرة رائعة على الإمساك بتفاصيل الحدث ، وصنع التشويق اللازم لكي يبقَ القارئ في حالة شوق لمعرفة نتيجتها .

    أديبتنا الصادقة فدوى فكري شكرًا على هذه القصة الجميلة.
    تقديري واحترامي
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  5. #5
    قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : Dec 2008
    المشاركات : 33
    المواضيع : 11
    الردود : 33
    المعدل اليومي : 0.01

    افتراضي

    أستاذنا راضي الضميري
    طبعا مازال الخير موجودا وسيزال , ولكن لا مفر من الإعتراف بأنه صار شحيحا حتي أنه لا يكاد يُري
    شكرا لهذا الحضور الكريم
    وشكرا لأنك صبرت عليها " طويلة إلي حد ما " , ولم يدفعك طولها لعدم إكمالها و خاصة أن اسم الكاتب جديد ولا يعد بمتعة أدبية تصاحب اسم أديب معروف
    ممتنة للحضور
    تقديري

المواضيع المتشابهه

  1. اللامعقول !!!
    بواسطة عبدالقادر الحسيني في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 18
    آخر مشاركة: 19-04-2019, 01:18 AM
  2. حواجز اللامعقول – البحث عن الذات
    بواسطة محمد رامي في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 13
    آخر مشاركة: 08-12-2014, 10:29 AM