بقايا حطام
وهل هناك حطام؟ أو ما تبقى من هشيم الحطام؟ حتى نقف لنبكي على أطلال هدمتها الأطلال، أو نذرف الدمع على كرامة انسابت من بين أناملنا كما ينساب الهواء من بين أوراق الخريف الملفوح بجفاف الروح والعقل والنخوة.
سيخرج قارىء مغوار، أو ناقد محشو بعصير كرامة عفنة، أو كاتب يعتبر من حروفه سلاحا مشهرا من اجل الحق، من اجل الناس، من اجل الإنسانية، ليتشدقوا بقدرتهم على الإيمان بما تحمل النفس العربية والإسلامية من عزيمة تتصل بالثقة بالمستقبل، المستقبل الملفوف بين طيات مجهول نستطيع بقلة الحيلة فقط، وليس بالذكاء والبصيرة، أن ندرك ملامحه وتكوينه، تقاسيمه الكاملة، التي لا تعترف بفترة طفولة، أو فترة مراهقة، بل هي ملامح وتقاسيم الرشد والنضوج، التي تحمل داخلها سواعد التحكم بمعطيات الجغرافيا والتاريخ، لكنه المستقبل الذي لا يعترف فينا إلا اعتراف السيد بعبده، واعتراف القادر بالعاجز الكسيح، واعتراف حاجة الأمم لممارسة قدراتها في ممارسة الذل والهوان على امة تدعى الأمة العربية أو العربية الإسلامية.
سيقول أولئك: البكاء من شيم النساء، حسنا وهل نحن كأمة كاملة، حكاما ومحكومين، علماء وفلاسفة، كتاب وشعراء، أذكياء وأغبياء، هل وصلنا مرحلة النسوة؟ أم وصلنا مرحلة النقاء والصفاء التي تتمتع بها نسوة العالم المضطهد المهان المنزوع النخوة والكرامة؟ أم هل ارتقينا إلى مستوى قدم امرأة كامرأة غزة التي وقفت أمام بيتها المهدم لتقول: بكرامة النسوة والأنوثة، نحن سنعيش هنا، تحت الردم والهدم، على ألا تنتقص ذرة من كرامة الشعب الفلسطيني؟ هل حقا وصل علماء الأمة ومفكريها بكل أجناسهم وأشتاتهم إلى مستوى قدم الطفلة التي فقدت رجليها، فتحدثت، كما تحدث الصحابة، بقوة عزم وتصميم عن مستقبلها الصحفي؟ هل نحن حقا امة تنتمي إلى وجود؟ أو ما يشبه الوجود؟
اشك في ذلك، بل أنا على يقين بان وجودنا على الأرض منوط فقط بامتياز الأمم الأخرى على قدرتها بإجراء التجارب علينا، تماما كما تجري تجاربها على الفئران.
منذ سنوات ليس ببعيدة، حاصرت القوات الصهيونية مقر الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في رام الله، حصار موت محقق، تبدت علاماته منذ الوهلة الأولى، ووقف العالم العربي والإسلامي يشاهد وينتظر، وهو مشلول بالعجز والرعب والانهيار، دون أن ينبس ببنت شفة، أو يتحرك قيد شعرة، إلى أن خرج الرئيس من مقره ليقضي نحبه في فرنسا، عندها تحركت فرنسا وأقامت للعدالة الدولية جنازة تتمثل بقائد تاريخي، تم اغتياله من قوة استعمارية، لأنه تجرأ ورفض ليس التخلي عن كل الوطن، بل عن جزء يسير من الوطن، ونهضت مصر، أم الدنيا، - ولا اعلم أي أم وأي دنيا – لتمارس قدرتها وشموخها في استحداث جنازة للقائد الذي كان فاتحة الشهية الدولية الاستعمارية للحاق برموزنا البشرية والعقدية، ووصل الجثمان إلى ارض فلسطين، ولم تتمكن الأمتين العربية والإسلامية، بما يملكون من تخاذل وتبعية واستسلام للصهيونية، أن يصلوا بالاستعمار أن يمن على قائد بالدفن في ساحة الأقصى المبارك.
