نَوْحُ بَاك
... فآثرها أكثرهم دونه، وأقبلوا عليها متهافتين ناهمين، بعد أن انفضوا من حوله، وتركوه قائماً تنزف عيناه على فراقهم ألماً وحسرة وأسى، ويسيل فؤاده عليهم شفقة ورحمة ورأفة، فلم يصف له من صحبة سوى وجه فئة قليلة طيبة أبت إلا إجابة دعوته والبقاء إلى جواره، ولم ترض بغير الثبات على المعروف بدلاً، وكرهت المضي في ظلمات الباطل، بقدر ما أحبت التمسك بالحق والسير في ركابه ...
لم تكن بذات خلُق رفيع يضرب به المثل أو بذات سيرة حسنة من شأنها أن تخلد ذكرها، وأما هو فلم يكن يوماً فظاً غليظ القلب، أو بذي نهج أعوج وصاحب سنة سيئة، ولم تكن بذات حسن وجمال تغبط عليهما أو تحسد من أجلهما، وأما هو فلم يحدث أن افتقر إلى منتهى الحسن، أو حرم غاية الجمال، ولم تكن بصاحبة حسب ونسب يغريان الكيس اللبيب بالسعي في طلبهما، ولا حتى السفيه الجاهل بالموت في سبيلهما، وأما هو فبغير الحسب الكريم لم يقترن مذ كان، واسمه لم يلازم قط سوى النسب الشريف ...
لم تكن بسيدة مال وفير، ولا بذات ثروة صغيرة أو كبيرة، تبعث من يجري في الدنيا جري الوحوش، ومن يطمح إلى تكديس القناطير المقنطرة من الذهب والفضة على الطمع في الاستزادة من كنزهما، وأما هو فدأب بزهده ووقاره أن يظل عيناً للقناعة والغنى لا ينضب ماؤها، وحرص بحكمته ورويته على أن يبقى قلباً للثراء لا يجف عوده ...
لم تكن بذات الدين القويم التي يود الظفر بها من يسأل العليم الخبير تجارة لن تبور، وأما هو فما يزال اليوم ومنذ كان وسيبقى لساناً طلقاً للدين السوي لن تغيب شمس فصاحته، وقلباً للفطرة مشرقاً على الدوام بنبضه، وريحاً طيبة مرسلة لن يذهب عرفها وكرمها وجودها سدى بين من هم أهل لها وأجدر بها ...
د. عبد الفتاح أفكوح - أبو شامة المغربي