“يريدونني إما أسيرا وإما طريدا وإما قتيلا، وأنا أقول لهم بل شهيدا شهيدا شهيدا”.
الزعيم المجاهد .
بعد أن قمت بنشر أجزاءً من “اعترافات ثوري مهزوم”، في عدة مواقع على الشبكة العنكبوتية، لم يتوقف جرس هاتفي النقال عن الرنين، تلقيت مكالمات كثيرة، أعرب بعض المهاتفين عن شكرهم وسعادتهم على صراحتي، وبعضهم ذمني على خيانتي، وطلب آخرون مني أن أسهب في اعترافاتي، وأكشف المستور من جرائمي، وأدعمها بالحقائق والإثباتات.
إن اعترفت بجرائمي، سيكون عملا غير مسبوق، لم يقم به أحد غيري من قبل، ترددت في الإيغال في اعترافاتي، وخشيت من العاقبة، كيف لي أن أكشف عن تلك الجرائم، وأُعرض نفسي للمحاكمة، كيف سيذكرني التاريخ؟
هل سيتذكرني الناس، كما يتذكرون خيانات الوزير الفاطمي شاور، الذي مكن الفرنجة من إخضاع قاهرة المعز لدين الله، طيب الله ذكره. أليست الخيانة جريمة؟ أليس التنسيق الأمني مع العدو كبيرة من الكبائر؟ أليست الوشاية بالمقاومين وزجهم في السجون، وتعذيبهم وقتلهم من أكبر الكبائر؟
ولكني اعتبرت ذلك عملا وطنيا، وجزءا من المشروع الوطني لشعبنا، وخدمة له، كنت أردد تلك الشعارات الطنانة صبحا ومساءً، وصدقتها، صدقت أن كل الخيانات والتنازلات والمساومات والتراجعات والخيبات والتبريرات والقرارات والمؤتمرات، وحتى الإختلاسات، كانت جزءا من المشروع الوطني.
العملاء وطنيون، والوطنيون متطرفون ومغامرون وإرهابيون وحالمون. لغة جديدة تحمل معان معكوسة، لغة حولت النضال إلى ارهاب، والمطالبة بالحقوق إلى موقف متطرف.
انقلبت الأمور رأسا على عقب بعد أحداث غزة، وانكشفت أمام ناظريّ تلك المسرحية الهزيلة الدموية القاتلة الكاذبة التي يطلق عليها “عملية السلام”، أي سلام هذا الذي يُبنى صرحه بجماجم الأطفال، وأي أمن وأمان يقام على أنقاض البيوت المدمرة.
العقيد أبو العبد
-11-
-12-
كان من بين الأشخاص الذين اتصلوا بي، زميلي، ورفيق دربي في الفساد والتآمر، والخيانة، وأحد أفراد عصابتي العقيد أبو العبد، رئيس شعبة التوجيه السياسي في دائرة المخابرات العامه، وطلب مني القدوم إلى منزله، في الساعة العاشرة صباحا. كان ابو العبد رجلا ضخم الجسم، أصلع، وله عينان ذئبيتان.
وصلت في الوقت المحدد، وكان لديه ثلاثة حراس، بدون أسلحة، وكان مهموما، بعد قيام الزعيم بعزله عن منصبه. خاطبني وقال: الزعيم المجاهد حانق عليك.
- لماذا؟
- علم بالخطة الأمنية.
- عن أية خطة تتحدث؟
- الخطة التي أبرمتها أنت مع رئيس أركان العدو والجنرال.
- ليس لدي أي خطة، وهذه اكذوبة كبيرة.
- لا تنكر، لدي إثبات، صمت العقيد، وهو يحدق في وجهي.
كنت أرتعد من الخوف، وفأجأني العقيد، بذلك، لكني حافظت على رباطة جأشي، وقلت متحديا: لم أبرم أي خطة.
تبسم العقيد بخبث، وقال: اسمع يا ثائر، سأريك الأثبات حتى تصدق.
فتح العقيد جارورا في مكتبه، وأخرج ملفا، وفتحه، مخرجا وثيقة تحمل توقيعي وتوقيع الجنرال، وكذلك رئيس الأركان، وقال: هذه الوثيقة تتحدث عن الخطة، وهي من شقين: الشق الأول هو التخلص من الزعيم المجاهد، والثاني إشعال حرب أهلية، وهناك تفاصيل عن شحنات الأسلحة الحديثة والذخائر، ونواظير الرؤية الليلية، كذلك مدفعين، وصواريخ، سترسل إلى مقرك. وحسب الخطة، طلب منك القيام باغتيال شخصيات مقربة إلى الزعيم المجاهد، ثم تزعم أن المقاومة كانت وراء الإغتيالات، فيصبح الزعيم بعد ذلك معاديا لها، وتنفجر حرب أهلية ضروس.