وتوالت الأحداث، قصفت العراق، عاصمة الرشيد والمنصور والمعتصم والمأمون، بعد أن حوصرت أعوام طويلة، ليسقط ما يزيد عن مليون عراقي بين أطفال وشيوخ ونساء، وسقطت بغداد، بأيدي استعمار وقح وشرس، وسالت الدماء، وهدمت المنازل والمساجد والجامعات والجسور ومحطات المياه والكهرباء، فأعيدت بغداد الحضارة والتاريخ والشموخ، إلى عصر حجري إن لم يكن اقل من ذلك، وفاضت الأرواح، واغتصبت النساء، واغتصب الرجال، رجال العراق الذين وقفوا سدا منيعا أما أطماع الدولة الفارسية، بأجسادهم وأرواحهم، رجال العراق الذين ما زالوا يقبعون بأرض فلسطين في جنين، رجال الوطن الذي دافع بكل ما يملك عن كرامة الأمتين العربية والإسلامية، هؤلاء الرجال تم اغتصابهم، هل يستطيع العقل العربي والإسلامي أن يصل إلى معنى اغتصاب الماجدات العراقيات، واغتصاب أبطال الأمة، ليتحدث هذا العقل عن كرامة أو شبه كرامة، عن نخوة أو شبه نخوة، عن حمية أو شبه حمية؟
واعتقل الرئيس العراقي، الذي وقف حتى آخر لحظة من حياته وهو يدافع عن كرامته الشخصية التي تتصل بكرامة الأمة، اعتقل بطريقة لا نعلمها، وقدم لنا بطريقة مهينة مذلة، ليستطيع زعماء الأمة إدراك ما سيحيق بهم لو فكروا للحظة واحدة، أن يخرجوا عن الطوق الذي يلف أعناقهم، وسيق إلى منصة الموت، فكان آخر عهده بالدنيا رجولة تتفجر بالرجولة، حين قال لمن تلثموا خوفا من هيبته وقدرته ورجولته، حتى وهو أمام الموت، - هاي هي الرجلة – وسلمت العراق لحزمة من المرتزقة والخونة، كما سلمت أفغانستان إلى حفنة من العملاء المقززين، وكما ستسلم أقطار أخرى إلى حفنات من المرتزقة والعملاء.
وفوق كل هذا، تم المس بسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، وكذلك إهانة القرآن الكريم، كلام الله تعالى، هل حقا يدرك العرب والمسلمين، بان القرآن الكريم كلام الله تعالى؟ وإذا أدركوا ذلك، هل يدركون القيمة المقدسة لكلام الله جل شأنه؟
وقبل اشهر فقط، تم قصف قطاع غزة، بموت من كل مكان ومن كل شبر، سقط الشهداء، وتعاظم عدد الجرحى، وهدمت البيوت والمدارس والمساجد والجامعات، وحوصر القطاع، فلا ماء ولا طعام ولا دواء، وحتى لا هواء كالهواء، بل هواء مسموم بالغبار والغازات ورائحة الموت والأشلاء والدموع والآهات.
كل هذا بتصريح أوروبي أمريكي، بتصريح من العالم المتحضر الذي يقود العالم والجهلة من أمثالنا إلى مفهوم الحرية والديمقراطية، فماذا فعل الشعب العربي الإسلامي؟ وماذا فعل الحاكم العربي الإسلامي، وماذا فعل علماء العرب والإسلام؟ قد يخطر لقائل أن يقول: بأنهم نددوا وشجبوا واستنكروا، أما أنا فأقول بان فعلهم تجاوز ذلك، وارتقى إلى مرتبة الفعل الخلاق المبتكر، وبذلوا كل ما يمكن بذله من نفيس وغال، للمشاركة بتلك الجرائم بكل ما يملكون من إرادة وقوة، وساندتهم الجيوش المحترفة بسحق الشعوب، والماهرة إلى حد الإبداع بالانحناء إلى سادة العالم المتحضر، بل والى عاهرات العالم المتحضر.
