مقهى بُـوجِّـشْــــتر
إلى محمد عطاف ومقاهِيَّ
كتابة : عـلاء الدين رمـضان
الخطوات المفاجئة .. ،
تهصر دهشة قصوى لمصير الريح ..
والريح محكومة بالشرفات المشرعة ،
ورهان العتمة ..
طريق الغبار الذي يمد الروح بنافلة الجسد .. ،
يرسم تحت الجذور جفاف دقائقه ..
وسكوت الفزع ..
صمت تشوهه أخاديد الرياح التي تمخر أحجبة الوحدة والفراغ
خطوات مفاجئة
تهصر دهشتي للطريق ..
وتدنو
فأبحث عن غيمة الانبهار التي ظللتني .. ،
هنا ..
خطوة مفاجئة ..
في طريقي
خطوة نحو منتصف العمر ترقص كما الضوء إذ يختبي خلف أوراق الشجر ..
الكافور الذي قام باتجاه السماء ..
وهزته أشواقه .. ،
فارتعشَ .. ،
ككفٍ تلوح بانبعاثي من جديد .. ؛
مفتوحة للريح والأعين المجهدة ..
أو لدهشة تناثرت تحت أقدامها ..
خطوات مفاجئة ..
خطوات مفاجئة
تتدفق في صفائي ..
فيشتعل الصمت بالثرثرة ..
وتجثو الأصابع في مخابئها القديمة ..
تكتب على صفحة الصدر شفرة الذاكرة ..
فتجرّني شهوة الطرقات والمنازل القديمة
لزاوية متوهجة بالدفء والمحبة في المقهى القديم ..
أجلس ملتحفاً بالجذور وبالذاكرة ..
ملتحفاً بحزني المقيم وسمت الردى ..
ضجيج الحوادث .. ينداح حولي بددا ..
ولكن .. لا أحد
يظل هسيس المدينة يمخر صمت المكان ،
وأنا ساكن في مكاني هنا .. ؛
أستعيد صراخ الوحشة .. ،
وضجيج الحزن ..
كآبة العمر الذي أفرغ ذاكرة تائهة من بقاياها وغنى للفراغ قصيدة مشهودة في الأسى :
حسبي من الذكرى الذي ما إن بدا أشجاني
أنـا لا ألـوم بك الرؤى أو أستخـف زمـاني
وحيداً يخرج من روحي ..
على جسد الصمت يجثو ..
( أنا ) ..
يطقطق أصابعه ..
فتلفُّ المكان قبلة من أريجٍ .. ترنُّ
تجوب بوابات روحه المقفلة ..
تائهاً في مروج العزلة .. ، يتمدد جسد العاصمة على أرض المقهى .. ساكناً كحقيبة الارتحال ..
يئنُّ ..
يلف الأنين ..
فيرتد للروح وخزة ثانية ..
ها هو المقهى مشرع الأبواب ..
والمدينة ساكنة عند أقدامه ..
والضوء يغمرني ( أنا ) ..
وأنا معي ..
وسوى الكآبة ..
لا أحد ..
ما ثم سوى شارع يتمطى ..
أغشاه فيسحبني إلى مسكني .. ،
والحزن يقرع في الروح نيران التذكر .. ، والغواية ، والفنا
وأنا ..
لا أحد
لا أجزم بالموت ، ولا تساندني قرينة للحياة
إنني حطام يمر على مدينة نائمة
ليس يبقيه
مصلوباً بالمودة
واقفاً على نزوات أحلامه ،
منتصباً باتجاه الطريق ..
سوى مِنْسَأَةِ الانتظار
والعمر المفعم بالرجاء الضليل ..
لا غير بهجة عجوز تساند تلك البقايا حين تندفع جاهدة في الطريق ،
تغمرها نشوة الانعتاق من مكيدة الوحدة الجارحة .. ،
في البيت بعض الأحبة والأصدقاء القدامى ..
فيه الضجيج ..
والزحمة الخانقة ..
فيه سعال المؤذن يصعد إلى الله أشجار محبته .. ، وينادي للصلاة ..
فوق مئذنة باتجاه الريح والنافذة ..
فيه زوج .. ، ومودة .. ، وألف طعنة نافذة ..
الطريق الذي يحملني إلى مشرق العمر ثانية ..
يفتح في الروح نافذة كي تطير إلى الهسيس المقدس في زاوية المقهى .. ، والحديث الطموح عن خطوتين حميمتين ..
واحدة للشعر ..
وأخرى للا أحــــد
فالقصيدة دافئة كالمودة .. ،
حانية كاقترابي من البيت ، حيث الذين تمنوا على الروح جوهرها .. وأبت ..
فسوى القصائد ..
لا أحـــد ..
يزوي عراء الطريق قليلاً .. قليلاً .. ،
يتناثر فرحي على شجيراته العاريات .. ،
فلا تهزها الريحُ .. ،
ولا ورق للاهتزاز .. ،
ولا عمر لتدق في القلب رعشاتها من جديد ..
ولا ساعة للتقصي ..
هنا أستعيد رائحة الاشتعال من جديد ..
أعود إلى رعشة الفضفضات
تحاصرني بالسؤال عن النغمة الشاردة ..
عن الفكرة التي توهجت بالبكاء
عن الانحناء للمودة ..
عن الانبهار
عن الروح مسجونة في سواد النهار عن الذاكرة .. ، ومحمومة بالصهيل في المساء ..
تسكنني بالخيبة الموجعة ..
لكنني لن أشرع الرحيل بين كفيها .. ،
ولن أشرد الرجاء ..
سأقذف احتمال الرحيل من النافذة
وأغمرها بالجنون الذي سيغلف وحدتها من جديد ..
فيقشر عنها قطمير الخوف ..
ويملأُ الطريق بالخطى المفاجئة ..
خطوات مفاجئة في آخر العمر ..
تقرع أبواب الطريق ..
وتهصر دهشتي نحوها
تندب في الروح ثانية أخاديدها
تهرول جاهدة باللهاث الذي أذكره
خطوات مفاجئة ..
في آخر العمر
تقرع أبواب الطريق ..
تمر .. ،
تمرُّ عليَّ ..
وأنا .. لا أحد .. *
ـــــــــــــــــــــ
بُوجِّشتر: مساحة للرهبة الخجول والحزن لمقيم في هولندا