تقول الوثائق أن الزعيم كان مطلعا على خطة تهريب سفينة محملة بالأسلحة، لتسليمها إلى المقاومين، ثم أخرج العقيد عدة خرائط، وعليها إشارات وعلامات ملونة عن أماكن تخزين الأسلحة لدى المقاومة، وأماكن تصنيع الصواريخ، وصور للأنفاق, توصل العدو بعد ذلك إلى استنتاج خطير، وهو أن الزعيم المجاهد أصبح عقبة أمام تحقيق السلام، ولا بد من إزالته.
ثم أخرج العقيد وثيقة، سُجل فيها تفاصيل الحوار الذي دار بيني وبين رئيس الأركان، وذكرت الوثيقة أنني نصحت قائد أركان العدو ألا يدمر مقر الزعيم، ولا يقتله، لأنه سيصبح شهيدا، وتتفجر مقاومة عنيدة ضد الاحتلال، واقترح رئيس الأركان أن يقتحم الجيش مقر الزعيم، ويقوم باعتقاله ونفيه، فقلت إن هذا الرأي فاسد، فطرد الزعيم من البلاد، سيكون وبالا عليكم، سيشن مقاومة من الخارج، وتزداد سطوته، وتأثيره، ولن يجرؤ أحد هنا أن يتوصل إلى اتفاق سلام، واستقر الرأي بعد مداولات طويلة على تسميمه، وتبرعت أن أقوم بهذه المهمة، حسب ما ذُكر في الوثيقة.
قلت، بصوت متهدج مخاطبا العقيد : أنت أسوأ عميل، تخون أصدقائك، ألم نشترك معا في مهمات كثيرة.
- ولكنك استأثرت بكل شيء لنفسك: الضرائب، صفقات الاسمنت، والزلط، والبترول، الرسوم التي يدفعها التجار للمعابر، وأثمان تصاريح العمل التي يدفعها العمال للسماح لهم بالعمل في مصانع العدو ومزارعه، ونسيت صديقك الذي أمضى معك سنوات المنفى، هذا موقف أقل ما أقول فيه أنه نذالة.
- أنت تتهمني بالنذالة، وانت اعتقلت أقاربك المقاومين، ألم تحصل على أموال كثيرة من شركات التأمين لدى العدو، لقاء قيامك بحملة ضد سرقة السيارات، وهل منعت السرقة؟ طبعا، لم تفعل شيئا، فرجالك يتعاونون مع زعران مافيا العدو، الذين يسرقون السيارات، ويهربونها إلى مدننا، ثم تكتب على لوحاتها حرف م، أي مسروق، مقابل رسوم وكومسيون يدخل إلى حساباتك، فهل شاركتني ذلك؟ ألم تعلم أن الشعب يتكبد خسائر فادحة، فالناس يستخدمون سيارات مسروقة، بدلا من شراء سيارات جديدة، تحصل الحكومة منها على جمارك وضرائب، تقدر قيمتها بالملايين. صدقت نفسك أنك قائد مهم، وتماديت في الخيانة.
اغتاظ العقيد غيظا شديدا وقال بصوت يقطر حقدا : كلنا في الهوا سوا، لكن وضعك أسوأ مني، فما قمت به بسيط، سيارات ورسوم وجمارك، صحيح أنني نقلت معلومات إلى العدو عن خلايا المقاومة السرية، وسلمت عددا من المقاومين، لكن جرائمي لا يمكن مقارنتها بجرائمك، أنت اعددت خطة للتخلص من الزعيم وتفجير حرب أهلية مدمرة.
ثم أضاف، بغيظ شديد: أنت تؤكد لرئيس الاركان أنك ستنجح في إجهاض المقاومة، وسيقتل نحو خمسة آلاف شخص في الاشتباكات بين مليشياتك والمقاومين.
قال ذلك وأغلق الملف وأعاده إلى الجارور، وقال: أرسلت صورة عنه للزعيم.
تمالكت أعصابي وقلت بثبات:
- لن يقدر الزعيم أن يفعل شيئا ضدي، ولن يقدر على طردي من منصبي
- بل يقدر على إعدامك، بكلمة واحده، وكل ما يحتاجه أن يشيع عنك بأنك كرزاي فلسطين.
- لن يقدر، قلت ببرود.
- لماذا أنت واثق من نفسك؟
- إنه بحاجة إلى خدماتي. أنا ضابط اتصال على مستوى رفيع مع العدو، رئيس وزراء العدو يستمع إليً، ويرد على مكالماتي. اجتمعت مع الزعيم بالأمس وطلب مني أن اجري اتصالات مع رئيس أركان العدو، لارفع الحصار عنه.
كتم العقيد أبو العبد غيظه، لأنه يعرف أن لدي علاقات متينة وواسعة مع العدو أكثر منه، وكان متأكدا أن يد الزعيم مغلولة، لأنني أمتلك مفاتيح فك الحصار.
عدت إلى منزلي، وأويت إلى فراشي في ساعة متأخرة، وشرقت وغربت في أحلامي، أحسست أن مصيري أصبح في مهب الريح.
………………………(يتبع)
صحفي فلسطيني من القدس