واليوم، يعود ابن المقفع وبيدبا، حين أعلنت محكمة الجنايات الدولية مذكرة لاعتقال الرئيس السوداني عمر البشير، لأنه فقط لا يريد التفريط بالوطن أو يقبل تقسيمه، ولأنه فقط يحب وطنه أكثر من حبه لعاهرات وعهرة العالم المتحضر، ولأنه وهذا الأهم، رفض الطوق الذي التف حول رقاب قادة العرب والمسلمين، فمنح الكرامة والنخوة قيمة لها لمعان جبهته السمراء الطاهرة.
طبعا من أقصى درجات العهر الموسوم بالعهر، والصفاقة الضاجة بالصفاقة، والحماقة المسكونة بالحماقة، أن أحاول جس نبض الشارع العربي والإسلامي، أو نبض الحاكم العربي والإسلامي، في محاولة للتعرف على ما يمكن أن يبذل من اجل حماية البشير والسودان، لان العالم العربي والإسلامي الذي شارك بإسقاط فلسطين، وشارك بإسقاط العراق، وإسقاط أفغانستان، والذي ما زال يرسم الخطط لتضييع ما تبقى من فلسطين، وكأنها ملك أيمانهم أو ملك عائلاتهم، فهذا يقدم مبادرة عربية من اجل تطويب ارض فلسطين للصهاينة مقابل أن يعترف الاستعمار بحقوق الشعب المنكوب، وذاك يرعى مؤتمر لتقويض حركات التحرر والمقاومة واجتثاثها من أصول جذورها، وذاك الذي يقمع أي محاولة تحول بين الشعوب والتطبيع مع استعمار حرق وخرق الأرض والإنسان العربي والمسلم حتى وصل إلى أقصى درجات البؤس والهزيمة والانحطاط والهوان.
مثل هؤلاء لا يسألون عن كرامة أو دفاع عن كرامة، فهذا اكبر وأعلى من حجمهم، ومن كينونتهم ووجودهم، ولكن يمكنني كفلسطيني أن اسأل، لماذا لا يصل كرم من يفاوض للتنازل عن فلسطين أن يقدم أرضه أو جزء من أرضه للصهاينة حتى يقيموا دولتهم ووجودهم على أرضه بدلا من تنصيب نفسه وصيا على نكبة وآلام الشعب الفلسطيني؟
أنا اسأل فقط، لأصل إلى مرحلة النفاذ للواقع الذي لا يمكن تجميله أو تزويره، وهذا الواقع لن يتصل بأي شكل من الأشكال باستفسار عن سبب تنشط المحكمة الدولية لطلب الرئيس عمر البشير، ولم تتجرأ، أو حتى تفكر لتتجرأ على الإشارة من قريب ومن بعيد، إلى ما حدث من مجازر في فلسطين والعراق وأفغانستان والباكستان، فهذا سؤال بحكم الواقع، لا بحكم الأحلام العربية والإسلامية، محرم تحريما لا يمكن الوصول إلى مستوى قدسية حرمته وجلالته.
لكن أريد أن اصف نموذج العدو، ونموذج العرب والمسلمين.
نموذج العدو، هو الصهيوني جلعاد شاليط، الذي وقع بأسر حركة حماس، فهو بالنسبة للقيادة الاستعمارية، ودون أدنى شك أو مواربة، أغلى وأعظم واكبر قيمة من طغمة الحكام العرب، بما يملكون من جيوش وامكانات، بل هو أعظم من الأمتين العربية والإسلامية، والدليل البسيط على ذلك، أن اسمه ذكر على السن زعماء العالم، كشخص يجب تحريره، وإعادته إلى أسرته بأقصى سرعة ودون قيد أو شرط، وانخرط قادة العرب وقادة المسلمين لتأكيد هذه الحقيقة بطرق وألفاظ مختلفة، وشارك المثقفون بما يملكون من وهج الفكر المتفجر إلى استخدام حبائل إبليس من اجل دفع الضرر عن الشعب الفلسطيني، مروجين لفكرة إطلاق سراحه، ووصل الأمر بقيادة العدو إلى ربط فك الحصار عن مليون ونصف المليون في القطاع بإطلاق سراحه.
أليس علينا أن نعترف للعدو، بأنه قادر على جعل الفرد من شعبه يشعر بتفوق قيمته واصله وانتماءه؟ أليس من حق اليهودي أن يشعر بالعزة، حين يكون الفرد مساويا لأمة بأكملها؟
لا أريد الخوض بتفاصيل قد تصل بي إلى استخدام مقارنات تحتاج إلى ألفاظ من قاموس العهر والانحطاط، ولكني أريد العودة للعلماء والمثقفين من الأمة الإسلامية.
فهذا يفتي بإرضاع الكبير، والتبرك ببول الرسول عليه الصلاة والسلام، وذاك يقود فتوى بإباحة زواج الفتاة متى بلغت التاسعة من عمرها، وذاك يفتي بالزواج العرفي أو زواج المسيار، وكثير غيرهم مشغول بشرح الوضوء وكيفية الصلاة، وطبيعة السجود والركوع.
ولكن عندما يتعلق الأمر بالحاكم، أو بالاستعمار، فلن تجد من هؤلاء إلا محرفين وموالين، يأولون حسب إرادة الحاكم والاستعمار، مغفلين الخوف من الله جل شانه واليوم الآخر.
أما حكامنا وجيوشنا فليس ابرع منهم ولا احذق، بقصف رقاب كل من تسول له نفسه أن يشعر بشيء من كرامة، أو فهم صحيح للدين، حتى وصل الأمر بالمواطن العربي إلى درجة من الهزيمة والانطواء تتساوى وتتساوق مع عبيد العصر الجاهلي.
ذاك ما يمنح العدو لفرده، وهذا ما نمنح نحن لأفرادنا، فهل هناك من تشابه أو تساوق؟
قبل أن اختم مقالتي، سأذكر القارىء بعزيمة ونخوة أمية بن خلف، حين صعد بلال رضي الله عنه ليقتله، ظل أمية للحظة الأخيرة التي سبقت موته، بل وحتى الشهقة التي ودع بها الكون، ظل وفيا لحمية الكفر والشرك، حاملا ارث الكرامة العربية التي تخرج حتى لحظة الموت لتسود النهاية، قال أمية لبلال: لقد ارتقيت مرتقا صعبا يا رويعي الغنم، المرتقى الصعب هو صدر أمية، ورويعي تصغير للراعي، فكيف يجتمع الرويعي مع عظمة صدر أمية، هذا ما خطر ببال أمية قبل أن يفارق الحياة بهنيهات.
أنا اختلف مع أمية بكل شيء، ولكني احترم رجولته وشهامته، احترم قدرته على تقدير نفسه، رغم الموت المسرع إليه، أليس في هذا المشرك الجاهلي نخوة وكرامة وعزة اكثر مما في الأمة العربية والإسلامية مجتمعة؟
أما أنت يا سيادة الرئيس المطلوب للاستعمار وأدواته القانونية، لك الله، فلا تخذلنا أكثر مما فينا من تخاذل وهوان، وتفكر بان تطلب نخوة زعيم أو عالم أو مفكر عربي أو إسلامي، وأما انتم أيها الزعماء بلا زعامة، والعلماء بلا أمانه، والمثقفون بلا ثقافة، فهناك جحور للفئران، لا تحاولوا الإندساس فيها كي تبقى بطهارتها وعفتها، فهل هذا طلب عسير.
مأمون احمد مصطفى
فلسطين – مخيم طول كرم
النرويج – 4- 3- 2009